عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

معاً فى بلادى الجميلة

كانت كلماتها رجالاً فى تلك الأيام الموحشة التى سبقت اغتيال الرئيس أنور السادات أو استشهاده، أقصد ما قالته د. نعمات فؤاد فى مؤتمر عام، قالت إن فتح السجون للسياسيين والمفكرين والمبدعين يعد أمراً جللاً ومهيناً لمن قام به، كان الكل يعرف أنه السبب الرئيسى الأوحد

فى ذلك السجن التعسفى كان هو الاعتراض على سياسات السادات وليس تحطيم مؤسسات أو تدبير مؤامرات، كما جرت العادة فى مصر من حيث إطلاق التهم المرسلة.
ذهبت إلى فؤاد سراج الدين، زعيم الوفد، بعد الإفراج عنه من السجن عقب مقتل السادات، بادر برصانته وبلاغته المشهودة قائلاً: أنا حزين فعلاً من أن أجل السادات أنه لم يقتل إنما هو انتحر.
هكذا تسفر الأيام عن حكمتها المؤجلة فنسمع من قادة الفكر والسياسة ما يهدئ الروع إذا ما استبد البطش أو تغولت القوة المجردة، لم أنس حديث د. نعمات فؤاد السابق أثناء تلك الهجمة الشرسة على كل أطياف المعارضة فى خريف الغضب أوضحت الأستاذة بلسان الحقيقة أن من يسجن ويضطهد ويعذب شعبه مهزوم لا محالة.
معها فى كتابها «فى بلادى الجميلة» أدخل عالم د. نعمات فؤاد بكل جماله وافتتانه بالمعانى والأشياء، كل تفصيلة من تفاصيل الحياة أمر أثير لديها تحتفى به وتحتويه وتطيل النظر فى آفاقه وأسراره، تفسر ذلك فى نفسها قائلة: الأشياء تغدو فى عينى كالأشخاص، دائماً بينى وبينها رابطة غير واضحة.. لهذا يعز علىّ ضياع شىء أو كسره، إنها ألفة شديدة فى نفسى لكل شىء أتعامل معه، ميلاد طائر والحفاوة التى تبديها بالحياة والجماد حولها وسيرها المتأنى فى ربوع مصر فى المحطة وفى الليل وفى الفرح وفى الطريق تشعر أنها تعيد تخليق البشر والأشياء إذ تعطيها بعضاً من روحها وفكرها.
ربما يظن القارئ أن من تعطى اهتماماً شاملاً ومدققاً لكل الجزئيات والتفاصيل قد تكون أشد نعومة ورقة من أن تخوض معارك الحياة الصعبة، العكس هو الصحيح! كل ما فى الأمر أنها إذا وجب الأمر تستجمع قدرتها على الحب وتحتشد بكل طاقاتها الواسعة وتتركز حول محور.. هنا تفاجئك الأديبة د. نعمات فؤاد بأنها تحولت إلى كتيبة مقاتلة زوداً عن بلادنا وعن نهضتها وحريتها كاتبة مدركة لقيمة القلم تصفه قائلة: الكاتب عنده عدل الروح.. القلم عنده لا يستباح ولا يشترى ولا يؤجر القلم كم دك العروش وكم حسر الرءوس وكم أدان الجبابرة وكم أدال الطغاة، أين لنا يا د. نعمات من قلمك الملتهب الجسور ومصر تعانى مخاضاً رائعاً يريد له البعض أن يكون إجهاضاً ومسخاً ممسوخاً مهدراً كابياً.
المفكر الحق يتخطى ظاهر الأحداث ويعبر بنا الزمان ويستشرف ما هو آت.. قد يسقط الزمن الذى ولى ليحيى التاريخ حاضراً ويعايشه ويستخرج منه حكمة الدهر مهما تأخرت أنه على الباغى تدور الدوائر.
تتحدث فى ذلك الفصل الرائع بعنوان «فى دنشواى» تهرع بالسنين لتعايش مصر وتعيش معها مأساة دنشواى من منطلق الصحوة التى أعقبتها والزعامات التى أنجبتها فإذا هى مستبشرة بالطغيان لأنه مفجر الثورة!
تبدأ قائلة فى كلمات كالقصيد: «نفسى اليوم من خمس وخمسين سنة (كتابها صادر فى 1962) نفس المكان الذى وقفنا فيه يرهقنا خوفنا وتسخننا جراحنا وتلسعنا دموعنا وتحرقنا شهقاتنا نفس المكان الذى نصبت فيه المشانق وعلق منها شهادؤها حسن على محفوظ ويوسف حسين سليم والسيد عيسى سالم ومحمد درويش زهران.. إنها أسماء شهداء دنشواى فى موقعة صيد الحمام الشهيرة التى قتل فيها ضابط إنجليزى فى معركة اتهم فيها المصريون ظلما.. كتبتهم الكاتبة بالاسم الثلاثى حتى لا تنساهم حكت د. نعمات فؤاد عن تفاصيل ذلك اليوم الرهيب بصيغة المضارع..

تواصل الحكى اللاهث كأنها روح تحيا فى الحادثة إلى آخر الدهر تقول: «اندفعنا من الأزقة والمنحنيات نتتبع القاتل بهراواتنا والشمس من فوقنا تضرب معنا غضبى مثلنا الجندى البريطانى مات بضربة شمس، نفس المكان الذى مات فيه أربعة وحيا فيه شعب بأجمعه حاول الاستعمار أن يلهيه عن نكبته ومأساته فصححت دنشواى الواقعة وتقدمتنا دنشواى إلى المعمعة وانتصرت دنشواى وهى المحكوم عليها فى الموقعة أكرم من موقعة عظيمة مروعة نشر فيها اللواء مصطفى كامل ونحن معه: وتصدى الاستعمار ولكن ليرفعه وأرسلت السماء محمد فريد ليتبعه وأصاخ له العالم ليسمعه وأفاق على بغى إنجلترا ليدفعه وكذّب كرومر وما أدى وأطاح به وماشيعه».
كلمات هادرة تستحضر فيها دنشواى وضحاياها وحادث الإعدام البغيض أمام القرية والأبناء ثم الصحوة التى أعقبت الحدث فى مصر والعالم كله.
هل تكلمت د. نعمات فؤاد فى 1962 ولهثت إلى الأمام هذه المرة لتكون معنا فى حاضرنا معزية لشهداء قضوا دون قصاص.. وأبناء تودع فى السجون.. الأيام تعاد والمعنى واحد رغم اختلاف الصور.. ومعها إذ تقول «رب مضرج فى الدماء هو المنتصر.. ألا أنه وطنى.. وطنى القوى حتى فى ضعفه ما أروعه وما أرفعه هكذا سواه ربى فأبدعه عزيزاً لا يعرف الضعة وأشرق عليه ووقف فى الروع معه».
أنها تنظر بعين التاريخ وحكمة الغد الذى يأتى دوماً ليحدد الأقدار وينصف الثوار.. والمثال واضح كيف غيرت دنشواى فى ذلك الزمان البعيد من القرن الفائت غيرت مصر من حال إلى حال، وكيف أنبتت المشانق زعامات رفعت مصر إلى أعلى مراتب كفاح الظلم وقهر المحتل.. وكيف ضج العالم الحر فى تلك المراحل بغير تليفزيونات ولا فضائيات ولا مذياع وكيف أمسكت الجريمة بتلابيب من قاموا بها وضجت الدماء بأسماء القتلة وتجرع كرومر الهوان وكتبت فى دنشواى الملاحم والأشعار وتكلل الاستعمار بالعار.
هل أرادت د. نعمات فؤاد أن تقول لنا إن اليأس فى حق الأوطان لا يجوز.. إنه الندالة بل الخيانة ليس باستطاعتنا أن نيأس فى هذه اللحظة الفارقة ومصر تمضى مسلوبة الأمان والخطط الدخيلة من هنا وهناك تريد أن تفكك أوصال الأمة بالفتن.. والقضاء هو فخرنا وهامتنا وقوتنا يقتحم ويمنع ويحرج ويجرح.. وجرائم تمت بلا حساب وأبرياء تعرضوا لأقسى العقاب.. لكننا لانزال فى بلادى الجميلة مع دنشواى: «نفس اليوم ونفس المكان.. إلا أن الدم المضرج قد أخصب الثرى فأنبت الشجر الأخضر».