رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الثوار و«الفلول» .. مشاهد ولقطات

حين اندلعت شرارة الثورة كنت مازلت بمنزلي أستعد للخروج إلي عملي، وإذا بي أسمع صوتا يتعالي كهدير الموج يأتي من بعيد ثم يقترب تدريجيا بهتافات مدوية تنادي بسقوط نظام مبارك..

حين أصبحت المظاهرة علي بعد خطوات من منزلي كانت زوجتي بالشرفة المطلة علي الشارع تبكي وتدعو للثوار بالنظر وبجانبها ابنتي التي كانت تفعل نفس الشيء ولكنها بحاستها الصحفية صارت تلتقط صورا نادرة وتسجل ما يحدث بالشارع من تلاحم وتوحد يتحولان الي قوة جبارة تزيح أمامها أعتي النظم وأكثرها شراسة وجبروتا وتشبثا بالسلطة وتفننا في مظاهر الفساد والظلم والقهر لشعب لم يفهمه لا الحاكم ولا خدامه من «فلول» النظام.. أما أنا فوجدت نفسي أجري علي السلم دون انتظار للمصعد لكي أنضم للثوار في مسيرتهم متوجها الي التحرير أهتف حين يهتفون وأغني حين يغنون.. عاد إليّ شبابي وشحنت بطاقة هائلة مستمدة من طاقة الشباب حولي، طاقة تتجاوز طرق القياس التقليدية المعروفة تضيء القلوب والنفوس بإشعاعات تملأ الفراغ الكوني كله بين السماء والأرض، وخلال المسافة ما بين بيتي في المعادي حتي ميدان التحرير عشت دراما إنسانية رهيبة لا يمكن أن يصل الي الإبداع في صياغتها بأمهر كتاب السيناريو في العالم الي مستوي حركتها وتفاعلها وأحداثها.. اختار بعض المشاهد التي تعبر أبلغ تعبير عن المعدن الأصيل النادر للشعب الذي لم تفهمه عصابات عصر مبارك الذي كانوا يحكمون في عالم خيالي من صنعهم داخل قصور وفيلل وضياع واقطاعيات داخل أسوار عالية تحجب صاحب الأرض وتحول بينه وبين وصول صوته الي المغتصب الذين لا يريد أن يسمع أو يري إلا ما يحب.. أفعل ذلك بغرض إبراز المفارقة الساخرة لمشاهد من محاكمة رأس النظام ورموزه رسمتها ريشة التاريخ بمهارة فائقة لكل من يريد أن يتعظ ويتعلم كيف تحكم الشعوب.

المفارقة الأولي أن النظام اعتمد في محاولة كسر شوكة الشعب «وتدجينه» وترويضه علي قبول الظلم بخلق دائرة جهنمية بحجم مصر كلها يتقاتل الناس فيها علي لقمة العيش ويسعون بلا كلل لتوفيرها لهم ولمن يعولون ويقنعون بحد الكفاف منها فلا يعود لديهم وقت لكي يصبحوا تهديدا يهز عروش النظام وسدنته كانوا يعتقدون أن الناس يمكن أن تضحي بأي شيء في سبيل لقمة العيش فإذا بي أري نفس هؤلاء الناس من أصحاب محال البقالة التي مررنا بها في طريقنا الي التحريريلقون الينا بزجاجات المياه المعبأة وقطع الحلوي والمأكولات المغلفة وهم يهتفون ويصفقون تعبيرا عن مساندتهم ومؤازرتهم للثورة وشحنا لهمم الثوار في أول استفتاء شعبي لحظي في التاريخ، مطالب الثوار إذن تتجاوز الجري بلا توقف وراء لقمة العيش وتسمو عليها بل إن عجوزا تبيع الفاكهة علي عربة يساعدها ابنها أخذت تزغرد بينما ابنها يلقي اليّ بحبات اليوسفي تعبيرا عن فرحه ومشاركته للثوار.. هؤلاء أناس بسطاء ضحوا بلقمة العيش وتحرروا من

الخوف من عدم توافرها وأصبحوا ثوارا تعنيهم مصروليس حياتهم الخاصة.. في المقابل - ومهما قيل عن المعاملات الخاصة لرأس النظام وذيوله - لم يعد لهؤلاء من أمل سوي العيش والإفلات من العقاب والاستعداد للرضا بأقل القليل لو نجح «بهلوانات» القوانين بدلا من «ترزية أو إسكافية» القوانين الذين كانوا يعتمدون عليهم في إنفاذ مشيئتهم خلف واجهة قانونية يحتمون في تخفيف الحكم عليهم أو تبرئتهم من بعض التهم الموجهة اليهم.

المفارقة الثانية كانت حين مررنا بقسم بوليس يهتف «سلمية.. سلمية» فإذا بالضباط والجنود يصطفون أمام القسم يصفقون لنا ويشيرون بأصابعهم بعلامة النصر وقد علت وجوههم ابتسامات حقيقية نابعة من القلب.. نفس الضباط والجنود الذين كانوا  «بالأمر» يستخدمون أدوات قمع وإرهاب وتخويف لنفس المواطنين الذين يصفقون لهم اليوم، وهم أنفسهم كذلك من يضعون القيود الحديدية في يد الظالم في رحلات متكررة للتحقيق معهم داخل سيارات الشرطة التي كانت تستخدم «لتعبئة» كل من يتجرأ علي رفع صوته في وجه النظام وشحنه الي مصيره المجهول في سجون ومعتقلات النظام التي كانت محجوزة فقط للشعب الي أن تبدل الحال وأصبح الظلمة يزاحمون الشعب في سجونه.. لا يهم الآن إذا كانت زنازين السادة مكيفة أو أكثر اتساعا، أو أن بعض أصحاب الأيادي والذمم المرتعشة لايزالون يعاملونهم بتوقير واحترام لا يستحقونه أويخافون من وضع القيود الحديدية في أيديهم عند نقلهم للمحاكمة.. المهم أن السجان قد أصبح سجينا خلف القبضان يحميه المسجون الذي ذاق مرارة الظلم لثلاثة عقود ومع ذلك يوفر لسجانه معاملة أفضل ومحاكمة عادلة.. أما القفص فكان قمة الدراما حيث يرقد رأس النظام الذي قدم صحفيا للمحاكمة وكاد يحبسه حين تجرأ وتحدث عن صحته لولا قضاء مصر الشامخ.. رأس النظام الآن «يتاجر» بتدهور صحته - ربما بنصيحة ممن ينالهم جزء من الغنائم - لكي يفلت من العقاب وسبحان مغير الأحوال.