عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

هل التعليم سلعة؟‮!‬

لا شك أن تظاهر الآلاف من طلاب وأساتذة الجامعات في‮ ‬لندن‮ ‬يوم الخميس‮ ‬2010‭/‬12‭/‬9‮ ‬علي‮ ‬إثر موافقة البرلمان البريطاني‮ ‬علي‮ ‬زيادة المصروفات الدراسية الجامعية بنسبة‮ ‬300٪‮ ‬من جملة المصروفات تؤكد بما لا‮ ‬يدع مجالاً‮ ‬للشك أن التعليم حق للإنسان وأن فكرة تسليع التعليم تجعله سلعة تباع في‮ ‬السوق وتخضع لآليات السوق،‮ ‬وأن المجتمع الرأسمالي‮ ‬البريطاني‮ ‬يرفض التعامل مع التعليم كسلعة،‮ ‬واللافت للنظر في‮ ‬تلك الواقعة أن موافقة البرلمان البريطاني‮ ‬علي‮ ‬زيادة المصروفات الدراسية بنسبة‮ ‬300٪‮ ‬أي‮ ‬قبل الإعلان العالمي‮ ‬لحقوق الإنسان والذي‮ ‬ينص صراحة علي‮ ‬أن التعليم في‮ ‬كافة مراحله حق للإنسان وعلي‮ ‬الدولة أن توفره له بصرف النظر عن الوضع الاجتماعي‮ ‬أو العقائدي‮ ‬أو الجنس أو العرقي،‮ ‬لقد صدر الإعلان العالمي‮ ‬لحقوق الإنسان في‮ ‬2010‭/‬12‭/‬10‭.‬

تلك مفارقة لافتة للنظر في‮ ‬هذا التوقيت،‮ ‬والذي‮ ‬يتجلي‮ ‬أن رفض تسليع التعليم‮ ‬يتم حتي‮ ‬في‮ ‬أغني‮ ‬الدول الرأسمالية لأنه‮ ‬يحرم العديد من الفئات والطبقات الاجتماعية‮ ‬غير القادرة علي‮ ‬دفع تكلفة هذا التعليم من حق التعليم بوصفه حقاً‮ ‬أصيلاً‮ ‬للإنسان أينما وجد وكيفما كان‮.‬

إن النظر إلي‮ ‬التعليم كسلعة‮ ‬يعتبر مسألة أخطر وأكثر تعقيداً‮ ‬مما تبدو في‮ ‬ظاهرها وفي‮ ‬نظر المروجين لتلك السياسة التي‮ ‬تسعي‮ ‬إلي‮ ‬حرمان قطاعات واسعة من أبناء هذا الوطن من حقهم الأصيل في‮ ‬التعليم والذي‮ ‬حرموا منه أصلاً‮ ‬بحكم وضعهم الاجتماعي‮ ‬والطبقي‮ ‬سنوات طويلة،‮ ‬فالنظر إلي‮ ‬التعليم العالي‮ ‬تحديدا والتعليم بشكل عام بوصفه سلعة تباع وتشتري‮ ‬في‮ ‬السوق‮ ‬يقتنيها من‮ ‬يستطيع دفع ثمنها وتحمل تكلفتها المادية،‮ ‬سوف‮ ‬يؤثر ذلك علي‮ ‬التعليم بطريقة أو بأخري‮ ‬ويحول التعليم إلي‮ ‬نظام للنخبة والقلة القادرة علي‮ ‬دفع الكلفة‮.‬

إن المشهد التعليمي‮ ‬المعاصر والمعاش‮ ‬يشير إلي‮ ‬العديد من الدلالات التي‮ ‬لا تقبل الشك،‮ ‬فهناك توسع‮ ‬غير مسبوق في‮ ‬إنشاء الجامعات الخاصة والأجنبية،‮ ‬حيث صدر القانون رقم‮ ‬101‮ ‬لعام‮ ‬1992‮ ‬بإنشاء جامعات خاصة ولم‮ ‬يُفعل سوي‮ ‬عام‮ ‬1996‮ ‬بعد رحيل الدكتور حسين كامل بهاء الدين وزير التعليم العالي‮ ‬حينذاك وتولي‮ ‬الدكتور مفيد شهاب وزارة التعليم العالي،‮ ‬حيث تمت الموافقة في‮ ‬صيف عام‮ ‬1996‮ ‬علي‮ ‬إنشاء أربع جامعات خاصة وتوالت الموافقات علي‮ ‬استحياء بعد ذلك،‮ ‬ولكن منذ عام‮ ‬2005‮ ‬وتحديدا مع حكومة د‮. ‬أحمد نظيف تم التوسع بصورة‮ ‬غير مسبوقة لتلك الجامعات حتي‮ ‬بلغت حوالي‮ ‬17‮ ‬جامعة فضلاً‮ ‬عن الأكاذيب والمعاهد العليا الخاصة والتي‮ ‬قد ترفع العدد إلي‮ ‬أكثر من‮ ‬27‮ ‬جامعة وأكاديمية خاصة بمصروفات خلال‮ ‬14‮ ‬جامعة خلال قرن من الزمان منذ عام‮ ‬1908‭.‬

ناهيك عن التعليم باللغة الانجليزية بمصروفات والبرامج الجديدة والتعليم المفتوح،‮ ‬كلها صيغ‮ ‬وأشكال تدعم وتكرس خصخصة التعليم الجامعي‮ ‬والعالي‮.‬

فأولاً‮ ‬وقبل كل شيء عندما نتعامل مع التعليم العالي‮ ‬علي‮ ‬أنه سلعة تباع وتشتري‮ ‬في‮ ‬الأسواق الوطنية والدولية،‮ ‬فإن ذلك‮ ‬يؤدي‮ ‬إلي‮ ‬اختفاء وتلاشي‮ ‬طبيعة ووظيفة التعليم العالي‮ ‬كخدمة عامة وحق من حقوق الإنسان المعاصر،‮ ‬وبدلا من أن‮ ‬يقوم التعليم بمراعاة الهموم الوطنية،‮ ‬فإنه‮ ‬ينفصل عن طبيعة دوره كقاطرة للتقدم والنهوض بالمجتمع،‮ ‬ويصبح أداة تخدم الاهتمامات الفردية الضيقة،‮ ‬لأن الاعتماد علي‮ ‬قوي‮ ‬السوق قد‮ ‬يقلص من المنافع العامة التي‮ ‬يقدمها التعليم العالي‮.‬

وهذا قد‮ ‬يكون من وجهة نظري‮ ‬الكارثة الكبري‮ ‬لتحويل التعليم كسلعة،‮ ‬حيث إنه اذا ما خضع التعليم العالي‮ ‬في‮ ‬كل أرجاء المعمورة لقيود منظمة التجارة العالمية والتي‮ ‬تتجلي‮ ‬في‮ ‬اتفاقية تحرير الخدمات وعلي‮ ‬رأسها قطاع التعليم العالي،‮ ‬فإن الحياة الجامعية ستتغير بشكل كبير وملحوظ،‮ ‬وسوف تتضاءل فكرة قيام التعليم العالي‮ ‬بتقديم دور وخدمة مجانية لقطاع كبير من المجتمع وهم بالتحديد الفقراء والأكثر احتياجاً‮ ‬في‮ ‬المجتمع،‮ ‬ويصبح التعليم العالي‮ ‬مقصوراً‮ ‬علي‮ ‬النخبة وستخضع الجامعات لكل الضغوط التجارية للسوق،‮ ‬وهي‮ ‬سوق تدعمها الاتفاقيات الدولية والمتطلبات التي‮ ‬يحكمها القانون التجاري‮ ‬الذي‮ ‬لا‮ ‬ينشد سوي‮ ‬الربحية البغيضة،‮ ‬وستصبح مشاركة الجامعة في‮ ‬التنمية الوطنية وتدعيم المجتمع المدني‮ ‬هدفاً‮ ‬صعب المنال والتحقيق،‮ ‬وسيتم التخطيط للتعليم العالي‮ ‬بمنأي‮ ‬عن المسئوليات الاجتماعية والسياسية والأكاديمية التي‮ ‬تسعي‮ ‬إلي‮ ‬الارتقاء بالمجتمع والأفراد علي‮ ‬حد سواء‮.‬

وثانياً‮: ‬سيضعف تحويل التعليم العالي‮ ‬الي‮ ‬سلعة من التزام الحكومة بالتمويل العام للتعليم العالي‮ ‬بشدة،‮ ‬ويدفع إلي‮ ‬المضي‮ ‬في‮ ‬خصخصة التعليم العالي‮ ‬قدماً،‮ ‬حيث انخفض الانفاق علي‮ ‬التعليم العالي‮ ‬من جملة الإنفاق العام من‮ ‬3‭.‬67٪‮ ‬عام‮ ‬2007‭/‬2006‮ ‬إلي‮ ‬حوالي‮ ‬2‭.‬71٪‮ ‬عام‮ ‬2009‭/‬2008‮ ‬وانخفض الانفاق علي‮ ‬التعليم العالي‮ ‬من جملة الدخل القومي‮ ‬من‮ ‬1‭.‬147٪‮ ‬عام‮ ‬2007‭/‬2006‮ ‬إلي‮ ‬حوالي‮ ‬1‭.‬3٪‮ ‬عام‮ ‬2009‭/‬2008؟؟‮!‬

فالخصخصة وبالتحديد خصخصة مؤسسات التعليم العالي‮ ‬التي‮ ‬تبحث عن الربحية البغيضة،‮ ‬قد تصبح هي‮ ‬النظام المتبع في‮ ‬هذا الزمن بكل ما له من عواقب اجتماعية وسياسية تهدد الاستقرار الاجتماعي‮ ‬وتلغي‮ ‬دور التعليم في‮ ‬الحراك الاجتماعي،‮ ‬وسيترتب علي‮ ‬ذلك أن تتحول الجامعات التي‮ ‬كانت في‮ ‬الأساس لا تبحث عن العوائد المادية والربحية الي‮ ‬جامعات كل همها تحقيق الربح المادي،‮ ‬وفي‮ ‬النهاية قد‮ ‬يتواري‮ ‬التعليم العالي‮ ‬خلف القطاع الخاص وتختفي‮ ‬طبيعته كخدمة عامة وسيتحول

في‮ ‬القريب العاجل إلي‮ ‬مشروعات قابلة للبيع،‮ ‬كما حدث في‮ ‬تجربة بيع شركات القطاع العام إلي‮ ‬القطاع الخاص،‮ ‬سينتقل ذلك النهج من المؤسسات الإنتاجية إلي‮ ‬المؤسسات التعليمية،‮ ‬حيث بلغت الجامعات الخاصة‮ ‬27‮ ‬جامعة مقابل‮ ‬17‮ ‬جامعة حكومية علي‮ ‬مدي‮ ‬قرن من الزمان‮.‬

وثالثا‮: ‬فإن التعامل مع التعليم العالي‮ ‬كمنتج للتسويق والتجارة قد‮ ‬يؤثر بشدة علي‮ ‬إنتاج المعرفة،‮ ‬وسيؤدي‮ ‬إلي‮ »‬رأسمالية المعرفة‮« ‬وسوف‮ ‬يؤدي‮ ‬إلي‮ ‬تقليص دور الدولة وما‮ ‬يستتبعه من زيادة في‮ ‬دور آليات السوق‮ - ‬علي‮ ‬المستوي‮ ‬الوطني‮ ‬والدولي‮ - ‬في‮ ‬التعليم العالي‮ ‬إلي‮ ‬نقص حاد في‮ ‬أعداد الطلاب الراغبين والقادرين علي‮ ‬الالتحاق بالتعليم العالي‮ ‬وسيزيد من عدم المساواة بين الأفراد داخل الوطن وغياب تكافؤ الفرص والعدالة،‮ ‬ناهيك عن ضياع حق الإنسان في‮ ‬التعليم كحق أصيل أقرته المواثيق الدولية وتعهدنا بالالتزام به‮.‬

ورابعاً‮: ‬فإن الاتجار في‮ ‬التعليم‮ ‬يهدد بالفعل اتفاقيات حقوق الإنسان الحالية،‮ ‬لان العديد من بنود منظمة التجارة العالمية واتفاقيات الجاتس وتحرير الخدمات ستصطدم باتفاقيات الأمم المتحدة حول حقوق الإنسان والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والحقوق السياسية والمدنية وتتناقض بالفعل بنود المعاهدات التجارية وتتعارض مع المعني‮ ‬الحقيقي‮ ‬للتعليم العالي‮ ‬والجامعي،‮ ‬وفوق كل ذلك فلقد أوضح الإعلان العالمي‮ ‬لحقوق الإنسان لعام‮ ‬1948‮ ‬ان لكل شخص الحق في‮ ‬التعليم،‮ ‬وأن التعليم العالي‮ ‬سيكون متاحاً‮ ‬للجميع بعدالة تامة،‮ ‬وعلي‮ ‬أساس الجدارة والاستحقاق وليس علي‮ ‬أساس الوضع الطبقي‮ ‬والقدرة الاقتصادية ويوضح ميثاق الأمم المتحدة حول الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية‮ (‬مادة‮ ‬13‮) ‬أن التعليم العالي‮ ‬سيكون متاحاً‮ ‬للجميع علي‮ ‬أساس القدرات وبكل السبل الملائمة،‮ ‬وبالذات عن طريق التعليم المجاني‮. ‬وقد صادق إعلان برشلونة علي‮ ‬ميثاق الأمم المتحدة،‮ ‬وعلي‮ ‬ذلك فإن التعامل مع التعليم العالي‮ ‬كسلعة للمتاجرة بها من شأنه أن‮ ‬يجعل من تحقيق تلك الاتفاقيات شيئا صعب المنال،‮ ‬بل ضرباً‮ ‬من المستحيل‮.‬

إن التعليم هو في‮ ‬جوهره خدمة عامة مجانية،‮ ‬وهو خدمة للجدارة والاستحقاق وليس للوضع الاجتماعي‮ ‬والقدرة الاقتصادية والمادية للأفراد،‮ ‬وعلاوة علي‮ ‬كونه خدمة مجانية في‮ ‬ذاته،‮ ‬فهو‮ ‬يقدم للمجتمع عدة خدمات عامة ومجانية أخري،‮ ‬وتتنوع أيضا الخدمات التي‮ ‬يقدمها ويشكلها ويرعاها التعليم العالي،‮ ‬أما الدور الاجتماعي‮ ‬الذي‮ ‬يقدمه التعليم العالي‮ ‬والدور الوطني‮ ‬أيضا الذي‮ ‬يؤديه وطبيعة الخدمة التي‮ ‬يقدمها وطبيعة الحق الإنساني‮ ‬الذي‮ ‬يحمله،‮ ‬كلها أبعاد تتعانق بشدة وتتلاحم،‮ ‬وهي‮ ‬في‮ ‬حاجة إلي‮ ‬أن‮ ‬ينظر إليها علي‮ ‬أنها مبادئ أساسية لا‮ ‬غني‮ ‬عنها في‮ ‬صياغة السياسات العامة التي‮ ‬تتعلق بالتعليم الجامعي‮ ‬والعالي‮ ‬في‮ ‬وطننا والتي‮ ‬يجب أن تتأسس علي‮ ‬أن التعليم العالي‮ ‬حق إنساني‮ ‬وضرورة مجتمعية لا‮ ‬يستطيع المجتمع ان‮ ‬ينافس بدونها،‮ ‬فحال المجتمع المصري‮ ‬يؤكد أن هناك حوالي‮ ‬27٪‮ ‬من الشريحة العمرية من‮ ‬18‮- ‬23‮ ‬ملتحقة بالتعليم الجامعي‮ ‬والعالي،‮ ‬وهناك‮ ‬30٪‮ ‬من جملة السكان لا‮ ‬يقرأون ولا‮ ‬يكتبون،‮ ‬أميون،‮ ‬وهناك تسرب من التعليم نسبته حوالي‮ ‬20٪،‮ ‬فكيف لمجتمعنا أن‮ ‬ينافس وفق آليات السوق وفي‮ ‬مجتمع دولي‮ ‬تحكمه معايير الجودة والمعرفة،‮ ‬مجتمع‮ ‬يتأسس علي‮ ‬الحق في‮ ‬التعليم،‮ ‬وخلق وبناء المجتمع المتعلم‮. ‬إن شرط المنافسة مع الآخرين وفي‮ ‬ظل آليات السوق هي‮ ‬بمجتمعات متعلمة تعليماً‮ ‬عالياً‮ ‬في‮ ‬حده الأدني،‮ ‬من هنا فلا مكان لنا تحت الشمس في‮ ‬ظل نظرتنا الي‮ ‬التعليم كسلعة تباع وتشتري‮ ‬في‮ ‬السوق‮.‬

*أستاذ أصول التربية بجامعة الإسكندرية