رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

المسرحية

كل القنوات الفضائية كانت تعد لهذه الساعة، إنها ساعة النطق بالحكم فى محاكمة القرن كما أطلقوا عليها! والقرن اصطلاحاً عند عوام المصريين يشير عادة إلى "الدياسة" فالرجل "الديوس" يسمونه "قرنى" من باب التفكّه والإهانة. فى ساعة النطق بالحكم فى محاكمة الرئيس المخلوع "مبارك"

اصطف المشاهدون أمام القنوات الفضائية، بينما يتم إعداد المسرح فى كواليس البرامج الحوارية ذات الأهواء والنقل على الهواء. هذا برنامج يأتى بصفوة النخب السياسية والقانونية للتعليق على الحكم وأجوائه من وجهة نظر تميل إلى المحافظة، وذاك يأتى بنخبة أخرى بتشكيل مماثل لكن هواها ثورى ومزاجها يميل إلى الحدة، وآخر يحاول التوسّط بين النقيضين.. وهكذا.
بدأت قاعة المحكمة تستقبل الناس لنحو ثلاث ساعات من صباح يوم السبت الثانى من يونيو للعام 2012، وما إن دخلت هيئة المحكمة (وكان الرئيس آخر الوافدين إلى القاعة كعادته البروتوكولية فى مؤتمراته الشهيرة!) حتى بدأ القاضى كلامه بتهديد الناس برفع الجلسة إذا أحدثوا ضجيجاً! ولما انصاع الجمع وأصغى بدأ يقرأ خطاباً تمهيدياً لحكمه التاريخى، وكانت الكارثة التى يستحق عليها مبارك وحكمه ونظامه الإعدام عن حق أن السيد المستشار الذى أوشكت خدمته على الانتهاء لا يضبط نحواً ولا يعرف صرفاً ولا يقرأ القرآن كما نعرفه!! فحضرتنى على التو صورة من التاريخ لرجال القانون فى مصر الملكية، سواءً كانوا فى هيئة القضاء أو الادعاء أو الدفاع، كم كانت خطبهم ترتج لها قاعات المحاكم، ماذا لو أن صاحب هذا الخطاب سعد باشا زغلول أو مكرم باشا عبيد أو فكرى بك أباظة؟ بالتأكيد كان من الممكن أن يبكى خاطبهم المصريين عشر مرات قبل النطق بالحكم، لكن الرياح تأتى بما لا تشتهى السفن، وظل سيادة القاضى "أحمد رفعت" يغتال اللغة العربية حتى جاءت لحظة النطق بالأحكام.
لست هنا فى مقام المعقّب على أحكام القضاء، لكننى بصدد المسرح الذى أعدته بعض برامج القنوات الفضائية لاستقباله، فالحكم غم تفسيره على فطاحل رجال القانون فى كل مكان عدا قناة فضائية يتيمة تنتمى مذيعتها الأشهر إلى الحزب الوطنى المنحل بامتياز، فقد كان لديها ضيف انضم فى السابق إلى هيئة الدفاع عن "مبارك" ومن قبله "ممدوح اسماعيل" صاحب كارثة العبّارة الغارقة، هذا المحامى العادى (إن جاز الوصف) هو الوحيد الذى استطاع فك شفرة الحكم فى أقل من دقيقة من إلقائه، وكأنما أعد له وقرأ من بين سطور الحكم كلاماً لم نفهمه نحن البشر من العوام أو المتخصصين على السواء، فاستطاع أن يدرك أن الحكم يخفى فى ثناياه التشكك من الطرف الخفى الذى أشعل كل شئ، والذى مازال كبار الشهود فى المحاكمة يخفون هويته على حد زعمه، هذا الطرف ينتمى إليه قتلة الثوار وحملة السلاح الذين لم يكونوا بالطبع من رجال الداخلية ولا النظام، ويبدو أن صاحبنا قد استبق مشهداً كان موضعه نهاية المسرحية حين بدأ بالتلويح بأن الطرف الثالث الشهير أوشك على الوقوع، وبالطبع كلنا نعرف أن هذا الطرف سيكون فى آخر فصل هو الإخوان وبعض السلفيين، خاصة إذا ربطنا بين تحليلات هذا "الأفوكاتو" العبقرى وبين حوار الإعلامى "جهاد الخازن" (ذى الإطلالة اليومية الجديدة فى إعلامنا) مع السيد "عمر سليمان" منذ أيام. 
كذلك وفى سياق التعليق على أحداث محاكمة القرن استطاع الفضائيون الأفذاذ لملمة قصاصات الأحكام وقرارات الإحالة من محاكم مصر المختلفة لطمأنة الشارع من أن أحداً ممن حكم له بالبراءة فى تلك المحاكمة لن يخلى سبيله إلا قليلاً، وكان

أهم هؤلاء المحجوزين نجلا الرئيس المخلوع "جمال" و"علاء" اللذان شاءت المصادفة البحتة أن تتم إحالتهما للمحكمة فى دعوى من دعاوى سوق المال (هى على الأرجح جنحة بسيطة) قبل موعد النطق بالحكم فى قضيتهما الكبرى بيومين!! يا ألله إنها عناية السماء تنزل على مسرح القنوات الفضائية لإشعال الصراع فى لقطة فارقة ثم إخماد الجماهير بعدها بلحظات، وبالطبع كان من الضرورى تدارك هذه الدراما البشرية بالقرارات التقليدية للنائب العام بالطعن على أحكام البراءة أمام النقض، فضلاً عن قرار شكلى لامتصاص غضب الجماهير عادة ما يتم ادخاره للأوقات الصعبة وهو نقل مبارك إلى سجن المزرعة (بعد تحويل مشفاه بالطبع إلى فندق خمس نجوم)، ولا يفوتنا أن ننتبه إلى هذه اللفتة الرائعة، فقد صدر قرار النائب العام بنقل مبارك إلى "سجن" طره لا إلى "مستشفى" السجن كما حدث بالفعل، ويا ليت عملية النقل المسرحية تمت بهدوء، لكن الرجل تشبث بمقعده فى الطائرة، وأخذ يصرخ كالأطفال لمدة أربع ساعات :"مش نازل هه"، إلى أن كادت الحبكة تفشل من صانعى الحدث، فاضطروا إلى استدعاء "جمال" و"علاء" من الكواليس (أقصد من المحبس) لإقناع "بابا حسنى" بالنزول من الطائرة على وعد بالعودة إلى الحكم فى القريب العاجل!.
القاضى "أحمد رفعت" إذ يقدم طى منطوق حكمه أسباب نقض الحكم! يقدّم أيضاً اتهاماً صريحاً لأدلة الاتهام وشهادة الشهود، فهو يدين النيابة العامة ويتهمها بالتقصير، وكذلك يدين الداخلية التى سبق أن تذرعت النيابة نفسها بعدم تعاونها وتقصيرها فى جمع أدلة الاتهام!، أى أن نظام "مبارك" أراد أن يحاكم نفسه فخرج الحكم بالبراءة على مرحلتين: إحداهما عاجلة بحكم الجنايات، والأخرى آجلة عبر محكمة النقض.   
الشعب الذى يراهنون على سذاجته وصبره لم يأكل الوجبة الفاسدة وأفشل مساعيهم، نزل الناس بمئات الآلاف فى الشوارع والميادين ينددون بهذا الكبر الذى تسبب من قبل فى إيقاذ الثورة، نعم الكبر الذى أبى أصحابه أن يسلمون قتلة الشهيد "خالد سعيد" إلى المحاكمة وكانوا من المخبرين! فتسبب ذلك فى سقوط رأس نظامهم وأوشك أن يأتى على باقى النظام، هذا الكبر هو الذى حال دون تقديم قضية حقيقية لإدانة جنرالات "مبارك" و"العادلى" الذين طغوا فى البلاد فأكثروا فيها الفساد. لكن المحاكة العادلة قادمة لا محالة، وسوف يقول الشعب كلمته ولو كره المفسدون.