رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

اقتصـاد الثـورة

 

بينما تتواتر الأنباء عن متانة الاقتصاد المصرى على إثر ثورة يناير المباركة، تظل الوقائع تشى بأن اقتصادنا يمر بمرحلة من السيولة وعدم اليقين شأن مستقبلنا السياسى، وهذا النوع من التحديات لا يدعو إلى الخوف بقدر ما يدعو إلى التدبّر والتفكير.

ولست فى مقام المحلل لاقتصاد مابعد الثورة وتداعيات المد الثورى، لأننا ببساطة مازلنا فى قلب أحداث الثورة، ومازالت فظائع الفساد المالى والإدارى تتدفق يومياً وتحصى بالمئات. فماذا ينتظر المواطن العادى من الحكومة فى هذه المرحلة الضبابية؟

المكاشفة كانت دائماً بداية موفّقة لأية دولة تريد أن تؤسس لنظام جديد، والأمر لا يحتاج إلى اقتصاديين أو إلى مراجعة التجارب الدولية فى هذا الشأن، فالحكمة البسيطة لعلاج أية علّة تقتضى تشخيصاً صحيحاً لتلك العلة.

وإذا كان اقتصاد أية دولة يشتمل على مجموع الأنشطة المرتبطة بإنتاج وتوزيع السلع والخدمات داخل نطاقها الجغرافى، وكذلك الاستخدام الأمثل لموارد تلك الدولة، فإن أنشطة الإنتاج والتوزيع ظلّت فى معظمها حكراً على حفنة من المنتفعين بموارد مصر، التى استمرت نهباً لصنابير الفساد المفتوحة عن آخرها لعدة عقود.

فأراضى الدولة تخصص بملاليم للمحاسيب وذوى السلطان. المصانع والشركات والأراضى الزراعية لا تدر عائداً مجزياً إلا على من استطاع أن يتخذ لنفسه وأهله موقعاً فى هرم النفوذ، وإلا أوصدت امامه أبواب التراخيص وأثقل بالضرائب المزدوجة والتعنّت الإدارى ..إلى غير ذلك من عقبات تضع المنتجين أمام خيارين أحلاهما مر، فإما الرضوخ إلى منظومة الفساد أو الهجرة من البلاد، والخاسر فى النهاية هو اقتصاد الوطن. بالطبع لم تكن مصر كلها تدار على هذا النحو، فلكل قاعدة شواذها ممن تحصّنوا بالمبادئ والشرف، فارتطمت رؤوسهم بأسقف عفنة لا يجوزها إلا من كان مكسوّاً بالفساد من رأسه إلى أخمص قدميه. تلك فقط نماذج للتعامل مع موارد الدولة وأدوات الإنتاج لا يتسع المقام لحصرها.

كم صدّعنا أصحاب الفكر الجديد بمعدلات النمو المتزايدة، وتهافتهم على بلوغها مبلغ ما حققته الصين إبّان نهضتها الأولى. والنمو فى الناتج المحلى الإجمالى (لغير المختصين) هو ببساطة نمو فى حجم ما ينتجه المجتمع من سلع وخدمات خلال العام، فلماذا ازداد الفقراء فقراً والأغنياء غنى؟ لأنهم ببساطة أغفلوا جانب التوزيع واعتمدوا على إثر التساقط trickle down effect والذى يشير باختصار إلى بلوغ السائل (عائدات النمو) أسفل الهرم لو أنه أفرغ فوق قمته. حقيقة الامر أن عائدات النمو ظلت محصورة فى القمة، لأن هرم هؤلاء المنتفعين له جيوب ضخمة تختزن الناتج المتزايد ثم تفرغه عبر صنابير فسادهم فى حساباتهم البنكية داخل وخارج البلاد. أين الدولة إذن من كل هذا؟ كانت الدولة عبر مؤسساتها المختلفة راعياً لهذه السرقات، وكانت أمانة السياسات بالحزب الوطنى توزّع عائدات النمو كيفما شاءت على المحظيين وميليشيات التوريث، ولا عزاء للمواطن البسيط الذى ضاعت حقوقه فى غيبة برلمان يمثّله ويرد له بعضاً مما سُلِبَه.

يبقى السؤال الرئيس الذى يطرحه المقال، ما هى أولويات البناء الاقتصادى بعد سقوط النظام؟

يجوز الاجتهاد فى الإجابة على هذا السؤال إذا أمكن أولاً أن نجزم بسقوط النظام!، فمؤسسة الفساد مازالت بشخوصها ونظمها تعبث بمصالح المواطنين. بالفعل تغيّرت أولوياتها، فلم تعد تأتمر بفرمانات أمانة السياسات، ولم تعد رموز الفساد فى النظام السابق مناط اهتمامهم ورعايتهم، لكنهم مازالوا بعيدين عن تحقيق مصالح المواطنين فشاغلهم الأكبر الآن المرور من عنق الزجاجة بأقل الخسائر، عبر طمر الحقائق والمستندات الفاضحة لتاريخهم الأسود، فإذا ما هدأت الثورة ومحاكماتها عادوا أدراجهم ليستأثروا بثروات البلاد دون أسيادهم القدامى، وربما وجدوا مخدومين جدداً فى اقتصاد مابعد الثورة.

بينما انشغل الناس بالتبرّع للاقتصاد!! ودعم البورصة!! لم يجدوا من يخبرهم شيئاً عن حقيقة الاقتصاد وطبيعة البورصة. فاقتصادنا غارق ممزّق بين أنشطة إنتاجية وتوزيعية قوامها الفساد والرشاوى، وبين موارد مبدّدة ومبعثرة هنا وهناك. من ثم

لا يمكن أبداً الوقوف على الحقائق التى تساعدنا على تحديد وضعنا الاقتصادى، ناهيك عن تحديد احتياجاتنا لدعم هذا الاقتصاد. فمحاكم الفساد مازالت تستقبل يومياً عشرات القضايا التى لم يصدر بشأنها حكم واحد بعد، والنائب العام تفرّغ لاستقبال بلاغات فساد النظام الساقط. علماً بأن معضلة هذه المحاكمات تكمن من وجهة نظرى المتواضعة فى تقنين الفساد فى العهد المبارك، حيث عكف ترزية القوانين على وضع مخارج لكل عمل فاسد أثرى به المحاسيب، حتى صار الفساد ورماً خبيثاً فى جسم النظام لا ينفصل عنه إلا بالجراحة.

أما البورصة التى هى مرآة للاقتصاد تعكس حقيقته والتوقعات المستقبلية بشأنه، فقد أغفل أصحاب الدعوة بدعمها حقيقة أنها تعمل فى ظل سياسة الاقتصاد الحر الذى لا يقبل التدخل المباشر، كذلك سرعان ما يتحوّل أى تدخل فى البورصة إلى تشوهات سعرية تضرّ بالمتعاملين أكثر مما تفيد. كما تناسى الداعون إلى دعم البورصة حقيقة أن المرآة لا تعكس صورة جميلة لاقتصاد مشوّه ولا ينبغى لها أن تفعل. وإذ يختزل البعض نجاح البورصة فى ارتفاع مؤشراتها السعرية دونما تمحيص لطبيعة التعاملات وجودة البضاعة (الأسهم والسندات فى هذه الحالة)، فإن هذا القصور فى الرؤية لا يضيف إلى مشاكلنا سوى مشاكل جديدة ولا يعالج التشوهات إلا بالمسكنات.

فبضاعة كافة أسواقنا تعوزها المصداقية والشفافية، ومؤسسات الدولة التى تحكم العملية الإنتاجية والتوزيعية والاستثمارية يعوزها الإصلاح والتطوير بل والمحاسبة، وأولويات البناء الاقتصادى السليم تضعنا أمام خيار وحيد جوهره إعادة هيكلة العلاقات الاقتصادية ومراجعة الإطار التشريعى والتنظيمى الذى يحكم عوامل الإنتاج، لسد كافة بؤر الفساد وتجفيف منابعه.

هل معنى ذلك أن نهدم ما هو قائم كى نبدأ من الصفر؟ بالقطع لا فالعطب لم يطل كل حبة من تراب مصر، ولكن التعامل مع اقتصاد الثورة وما بعد الثورة بمنطق تسيير الأعمال وتسوّل التبرّعات، لا يكفل سوى لقمة العيش التى بالكاد يمكن توفيرها أياماً أو أشهر، بينما نريد لجاناً تجمع بين مختلف التخصصات من غير ذوى السلطة والمصالح المتعارضة، للوقوف أولاً على حجم وطبيعة الأضرار التى لحقت بالاقتصاد المصرى، ووضع سيناريوهات الإصلاح، ثم وضع استراتيجية للبناء خلال خمس سنوات قادمة، فى إطار استراتيجية عشرية ورؤية أطول أمداً.

قد يرد البعض بأن مراكز ومعاهد الدراسات تغص بالباحثين، أقول بل تغصّ غالباً بالموظّفين، بينما نريد أصحاب الرأى الحر والتخصص فى آن، كما نريد أن تطرح أعمال واستراتيجيات وخطط تلك اللجان عبر قنوات الحوار الوطنى لاستطلاع الرأى حيالها ثم وضعها موضع التنفيذ.

*خبير اقتصادى