رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

انتفاضات الشعوب...ومشكلة الفهم المتأخر

من أبرز دلالات المشهد التونسي ما قاله الرئيس "الهارب" زين العابدين بن علي في آخر حديث تليفزيوني له قبل أيام قليلة من هروبه " لقد فهمت التونسيين وفهمت مطالبهم"

، والغريب أنه فهم ما يريده شعبه بعد أن استنزف ثلاثة وعشرين عاماً حكم خلالها تونس بقبضة من حديد.

وجاء فهم الرئيس الهارب متأخراً، وكذلك جاء الرئيس التونسي المخلوع نموذجاً كاملاً لأمثاله من الحكام الذين لا يفهمون حقيقة مطالب الناس وشوقهم إلي الحرية والديمقراطية والعيش في أمن في ظل دولة تحترم القانون وحقوق الإنسان، يسودها القانون الذي تنص الدساتير عادة علي أن المواطنين كلهم أمامه سواء.

لقد تأخر زين العابدين بن علي في فهم ما يجري في بلده الجميل " تونس الخضراء" والتي أحالها نظام حكمه إلي "تونس السوداء" حزناً علي ضياع الحقوق وانتشار الفساد وسطوة الديكتاتورية وتردي أحوال المعيشة لأغلبية الناس فيها.. وتجلي عدم فهمه في ردود فعله الأولي عند بداية ثورة الشعب الغاضب عندما وجه خطاباً إلي الشعب التونسي يوم العاشر من يناير أنحي فيه ـ كالعادة  ـ باللوم علي "أطراف خارجية" و"عصابات ملثمة" و"أياد لم تتورع عن توريط التلاميذ والشباب العاقل في الاضطرابات" ووصف ما يجري في بلاده بأنه »عمل إرهابي".

ولما لم تجد هذه المحاولة من جانبه في صرف الأنظار عن الأسباب الحقيقية لثورة التونسيين، عاد ليلقي باللائمة علي بعض المسئولين مدعياً أنهم "ضللوه" وهو عذر أقبح من الذنب الذي حاول التنصل منه، وفي ذلك الخطاب أعلن إقالة وزير داخليته ثم أقال الحكومة وحل البرلمان واعداً الناس بجنة ديمقراطية وارفة سينعمون فيها بالحرية والتعددية الحزبية واستقلال الإعلام ، وكرر أنه سيسمح بمناخ ديمقراطي كما سيترك الحكم في 2014، ولن يجدد الترشح لفترة رئاسية جديدة، كما أعلن أنه سيحدد سناً أقصي لرئيس الجمهورية لا يجب أن يتعداه إلي آخر ما تضمنه خطابه اليائس من وعود زائفة أدرك الشعب الثائر زيفها، فأصر علي ضرورة إبعاد هذا الرئيس الذي احتاج إلي ثلاثة وعشرين عاماً حتي يفهم ماذا يريد الشعب.

وتبدو ظاهرة الفهم المتأخر شائعة في نظم الحكم التي كان النظام التونسي المنهار يمثلها، فالحكام يتصورون أنهم يعلمون أكثر من شعوبهم، هم الأكثر علماً والأعلي حكمة، وهم أصحاب الرؤية الصائبة والقرارات السديدة والأحكام التي لا يتسني لغيرهم التوصل إليها، وهؤلاء الحكام أقوالهم يرددها أبواق الإعلام الحكومي علي أنها درر يتم ترديدها في كل مكان، تؤلف الأغاني في مدحهم وتعقد الندوات لمناقشة مصادر حكمتهم، وتوصف قراراتهم وأفعالهم دائماً بأنها " تاريخية".

ويظل هؤلاء الحكام علي أوهامهم تلك حتي تقرع آذانهم صرخات الناس في الشوارع يطالبونهم بالرحيل، وهنا قد يدرك بعضهم الحقيقة ويفهم ما يدور حوله، ولكن الغالبية منهم تأخذهم العزة بالإثم ويستمرون في غيهم حتي تضطرهم شعوبهم إلي الفرار الجبان علي طريقة بن علي التونسي أو يصيبهم علي أيادي شعوبهم ما هو أشد وأنكي.

ومما يثير الأسي أن يطلع علينا العقيد القذافي ـ الذي يحكم ليبيا منذ واحد وأربعين عاماً ـ بحديث مستفز توجه به إلي الشعب التونسي ـ وهو في الحقيقة يخاطب شعب ليبيا ـ دعا فيه إلي السماح بعودة الرئيس المخلوع، وقال إنه ليس هناك أحسن منه في هذه الفترة، معبراً عن ألمه لما وقع في تونس، وقال القذافي: إنه كان من الأفضل ترك بن علي في الحكم ليس إلي عام 2014 عندما تنتهي فترة رئاسته فحسب، بل مدي الحياة أيضا، علي حد تعبيره، وأضاف أن تونس تعاني من إراقة الدماء وانعدام القانون لأن شعبها تعجل بشكل كبير جدا في التخلص من الرئيس المخلوع، منتقدا أعمال العنف التي تعرفها البلاد، وتابع "ألم يقل لكم زين العابدين إنه بعد ثلاث سنوات لا أحب أن أبقي رئيسا؟ إذن اصبروا لمدة ثلاث سنوات ويبقي أبناؤكم أحياء، ألا تستطيعون أن تصبروا".. وهكذا نري أن ظاهرة الفهم المتأخر ليست قاصرة علي رئيس تونس المخلوع، بل يشاركه فيها آخرون!

ومن تصاريف القدر أن يقع انهيار نظام زين العابدين بن علي في تونس في فترة تتزاحم الأحداث وتتعقد فيها الرؤي في الأيام الأولي من عام جديد كانت بدايته مؤلمة للشعب المصري تمثلت في جريمة العدوان علي كنيسة القديسين بالإسكندرية، تلاها حادث إطلاق نار عشوائي علي ركاب قطار الصعيد، لتتفجر حالة شديدة من الغضب الشعبي لم تعكس فقط الآثار المباشرة للعدوان علي الكنيسة، بل وامتدت لتشمل مجمل الأوضاع غير المريحة التي يعيشها المصريون.

وتبارت الأقلام وتعددت الأحاديث في تشريح الحالة المصرية والتنبيه إلي خطورة الاحتقان المجتمعي الذي يتخذ لنفسه في بعض الأحيان شكل الاحتقان الطائفي، ولكن الحقيقة التي لا تغيب عن إدراك كل منصف في هذا البلد أن المصريين مسلمين ومسيحيين سواء في الشعور بالظلم المجتمعي والغضب من

ممارسات الحزب الحاكم المنحاز لصالح رجال الأعمال وأصحاب الثروة والجاه المتصلين بالسلطة والحزب الحاكم.

ولعل المصريين، وهم يشاهدون ما يجري في تونس، يتذكرون أنه في مثل هذا الشهر منذ ثلاثة وثلاثين عاما وقعت أحداث مشابهة يومي 18 و19 يناير1977 حين كانت انتفاضة الشعب المصري غضباً من قرارات عشوائية أصدرتها الحكومة بتخفيض الدعم، ومن ثم رفع أسعار سلع اساسية يعتمد الناس عليها في حياتهم من دون تمهيد أو مراعاة للظروف الاقتصادية الخانقة التي كانت ذ وما تزال ذ تحيط بالمصريين، واندفع أفراد الشعب البسطاء يعلنون رفضهم لمجمل السياسات والممارسات الحكومية التي أوصلتهم إلي مستويات غير مسبوقة من الفقر والبطالة وسوء الأحوال المعيشية، ووقعت أحداث تدمير وحرق ونهب وسلب قام بها غاضبون لم يجدوا من يسمعهم أو " يفهمهم" فتصرفوا بالطريقة الوحيدة التي يملكونها ، وهي التعبير المنفلت عن الغضب. ويومها "فهم " الرئيس السادات غضبة الشعب علي غير الحقيقة، ووصف انتفاضة الغاضبين بأنها »انتفاضة حرامية«، تماماً كما يوصف الغاضبون الآن بأن »أياد اجنبية« تحركهم.

وقد أثارت أحداث تونس جدلاً في أوساط كثيرة في دول، ومنها مصر، تتشابه ظروف الناس فيها وما يعانونه من مصاعب ومشكلات حياتية بدرجة أو أخري مع ما دفع التونسيين إلي ثورتهم الغاضبة، ويتردد السؤال المنطقي " هل يمكن أن تتكرر أحداث تونس في بلاد عربية أخري؟ وهل يمكن أن تتطور مظاهر الاحتقان المجتمعي في مصر لتصبح بشكل أو بآخر علي نهج ما حدث في تونس؟ والإجابة الأمينة المخلصة لكل من يحب مصر ويخشي عليها من تأثيرات الاحتقان والغضب الشعبي التي تتراكم وتتصاعد وتبدو لها مؤشرات وإنذارات متكررة هي أنه يجب علي أهل الحكم مراجعة مجمل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تراكمت علي مدي ثلاثين عاماً سيطر فيها الحزب الوطني الديمقراطي علي الحكم ووصل إلي حد إقصاء أهم قوي المعارضة بتزوير فاضح لإرادة الناخبين في انتخابات مجلس الشعب الأخيرة.

إن المصريين يطالبون أن يكون لهم الحق في اختيار من يحكمهم ويمثلهم في المجالس النيابية من خلال انتخابات نزيهة شفافة، فهل هذا كثير؟

ويطالب المصريون بالحق في نصيب عادل من ثروة وطنهم والمشاركة بالعدل في عائد التنمية الذي يذهب جله إلي فئة معدودة من أصحاب الثروة تذكرنا بمجتمع النصف في المائة التي قامت حركة ضباط الجيش في يوليو 1952 للتخلص منها واستعادة حق الشعب المغتصب، فهل هذا كثير؟

ويتمني المصريون أن تكون لهم الكلمة الأعلي في شئون وطنهم باعتبارهم أصحابه الحقيقيين من دون وصاية أو استعلاء من الحكام، فهل هذا كثير؟

ويريد المصريون أن يتمتعوا، شأن غيرهم من عباد الله، بمسكن ملائم، ومياه شرب نظيفة، وشوارع آمنة، وخدمات تعليم وصحة مقبولة، وفرص عمل حقيقية، فهل هذا كثير؟

ويريد المصريون أن يعيشوا في مجتمع يلتزم أمر الله سبحانه وتعالي »وتلك الأيام نداولها بين الناس«، ويأملون أن ينصاع أهل الحكم لأمر الحق "أن تؤدوا الأمانات إلي أهلها " وبأن "تحكموا بين الناس بالعدل«، فهل هذا كثير؟

ومن الغريب أن ذات الأمنيات والمطالب تلك هي التي كانت وراء ثورة المصريين ضد الاستعمار الإنجليزي وأعوانه من الحكام المفترض أنهم مصريون، فما أشبه الليلة بالبارحة.