رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

خازوق المماليك فى ميدان الساعة

دخل عيادة الجراح الماهر، إتفق الجميع على أنه أفضل من يقوم بجراحة البواسير، حاول ان يجلس بهدوء وبزاوية خاصة جدا فلا يثير امواج الألم من جديد ، لولا نظرة الناس لكان إصطحب معه عوامة الأطفال التى يجلس عليها هذه الأيام إتقاءً للألم المبرح،

ألم لا يعرفه سوى من جربه .وبالرغم من كونه إنسانساً عادياً وليس ملاكاً منزلاً، لا يتمنى ان يجربه أحد فى الدنيا، لكن..بعد بعض التفكير ربما يتمنى أن يجربه من يحدثه عمداً بالناس فى عمليات التعذيب الممنهج ليجرب الألم و المهانة، تذكر وقتها ما سيمر به داخل غرفة الكشف و مغصت بطنه، لابد أن يتناسى الألم والكشف ويتمشى قليلا، أخذ يتمشى فى صالة العيادة المزدحمة وهو ينظرمن شباك العيادة المطل على ميدان الساعة فى إحدى المحافظات، عامود طويل وعريض فى وسط الميدان الحيوى وبالجزء الأعلى الساعة. نظر إليها طويلا وهو يتذكر أستاذ نصر أستاذ التاريخ فى ثانوى الذى حكى لهم أن أيام المماليك كان فى مكان الساعة قديما خازوق! نعم! خازوق إستخدمه المماليك الذين تولوا إدارة حكم البلاد الداخلية طويلا حتى بعد الغزو العثمانى لتعذيب وقتل المجرمين ومثيرى الشغب والأعداء والثائرين على الأنظمة، فلايصح أن يُقتل الشخص مباشرة بل عليه ان يتعذب ويهان بما يكفى والناس من حوله بينما يمر العامود الصلب من تحته الى اعلاه يقطع فى أوصاله ببطء حتى يخرج من كتفه أو رأسه فينتهى تماماً..شعر الرجل بآلام جديدة لاسعة وصلت الى  رأسه وظلت تئن هناك بإنتظام دون توقف.نظر للساعة الطويلة مرة أخرى وحاول ان يتخيل كيف تجمع الناس حول المحكوم عليهم بالموت بهذه الطريقة فلابد أن يشهد عذابه بقية الناس حتى يكون عبرة لمن يعتبر وحتى تظل الدقائق الرهيبة محفورة فى الأذهان فلا يفكر مجنون فى الخطأ أو فى الثورة وتظل الأمور تحت السيطرة. ومع مرور الوقت ولأهمية الميدان الجغرافية فى الربط بين الشوراع تم بناء الساعة مكان الخازوق ولايتذكر أن استاذ التاريخ قد قال لهم متى تم ذلك..الحق انه ليس متاكداً الآن من معلومات أستاذ التاريخ ومن الوارد ان يكون قد إخترع القصة برمتها، رغم أنه لوكان فعل فهو يثبت موهبته الحقيقية، وما التاريخ سوى قصص تُروى لنا من وجهة نظر راويها لا يعلم مدى دقتها سوى الله. يمد يده الى جيبه ويخرج كيس المسكن الفورى ويذيبه فى كوب بلاستيكى فى قليل من الماء من مبرد المياة فى زاوية الصالة .العيادة ممتلئة عن آخرها وكثير من المرضى يتصرفون مثله تماماً يقومون ويقعدون بحرص شديد وبزوايا خاصة ويتجاهلون أصوات المرضى المتألمة بالصياح  من غرفة الدكتور، يجرون المكالمات الهاتفية ، أو يخرجون سبحة ويبدأون بالتسبيح  أو يقلبون فى مجلات قديمة متربة أو يبداون كلاما تافهاً من من حولهم. ربع ساعة ويبدأ الألم تدريجيا فى الزوال، عليه أن يملأ هذا الوقت إذن بشئ يلهيه حتى ينسى. الممرضة تقلب فى قنوات التليفزيون حتى تصل الى محطة قرآنية لن يختلف عليها إثنان من المرضى حتى لو لم يكونوا مسلمين. "والله يابنتى احسن كلام هو كلام ربنا..إحنا إستوينا من كلام التلفزيون.كلام كلام كلام لما مخنا ورم. ولافى كلام بيودى ولاكلام بيجيب ولا فى كلام بيرخص الأسعار ولا كلام بيوفر السولار" توقفت السيدة المسنة بعد ان لاحظت السجع التلقائى فى كلامها وأُعجبت به وقررت التأنى بعض الشئ خاصة يعدما لاحظت أن كثير من الموجودين فى العيادة بدأوا يصغون السمع لها. " يفرق ايه أحمد من عمر، شفيق ولا مرسى ولا صباحى، وحيعملوا ايه فى الحوسة اللى احنا فيها؟ هو حد حاسس بالناس ولا حد منهم بينداس؟ أهى هوجة وخلاص." بدأ الرجل بالتململ من السيدة بعد ان لاحظ إستراتيجيتها فى قتل الوقت وربما الألم الداخلى الذى ينكد عليها عيشتها ولا تستطيع ان تفتح فمها وتقول "آه..يا..نى" كانت تتحرك ببطء ما بين الشباك ومكتب الممرضة فى محاولة مكشوفة لتجنب الجلوس. لكن ما يخيفه هو ما بدا له من بعض المرضى من إستعداد للمشاركة فى الحديث. سيكون حديثاً سفسطائياً لا طائل

منه. وقد يتطور الحديث تحت تأثير الإنتظار الطويل وآلام الناس السفلية الخلفية وصدمة الإنتخابات الأخيرة الى مشادة حامية لا يعلم نهايتها سوى الله. كان من الواضح أن العيادة اليوم قد جمعت كل طوائف الشعب فى شكوى جماعية من البواسير والشروخ ، فالملتحى موجود بلحيته على صدره ،والقبطية موجودة بصليبها اللامع والمتكبرون بصمتهم الجامد والورعون بسبحهم والشباب بحماسهم و المسنون بسأمهم والجميع بخوازيقهم الشخصية بادية على عضلات وجوههم وإصفرار لونهم عند سماع المريض يتأوه داخل غرفة الكشف.كل منهم قد حضر بعد ان عاند نفسه او نفسها طويلاً وحاول بكل الطرق الممكنة الا يأتى ..ولكنه اتى.
نظر الى الساعة فى وسط الميدان مرة أخرى وتذكر أ. نصر وهو يستعرض تاريخ المصريين منذ أيام الفراعنة مرورا بالمماليك والعثمانيين. الغلب ، الإستسلام ، القبول. النهب، النصب، هل كان أ.نصر يائساً ام ثوريا ؟ هل تحمل له الساعة من الشباك رسالة عبر عقود من الزمن؟
"يقولون ان البواسير والشروخ تعود مرة أخرى وتحتاج الى عمليات جديدة" قال الرجل و هويحاول أن يغير من دفة الحديث فى الصالة ويرجعهها الى محورها الأصلى وهو سبب وجود كل هذه الناس فى مكان واحد. وبالفعل قد نجح.إنطلق الجميع يتحدث فى هذه النقطة ويؤيدها بحوادث عائلية مماثلة أو ينفيها بذكر أنواع ادوية سحرية أو بالشكر فى الدكتور ومهارته مع رفع الصوت فى هذه الجزئية والحرص على أن تسمعه الممرضه عسى أن تثتنيه من الدور وإبتسم الرجل وهو يراقب إتجاه الحديث الجديد وخاصة بعد أن بدأ المسكن فى العمل وشعور الراحة اللذيذ يتسلل الى جرحه. وظل فى حالة التسلية هذه حتى قرر الرجل ذو الوجه المتجهم و الذى ظنه متكبراً ان يتكلم وقال " لابد من أن تغير أسلوب حياتك تماما حتى لا تعود البواسير أو الشروخ وأن تربى أولادك على نظام مختلف من الأكل والشرب والرياضة حتى لاينتقل لهم الشرخ بالوراثة" وصمت. وبدا أن الجميع  يوافقه الراى أو يصدمه الراى فلم ينطق احد.
" أستاذ....دورك..إتفضل" قام الرجل وبطنه تمغص.ألقى نظرة أخيرة على ميدان الساعة .منذ ان كان فى ثانوى وسمع حكاية الخازوق من أ. نصر مدرس المواد الإجتماعية وهو يحاول أن يفهم كيف يمكن لإنسان يأكل ويشرب ويحب وينام و بضرورة الحال يتألم مثل كل الناس أن يفعل هذا بإنسان آخر يأكل ويشرب ويحب وينام وبضرورة الحال يتألم مثل كل الناس..لم يفهم أبدا. وبينما هو يخطو الى غرفة الطبيب ويراه  من فتحة الباب يرمى قفازه البلاستيكى فى صندوق القمامة ويغسل يديه بالمحلول المعقم ، رنت فى أذنه كلمات الرجل المتجهم: "" لابد من أن تغير أسلوب حياتك تماما حتى لا تعود البواسير أو الشروخ".