رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

مأساة كنيسة الإسكندرية‮... ‬ونظرية‮ "‬الماس الكهربائي‮"‬

كانت جريمة التفجير في‮ ‬كنيسة القديسين بالإسكندرية فجر أول أيام العام الجديد ضربة قاسية نجحت في‮ ‬سحب انتباه المصريين من قضية تزوير الانتخابات التشريعية وتحويله بعيداً‮ ‬عن الوضع الغريب الذي‮ ‬نتج عن تلك الانتخابات بوجود مجلس شعب أحادي‮ ‬الاتجاه‮ ‬يسيطر عليه الحزب الوطني‮ ‬الديمقراطي‮ ‬سيطرة كاملة من دون أي‮ ‬صوت معارض‮. ‬ومن الأمور المسكوت عنها في‮ ‬كل ما‮ ‬يكتب عن واقعة الإسكندرية هو مدي استفادة الحزب الوطني‮ ‬وأهل الحكم بشكل عام من هذا الحدث الذي‮ ‬صرف الأنظار عما جري في‮ ‬انتخابات مجلس الشعب وغيرها من المشكلات والأزمات المجتمعية‮!‬

 

وإذا كان الانشغال الوطني‮ ‬العام بجريمة قتل مواطنين وهم في‮ ‬كنيسة‮ ‬يصلون ويحتفلون بحلول عام جديد قد فجّر‮ ‬غضب المصريين مسيحيين ومسلمين،‮ ‬فإن هذا الغضب‮ ‬ينبغي‮ ‬أن‮ ‬يتجه في‮ ‬الأساس إلي من تسبب في‮ ‬خلق الظروف التي‮ ‬ساعدت علي زيادة الاحتقان الوطني‮ ‬وليس فقط الاحتقان الطائفي‮. ‬إن ما تشكو منه مصر ليس مجرد مطالب للمسيحيين لا تلتفت إليها الدولة مما جعلهم‮ ‬يشعرون بغياب تكافؤ الفرص وأنهم‮ ‬غرباء في‮ ‬وطنهم،‮ ‬وإنما الحقيقة أن المصريين جميعاً‮ ‬وضمنهم الأغلبية المسلمة‮ ‬يعانون من ذات السياسات التي‮ ‬أدت إلي تهميشهم وحرمانهم من المشاركة في‮ ‬تقرير مصير الوطن،‮ ‬كما حرمت أغلبية المواطنين من الحصول علي حقوقهم المشروعة‮.‬

إن الاحتقان الطائفي‮ ‬بين جماعات من المصريين المتشددين‮ - ‬مسلمين ومسيحيين‮ - ‬هو في‮ ‬الحقيقة نتاج سياسات وممارسات خاطئة استمرت سنوات طويلة تمثلت في‮ ‬غياب استراتيجيات واضحة ومدروسة لتطوير التعليم في‮ ‬جميع المراحل،‮ ‬وتعددت في‮ ‬السنوات الماضية‮ - ‬وحتي الآن ـ تجارب‮ ‬غير مدروسة في‮ ‬إدخال تغييرات علي نظم التعليم بتعدد وزراء التربية والتعليم بحيث تتغير السياسات والنظم مع قدوم كل وزير جديد ثم تنتهي‮ ‬بتركه الوزارة‮. ‬وقد شاهدنا جميعاً‮ ‬محاولات التطوير الوهمية للتعليم التي‮ ‬رعاها الحزب الوطني‮ ‬الديمقراطي‮ ‬وعقد لها المؤتمرات وأصدر عنها أوراقا عرضت في‮ ‬مؤتمراته السنوية والعامة وهلل لها المستفيدون الذين كانوا سرعان ما‮ ‬ينقلبون علي ذلك التطوير بمجرد تغيير الوزير وقدوم آخر بتطوير جديد‮. ‬

وعلي مر السنين أهمل الحزب الحاكم وحكوماته ووزراء التعليم المتعاقبون الاهتمام بدراسة المناهج ومحتوياتها الفكرية وما تصبه في‮ ‬أذهان الطلاب من مختلف الأعمار من أفكار ومفاهيم تشجع علي التعصب وتنمي‮ ‬فيهم رفض الآخر‮. ‬كما لم‮ ‬ينتبه الحزب وحكوماته ووزراؤه إلي المعلمين وما أصابهم من تغيير فكري‮ ‬وما‮ ‬يتعرضون له من مشكلات اقتصادية واجتماعية جعلت الكثيرين منهم ـ وفي‮ ‬غياب الإدارة التعليمية السليمة في‮ ‬العديد من المدارس ـ‮ ‬‭ ‬ينصرفون عن واجباتهم الأساسية والاهتمام بدورهم التربوي‮ ‬في‮ ‬المدارس،‮ ‬وانخرطوا في‮ ‬طلب الكسب السريع من خلال إعطاء الدروس الخصوصية في‮ ‬البيوت وفي‮ ‬المراكز المنتشرة في‮ ‬كل الأنحاء بعيداً‮ ‬عن المكان الحقيقي‮ ‬للتعليم وهو المدرسة‮.‬

وفي‮ ‬ظل هذا التهافت في‮ ‬العملية التعليمية،‮ ‬نمت أنماط من السلوك السلبي‮ ‬بين الطلاب من محاولات للغش الجماعي‮ ‬إلي اعتداءات متبادلة فيما بينهم تطورت لتصبح اعتداءات علي المعلمين أنفسهم،‮ ‬وانتشر تعاطي‮ ‬المخدرات في‮ ‬المدارس،‮ ‬وانهارت القيم الأخلاقية وسادت بين الجميع لغة سوقية متدنية مليئة بألفاظ وتعبيرات لا تنتمي‮ ‬إلي ثقافة وتقاليد هذا الوطن العريق‮.‬

وإلي جانب انهيار العملية التعليمية في‮ ‬المدارس،‮ ‬فقد أصاب الوهن والتفكك منظومة التعليم الجامعي‮ ‬وتم استلاب حقوق أعضاء هيئات التدريس في‮ ‬اختيار العمداء ورؤساء الأقسام بإلغاء نظام الانتخاب وفرض التعيين كأسلوب تتحكم به الدولة في‮ ‬اختيار‮ ‬غير المناوئين لسياساتها رؤساء للجامعات وعمداء للكليات‮. ‬وتمادت الدولة في‮ ‬التعدي‮ ‬علي حقوق أعضاء هيئات التدريس بالتدخل في‮ ‬انتخابات الأندية الخاصة بهم وعمدت إلي حل كثير من مجالس إدارة الأندية بالطريق الإداري‮ ‬وتعيين مجالس تتماشي مع أهواء أهل السلطة والحكم‮. ‬كما حرم الطلاب من إجراء انتخابات حرة ونزيهة لاختيار ممثليهم في‮ ‬الاتحادات الطلابية،‮ ‬وعاني الطلاب من ذات الآفات الانتخابية التي‮ ‬ابتدعها الحزب الحاكم في‮ ‬كل الانتخابات التشريعية من الاعتراض علي المرشحين من ذوي‮ ‬الاتجاهات المعارضة لسياساته والتلاعب في‮ ‬العملية الانتخابية واصطناع مشكلات تدعو الطلاب الجادين إلي الانسحاب من الانتخابات فيتم تعيين أعضاء الاتحادات بقرارات من عمداء الكليات‮.‬

وتتواصل عمليات خلق الاحتقان الوطني‮ ‬لتطال النقابات المهنية التي‮ ‬فرضت الحراسة علي بعضها لسنوات طويلة وتعطل إجراء انتخابات مجالسها لسنوات لتعقيدات إدارية مقصودة من جانب المعينين حراساً‮ ‬عليها،‮ ‬ثم تصدر الدولة القانون رقم‮ ‬100‭ ‬لسنة‮ ‬1993‭.‬‮ ‬والذي‮ ‬رفضته أغلب النقابات وعارضه المهنيون لسنوات طويلة وساهم في‮ ‬تعطيل الحياة النقابية السليمة حتي حكمت المحكمة الدستورية الأسبوع الماضي‮ ‬بعدم دستوريته‮. ‬فقد نصت المادة الثانية من القانون المذكور علي أنه‮ "‬يشترط لصحة انتخاب النقيب وأعضاء مجلس النقابة العامة أو الفرعية تصويت نصف عدد أعضاء الجمعية العمومية المقيدة أسماؤهم في‮ ‬جداول النقابة ممن لهم حق الانتخاب علي الأقل‮ ‬،‮ ‬طبقاً‮ ‬لأحكام قانون كل نقابة‮ .‬فإذا لم‮ ‬يتوافر هذا النصاب حتي نهاية عملية الانتخاب‮ ‬،‮ ‬يدعي أعضاء الجمعية العمومية إلي اجتماع ثان خلال أسبوعين‮ ‬،‮ ‬ويكون الانتخاب في‮ ‬هذه المرة صحيحاً‮ ‬بتصويت ثلث عدد الأعضاء علي الأقل ممن لهم حق الانتخاب‮ .‬فإذا لم‮ ‬يتوافر النصاب المنصوص عليه في‮ ‬الفقرة السابقة‮ ‬يستمر النقيب ومجلس النقابة في‮ ‬مباشرة اختصاصاتهما لمدة ثلاثة أشهر فقط ويدعي أعضاء الجمعية العمومية خلال هذه المدة لانتخاب النقيب أو مجلس النقابة بذات الطريقة‮ ‬،‮ ‬ويكون الانتخاب صحيحاً‮ ‬باكتمال النصاب المنصوص عليه في‮ ‬الفقرة السابقة‮". ‬

ولنا أن نتخيل كيف‮ ‬يمكن تحقيق هذا الشرط في‮ ‬حالة نقابة مثل التجاريين أو المحامين أو المعلمين والتي‮ ‬تتجاوز أرقام العضوية في‮ ‬كل منها أكثر من نصف مليون عضو،‮ ‬فكيف‮ ‬يمكن تجميع ربع مليون‮ ‬50٪‮ ‬أو مائة وخمسين ألف عضو‮ ‬33٪لتحقيق اكتمال النصاب حتي‮ ‬يتم انتخاب نقيب ومجلس نقابة مهنية،‮ ‬في‮ ‬الوقت الذي‮ ‬لا‮ ‬يشترط فيه هذا الشرط في‮ ‬انتخابات رئيس الجمهورية أو الانتخابات التشريعية أو المحلية‮! ‬ففي‮ ‬الانتخابات الرئاسية في‮ ‬2005‭. ‬لم‮ ‬يصل عدد الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم إلي نصف أو ثلث عدد من لهم حق التصويت،‮ ‬وكذلك في‮

‬جميع الانتخابات التشريعية‮!‬

وفي‮ ‬الوقت الذي‮ ‬يتم فيه تشكيل شخصيات الطلاب علي‮ ‬غير أساس علمي‮ ‬أو أخلاقي‮ ‬سليم،‮ ‬وتسهم برامج التعليم المتخلفة وأساليبه المتردية في‮ ‬تشويه أفكارهم وتعجز عن حمايتهم من مخاطر التطرف والتعصب والانفلات من إطار القيم المجتمعية والتقاليد والأخلاق،‮ ‬فقد تعاونت الممارسات‮ ‬غير الديمقراطية للدولة وأجهزتها في‮ ‬خنق حرية الاختيار وتعطيل فرص المهنيين‮ - ‬وأغلبهم من الشباب المتطلع إلي مستقبل أفضل‮ - ‬مما دفع الكثيرين منهم للارتماء في‮ ‬أحضان جماعات متشددة وكان ذلك في‮ ‬البداية درءاً‮ ‬لتغوّل السلطات عليهم ثم تطور الأمر ليصبح انتقاماً‮ ‬من السلطة،‮ ‬وأخيراً‮ ‬يصل البعض منهم إلي حالة الانقلاب علي المجتمع وأطيافه وقيمه وتقاليده‮.‬

وثالثة الأثافي‮ ‬هو الإعلام المنفلت،‮ ‬فالإعلام الرسمي‮ ‬الذي‮ ‬تسيطر عليه الدولة‮ - ‬أو إن شئت قل الحزب الوطني‮ ‬الديمقراطي‮ - ‬يسرف في‮ ‬تجاهل الواقع ويتغافل عن المصائب والكوارث التي‮ ‬تصيب المواطنين،‮ ‬ويجتهد في‮ ‬تبرير الأخطاء والإشادة بالمسئولين أياً‮ ‬كان تدني‮ ‬مستويات كفاءتهم،‮ ‬ويبالغ‮ ‬في‮ ‬محاولات تجميل الواقع وتزييف الحقائق‮. ‬والنتيجة أن فقد المواطنون ثقتهم في‮ ‬هذا الإعلام وانصرفوا عنه تماماً‮ ‬بحثاً‮ ‬عن الحقائق ليقعوا فريسة الشائعات والأقاويل‮ ‬غير المنضبطة‮ ‬يروّجها أطراف‮ ‬ينشدون أهدافاً‮ ‬خاصة لا تتصل بمصالح الوطن والمواطنين،‮ ‬بل هم‮ ‬ينشرون الفتن بين المواطنين ليتمكنوا من السيطرة وتحقيق برامجهم وأهدافهم علي حساب الوطن واستقراره ومستقبله‮.‬

وتنشأ وسائل إعلام خاصة سميت بالمستقلة‮ - ‬وأكثرها‮ ‬يعمل بتوجيهات من أجهزة في‮ ‬الدولة لتلهي‮ ‬الناس عن مشاكلهم وتعمل ليل نهار علي بث المتهافت والغث من البرامج وتحشد فيها كل مبتذل ورخيص من ألوان الغناء والتمثيل التي‮ ‬يتبرأ منها الفن الصحيح‮. ‬وتبدأ لعبة القنوات الفضائية الدينية ـ علي الجانبين الإسلامي‮ ‬والمسيحي‮ ‬ـ تنثر الفتاوي الهزيلة من‮ ‬غير المختصين،‮ ‬وتثير الفتن وتشجع علي التعصب والطائفية،‮ ‬والدولة وأجهزتها في‮ ‬غياب أو قل‮ ‬غيبوبة‮.‬

وتلعب المؤسسة الدينية الرسمية علي الجانبين الإسلامي‮ ‬والمسيحي‮ ‬دوراً‮ ‬ظاهرياً‮ ‬لا‮ ‬يتجاوز الزيارات المتبادلة بين رموز الجانبين للتهنئة بالأعياد وحضور حفلات الإفطار الرمضاني‮ ‬تقيمها الكنيسة أو حضور شيوخ الإسلام قداس عيد الميلاد في‮ ‬الكاتدرائية،‮ ‬ويتعانق الشيوخ والقساوسة ويتبادلون القبلات،‮ ‬من دون أن تعني المؤسستان الدينيتان‮ - ‬الأزهر والكنيسة‮ - ‬بدراسة الواقع وتحليل أسباب الاحتقان الوطني‮ - ‬والاحتقان الطائفي‮ ‬بعضاً‮ ‬منه‮ -‬،‮ ‬ومصارحة الدولة بأخطائها والقيام بدور إيجابي‮ ‬لإعادة هيكلة منظومة القيم الدينية والاجتماعية لإعلاء قيمة المواطنة الحقة‮.‬

والمحصلة التي‮ ‬لا بد من توقعها لكل هذا الفشل الحكومي‮ ‬هو انهيار القيم المجتمعية وانفلات السلوك العام وانتشار العشوائية الفكرية والضحالة العقلية لملايين البشر في‮ ‬هذا الوطن المغلوب علي أمره حتي تقع الواقعات من أحداث الخانكة في‮ ‬نوفمبر عام‮ ‬1972‭ ‬مروراً‮ ‬بأحداث الزاوية الحمراء في‮ ‬نفس الشهر والعام ثم حادثة الكشح‮ ‬يوم‮ ‬31ديسمبر‮ ‬1999‭.‬ونجع حمادي‮ ‬ليلة عيد الميلاد العام الماضي‮ ‬2010‭.‬‮ ‬وانتهاء‮ ‬بحادثة الإسكندرية ليلة الأول من‮ ‬يناير‮ ‬2011‭.‬‮ ‬وعلي الرغم من أن قانون الطوارئ كان سارياً‮ ‬في‮ ‬البلاد منذ العام‮ ‬1981ولا‮ ‬يزال‮ - ‬إلا أنه لم‮ ‬ينجح في‮ ‬منع أي‮ ‬من تلك الأحداث رغم الزعم الحكومي‮ ‬أنه ما فرض إلا لمواجهة الإرهاب والمخدرات‮!!!‬

وكالعادة،‮ ‬وبمنطق نظرية‮ "‬الماس الكهربائي‮" ‬المتهم دائماً‮ ‬في‮ ‬حوادث الحريق التي‮ ‬تلتهم مستندات وملفات القضايا المهمة أوتخفي‮ ‬آثار اختلاسات في‮ ‬مخازن الشركات الكبري أو تهيل التراب علي سرقات المتاحف والمناطق الأثرية أو علي الأقل التي‮ ‬تنشأ نتيجة للجهل والإهمال من جانب المسئولين،‮ ‬فإن الدولة تحاول التنصل من مسئوليتها عن كل تلك المصائب بنسبتها إلي‮ »‬أياد خارجية‮« ‬تهدد أمن مصر‮. ‬فمن السهل إلقاء التبعة علي تلك الأيادي‮ ‬أو الأصابع الخارجية‮ ‬غير المحددة ليغلق الملف بعد حين‮ ‬يطول أو‮ ‬يقصر،‮ ‬ثم تبقي الأمور علي ما هي‮ ‬عليه إلي أن تقع الواقعة التالية ليتكرر نفس السيناريو الهزيل‮. ‬وأخبراً،‮ ‬فإنه إن لم‮ ‬يتم التعامل بصراحة مع مسببات الاحتقان الوطني‮ ‬والطائفي،‮ ‬سيظل الوطن في‮ ‬خطر‮. ‬والله نسأل أن‮ ‬يحمي‮ ‬مصر وشعبها،‮ ‬ويلهم حكامها بديلاً‮ ‬ناجعاً‮ ‬عن‮ " ‬الماس الكهربائي‮".‬