رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

شعب لا يعرف السكوت

الشعب المصرى شعب ذكى، لكن آفته أنه لا يعرف السكوت! إنه يتكلم حباً فى الحياة وتقديراً لمتعها، يتكلم إعلاناً للوجود وبحثاً عن الذات، يتكلم دون أن يُدعى لحديث وإن لم يُصغ إليه! يتكلم ويتكلم حتى يأتيك من روحه الطيبة بهجة وسرور وإن لم يعجبك كثير مما يقول. لذلك عُرف المصرى بخفة الظل لكنه عُرف أيضاً بكثرة الفُتيا بعلم وبغير العلم. فالناس فى مصر يفتون فى كل شئ،

فى الدين والسياسة والاقتصاد والهندسة..يُعينهم على ذلك متعة يجدونها فى الكلام، وثقافة مشوّشة اكتسبوها فى مجالسهم لفرط ما يسمعون بها من قيل وقال. فإذا الذى جالست بالأمس تملأ أذنيه بمعلومات عن البورصة –مثلاً- أصبح اليوم خبيراً فى شئون سوق المال، يتحدث عن الأسهم وحركة التعاملات وكأنه ولد محللاً مالياً! وإذا الذى زار الطبيب مرة لخلع ضرسه، وقد حسب نفسه طبيباً للأسنان يحدّثك عن طرق الوقاية والعلاج! وإذا الذى حضر جلسة استماع برفقة محاميه يأتى فى الجلسة التالية فرداً، وكأنه لا حاجة له بمحاميه، وكأنما صار هو المحامى والقاضى لو شئت! كلها صور نراها يومياً، ولا يفوتنا أن نذكر بعضاً مما نشاهده فى برامج رمضان التى تحاور الناس فى الشارع، فيأبى الرجل منهم أن يقول لا أعلم ويمضى فى حديث الإفتاء مثيراً للسخرية وللشفقة أحياناً. أذكر تلك النقيصة اليوم لا مُعرّضاً بهذا الشعب العظيم الذى أنتمى إليه ويصيبنى من آفاته وعلله ما يصيبه، ولكنها قراءة فى بعض عيوبنا التى نريد أن نتخلّص منها حتى نُقيم بلداً جديداً يُصغى فيه المصرى أكثر مما يتكلم، فالإصغاء فضيلة تنقصنا وشفاء لكثير من أمراضنا.

المشكلة إذن لها شقّان: الأول أننا نكثر الكلام والفُتيا بغير علم، والثانى أننا كالإسفنج نمتص كل ما نستمع إليه دون وعى أو إصغاء، نمتص أقوال العلماء والدهماء فلا نميّز بين هذا وذاك، نفتقر إلى العقلية الناقدة التى تعرض الأمور على عقل يفكر ويتدبّر، عقل يأخذ ويرّد، هذا العقل الذى أودعك الله أمانة من دون الخلق كى تُعمله، فلا يصدأ ولا يبلى فيما لا ينفع الناس.

لذا تكثر فينا الأقوال الشائعة وتمضى بنا المفاهيم الموروثة -وإن كانت خاطئة- إلى حيث نتخلّف عن ركب الأمم. فأصبح لدينا أرض خصبة لنمو الشائعات ولازدهار الأقاويل المرسلة، يغّذيها نهم على الكلام، ويرويها ترديد للأراجيف بغير تدبّر ولا تبصّر.  وإذا كانت دعوى التلفيين -ولا أقول السلفيين حباً فى السلف الصالح وتنزيهاً لهم- تلقى رواجاً فى كثير من ربوع مصر خاصة الفقيرة والمُعدمة، فإن علة ذلك –بخلاف تأليف القلوب بالمال- غياب العقل الناقد واكتساب العلم من غير أهله، لمجرد أن المعلّم المزيّف يضع قناع التقوى من لحية طويلة وسروال قصير إلى غير ذلك من مظاهر كان الخوارج على عهد علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه يتسربلون بأكثر منها، لكن هذا لم يمنعهم من التطاول على آل البيت وتكفير الصحابة الكرام.

العجيب أن هؤلاء التلفيين قد فطنوا إلى سر نجاحهم وشيوع أفكارهم الظلامية، فعمدوا إلى منع الناس من إعمال العقل خشية أن يرشدوا إلى أكاذيبهم ورواياتهم التى لا يقبلها عاقل، ولأن التلفيين فقراء علم وعقل، فقد لجأوا إلى طريقتهم المثلى لتحقيق هذا الهدف، وتلك الطريقة بالقطع

ليست الحجة وإقامة الدليل ولكن استنطاق القرآن والسنة بما يفيد الطاعة العمياء وترك العقل عند باب المسجد! أرجو ألا يُساء من حديثى هذا من نحسبهم على هدى السلف الصالح، ولا يصنّف القارئ الكريم نفسه معهم ما لم يكن منهم.

التاريخ أيضاً لم يسلم من آفة الإفتاء حتى ما ثبت من أحداث بسيطة لم يختلف حولها المؤرخون. كنت فى ميدان التحرير ذات يوم، وبينما أتحدث إلى جمع لا أعرف منهم أحداً، إذا بشيخ يعترضنى ويُسفّه قولى عندما جئت على ذكر جمال عبد الناصر وقلت أنه كان وزيراً للداخلية! الرجل لا يريد أن يُثنينى عن قولى فحسب، بل ظل يؤكد أنه عاصر تلك الفترة، وأن هذا الذى أزعمه لم يحدث أبداً، وأننى لا أعلم شيئاً على الإطلاق! والتف جمع من الناس فبرز منهم من رأى فى صوته العالى دليل قوة فانحاز إليه بثقة تامة نافياً أن يكون عبد الناصر قد شغل هذا المنصب من قبل! ولحسن الطالع كان من بين الحشود شاب أنصفنى على استحياء، فإذا الذى انحاز للشيخ يحيد عن رأيه فى ثوان وينتمى إلى طائفتى، وهو فى ذلك لا يعرف لماذا انحاز إلى الشيخ أولاً ولماذا انحاز إلىً بعدها! لكنه أثبت أنه موجود، وأنه يتكلم، وأنه شاهد على هذه المحادثة، بل وكان له رأى فيها! ربما يقول قائل هذه معلومة تاريخية تفصيلية لا يعلمها الكثيرون، لكن ما أغضبنى ليس غياب المعلومة عن الشارع، وإنما تطرّف البعض فى نفيها بجهالة، وتحيّز البعض الآخر ضدها أو معها بجهالة أيضاً.

إننا على أعتاب مرحلة اشتقنا إليها منذ سنوات، فكنت أحدّث نفسى وأصحابى عن صورتنا نحن شباب المصريين فى أعين أبنائنا بعد أن رضينا أن نلبث فى عذاب فرعون المهين كل هذه السنين، وكنا نتمنى أن نرى اليوم الذى نسقط فيه فرعون بأيدينا لا أن يأخذه الله إليه، وشاء المولى تعالى أن نغيّر ما بأنفسنا فغيّر ما بنا ومنحنا شرفاً عز أن تحصل عليه أعظم الأمم، ألا فدعونا نستثمر هذه اللحظة ونحوز الفضل والشرف، دعونا نترك القول بغير علم، ثم نُصغى وننقد بينما نتعلّم.