رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

هل أُعيد على جارى؟…عدمية السؤال وعبثية الإجابة

أكثر صفة يتنادى بها المسيحيون، والمسلمون فى بر مصر هى «يا جارى»، تعودنا أن نسمعها منذ الصغر فى قريتنا، إضافة إلى «عمى» و«خالى» عندما يكون الخطاب من الصغير للكبير، تتنوع العلاقات

بين المسلمين والمسيحيين، فالمسيحى جار أخوالى يصبح خالي، أما جار أبى فهو عمي، هكذا كنت أنادى عمى حبيب ساويرس الذى أصبح حفيده فارس شوقى حبيب أخى من الرضاعة، فقد أرضعته أمى مع أختي، وهكذا كنت أنادى عمى كامل سيدهم الذى ظل يذبح أضحية العيد الكبير، مكبرًا بصوت جهوري، لجدى وأبى حتى مرض ولزم البيت عليه رحمة الله، وهكذا أمرنى أبى عندما كنا معا فى الحج «أشترى جلابية وطاقية وشال لعمك قلدس»، الذى اشترط أن تكون هديته من محل مجاور للكعبة، وليس محلا بعيدًا عنها، وظلت هذه الثقافة حاضرة معنا نحن أبناء الريف، خصوصا من الجنوب، ففى صيف ١٩٨٢ أديت التدريب العسكرى فى الجامعة مع ثلاثة من زملائى من الصعيد محيى الدين محمد قاسم، وعلى موسى، وعماد جاد، وكنا أغرابا فى القاهرة؛ نسكن شقة فوق سطوح بيت فى منطقة بين السرايات، وكان شهر رمضان، وأصر عماد جاد بدرس بدروس أن يصوم معنا، وكان واحدًا منا كل ليلة، يجلس معه فى الشقة، ولا يذهب لصلاة التراويح ويصليها منفردا، هذه هى مصر، ونحن شعبها أيتها الكائنات الفضائية الهابطة علينا من السماء، والتى تسأل دار الإفتاء عن جواز تهنئة اخوالنا وأعمامنا وجيراننا وإخواننا بأعيادهم.
مع مجىء هذه الكائنات من وراء البحر محشوة بالريالات، أثوابها قصيرة، وذقونها طويلة، تضع فوق رؤوسها طُرحًا بيضاء شبيهة بالعجائز من النساء، تلوى ألسنتها، ويخرج نصف الكلام من أنوفها، كأنها خنفاء، أو مصابة بلحمية، تتكلم فى الدين بدون سابق إعداد، أو تكوين، كل منهم صفته شيخ؛ حتى وإن كان قد ودعناه عند السفر طبيبًا بيطريًا، أو مهندسًا زراعيًا، أو دبلوم صنايع زخرفية، عاد الجميع شيوخًا، وقد دخل العلم عقولهم من شعر ذقونهم، وتوسعت معارفهم بقدر ما ضاقت وقصرت ثيابهم، جاء هؤلاء المتشيخون يراجعون بدهيات حياتنا، فبدأوا بالمساجد، وأعادوا تحديد القبلة فى كل مسجد؛ ليثبتوا للناس أنهم كانوا يصلون على غير القبلة، وأن صلاتهم السابقة غير مقبولة، أو ناقصة، أو فاسدة، فلا تكاد تجد مسجدا إلا وامتدت فى ارضيته حبال خضراء، أو أشرطة بلاستيكية زرقاء تحرف الناس عن القبلة، وقد نجحوا فحرفوا المجتمع عن قبلته، أى حرفوه عن وجهته، فالقبلة هى الوجهة، وهى الاتجاه، وهى البوصلة المجتمعية، اصبح المجتمع المصرى تائهًا فى الصحراء، ضائعًا، ضالًا الطريق، يسأل عن كل شىء، وكأنه لا يعرف شيئًا، كأنه لم يعرف الإسلام من قبل، فأصبح المصرى يسأل عن أبسط البديهيات؛ التى كان الفلاح الأمى يفعلها بكل ثقة، واستقرار نفس، على أساس أنها الحقيقة المطلقة، والصواب الذى لا يدانيه الشك، فقدنا المسلمَّات

وأصبحنا نسأل المتشيخين، أو الشيوخ عن البديهيات، ولم تعد هناك مسلمات، أو قواعد مستقرة من الأعراف والعادات، بل إن العرف الذى هو مصدر للشريعة الإسلامية تم تجاوزه وبصورة تامة، وكأن مصر دخلها الإسلام مع مجىء هذه الكائنات.
هذه الحالة الدينية الصفرية، التى تبدأ من أبسط المسلمات، وأكثر البديهيات استقرارًا، خلقت وضعًا ثقافيًا عدميًا، يقوم على افتراض وجود فراغ كامل فى مصر، وكأنه لم يمر بها عالم، ولم يستقر فيها مسلم على أبسط درجة من علوم الدين، كل شىء يبدأ من الصفر، من العدم، لأننا مع هؤلاء المتشيخين نؤسس الإسلام فى مصر اليوم، لأنه لم يكن موجودا بالأمس، وصدق الدكتور صفوت حجازى عندما قال إن الإسلام دخل مصر مع الرئيس محمد مرسي، لان حالة العدمية الصفرية هذه تجدد مع كل قادم، طالما أن مصر على خط الصفر دينيًا وثقافيًا.
وللأسف لم يتصد أحد من العلماء الحقيقيين لهذه الحالة، لأنها قادت المصريين للجوء إلى المؤسسات الدينية مثل الأزهر، ودار الإفتاء، وهو ما أعطى انطباعا بحالة من التدين المصحوب بعودة الاعتبار للمؤسسة الدينية الراسخة، وهذه الحالة تسعد هذه المؤسسات والقائمين عليها، وتشبع الرغبة السلطوية المستقرة فى نفوس دارسى الفقه التى تدفعهم للهيمنة على حياة الناس، وتوجيهها، لأن دارس الفقه، وهوعلم عملي، يتناول فى دراسته كل جوانب الحياة الإنسانية، وتتولد لديه رغبة فى السيطرة على الحياة الانسانية؛ رغم أن علمه لا يتجاوز الاستثناءات منها، هذه الرغبة السلطوية عند الفقيه أشبعها هذا التوجه العدمى الصفري؛ الذى يخضع البديهيات للسؤال، لذلك تكون غالبا الإجابات عبثية، لان الإجابة تقدم تبريرًا ساذجًا، مبنيًا على حجج وأدلة تاريخية، وكأننا فى فراغ اجتماعي، أو أننا التقينا بالمسيحى المصرى على محطة القطار، أو فى المطار قادما من بلاد ما وراء الزمان، ولم نعرفه أو نعاشره قبل اليوم، ولذلك نسأل هل يجوز أن نعيد عليه؟!!.