عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

أركان ثلاثة للنهوض التعليمي

علي الرغم من أننا أكدنا أن تحديد‮ "‬قِبلة‮" ‬النهوض التعليمي لابد أن يكون عملا قوميا جماعيا،‮ ‬إلا أن عددا من القراء كتب لي أو‮ "‬هاتفني‮" ‬بأنه مع التسليم بذلك،‮ ‬إلا أن الأمر لا ينبغي أن يصادر حق أي أحد في أن يحدد ما يمليه عقله واجتهاده في هذا الشأن،‮ ‬كل ما هنالك التأكيد علي أن ليس من حق فرد،‮ ‬أيا كان،‮ ‬أن يفرض رؤيته الخاصة علي الوطن كله،‮ ‬وعلي أجيال مصر المتتالية‮.‬

وهنا نجد الهوية التي يجب أن تُشكل‮ "‬قبلة‮" ‬التعليم في مصر،‮ ‬تقوم علي أركان ثلاثة،‮ ‬علي الرغم من وعينا بأن هناك من المفكرين من اقتصر علي واحد منها،‮ ‬في الغالب الأعم،‮ ‬أو ربما ثنتين‮.. ‬ونحن هنا لا نقوم بعملية‮ "‬توفيق‮"‬،‮ ‬وإنما نصدر في رؤيتنا عن رفض للنظرة الأُحادية،‮ ‬حيث الحياة نفسها،‮ ‬سواء علي المستوي الإنساني،‮ ‬أو المستوي‮ "‬الكوني‮"‬،‮ ‬تقوم علي التنوع،‮ ‬والتعدد،‮ ‬والتكامل،‮ ‬ويظلم الإنسان نفسه،‮ ‬عندما يصر علي العكس من ذلك،‮ ‬بل ويتهم ذوي الرؤي متعددة الزوايا بأنهم يقومون بعملية‮ "‬تلفيق‮"‬،‮ ‬وإيهام الناس بأنها عملية‮ "‬توفيق‮". ‬

إن هذه الأركان الثلاثة،‮ ‬يحسها كل إنسان في مصر علي المستوي الفردي‮:‬

فما من ابن من أبناء مصر،‮ ‬إلا ويعتز بمصريته‮.‬

وهو في اعتزازه بمصريته يعلم علم اليقين أن لغته القومية هي العربية،‮ ‬وأن المسألة ليست مجرد لغة،‮ ‬فاللغة وعاء لتراث‮ ‬غزير طويل العمر،‮ ‬يمتد عبر قرون طويلة،‮ ‬معبرا عن‮ "‬عروبة‮" ‬ثقافة،‮ ‬لا عروبة‮ "‬عرق‮". ‬

والكثرة الغالبة من المصريين،‮ ‬حتي قبل أن تظهر الأديان الإلهية،‮ ‬تلفهم نزعة تدين واضحة،‮ ‬لا تخطئها عين مراقب‮.‬

هذا وقد كانت العادة قد جرت في وطننا العربي في السنوات الأخيرة علي اتهام كل من يؤكد علي خصائص خاصة ببلده،‮ ‬والإشادة بها بصفة مستمرة،‮ ‬واتخاذها محورا للحديث والدراسة،‮ ‬علي أنه من دعاة الإقليمية‮! ‬وهي تهمة نبرأ منها،‮ ‬كما سوف يتضح فيما بعد،‮ ‬وبناء علي هذا،‮ ‬فقد يري البعض أننا إذ نؤكد علي‮ "‬مصر‮" ‬ونشيد بحضاراتها السابقة،‮ ‬فمعناه أننا نتابع في ذلك ما كان قد نادي به أحمد لطفي السيد،‮ ‬وسلامة موسي،‮ ‬وغيرهما،‮ ‬من حيث مفارقة العروبة،‮ ‬وإحلال الإقليمية محلها‮.‬

ونحن نؤكد بادئ ذي بدء أن هناك فارقا كبيرا بين الدعوتين؛ فالدعوة إلي‮ "‬المصرية‮"‬،‮ ‬كما عرفتها ثقافتنا في مطلع القرن العشرين قد ارتبطت بالفرعونية في أغلب الأحوال،‮ ‬ولم تكن تضع في حسبانها بالفعل‮: ‬الشأن العروبي،‮ ‬أما نحن،‮ ‬فعندما نؤكد الاعتزاز بشخصية مصر،‮ ‬واعتباره الركن الأساسي الأول،‮ ‬فإن هذا معناه بالضرورة‮ - ‬أو هكذا المفروض‮ - ‬أننا نعتز بكل مكونات هذه الشخصية وتطلعاتها‮:‬

ولهذا فنحن نفخر بالثقافة الفرعونية،‮ ‬لأنها كانت البداية الأولي في تكوين هذه الشخصية،‮ ‬واستطاعت عن طريقها أن تبني حضارة تفيض مختلف الكتابات في الشرق والغرب علي السواء،‮ ‬بالإشادة بها،‮ ‬والإشارة إلي دورها المذهل في وضع الإنسان علي طريق التقدم والتحضر‮.‬

ونعتز بالثقافة المسيحية،‮ ‬لأنها كانت أول صوت ينادي بالحب والأخوة بين البشر،‮ ‬ويطرح جانبا كافة الفروق الجنسية والاجتماعية والاقتصادية التي يمكن أن ترفع إنسانا فوق إنسان بغير حق،‮ ‬ويحل محلها‮ "‬التقوي‮" ‬والفضيلة والطهر،‮ ‬معيارا للمفاضلة بين الناس،‮ ‬وكانت أرض مصر من أولي البقاع التي احتضنتها،‮ ‬وازدهرت فيها وأينعت،‮ ‬واستطاعت أن تترك بصمات لها بارزة علي الشخصية المصرية‮.‬

ونباهي بالثقافة العربية الإسلامية،‮ ‬حيث تمكنت من التغلغل في شخصيتنا،‮ ‬وأصبحت الآن هي المَعْلم الأساسي في ثقافتنا،‮ ‬وروحها تسري في كل ما نفرك فيه الآن ونقوله ونأمله ونتناوله‮. ‬ومصر هي التي استطاعت أن تحمي هذه الثقافة من أن تندثر وتصبح أثرا بعد عين علي أيدي التتار،‮ ‬و"الفرنجة‮"‬،‮ ‬فيما عرف بالحروب الصليبية،‮ ‬والصليب منها براء‮. ‬وبأزهرها الشامخ حافظت علي أصولها وقواعدها،‮ ‬ومثلت عنصر جذب شد إليها المسلمين من كافة الأقطار،‮ ‬ينهلون من الثقافة العربية الإسلامية‮.‬

ونحني رؤوسنا إعجابا بالثقافة الغربية الحديثة،‮ ‬لأن الشخصية المصرية عندما بدأت التعرف عليها،‮ ‬والأخذ بأسبابها،‮ ‬خاصة منذ أوائل القرن التاسع عشر،‮ ‬استطاعت أن تقف علي قدميها،‮ ‬وتنفض عنها‮ ‬غبار عصور جمدت فيها وتوقفت،‮ ‬بل إن مزيدا من امتصاص أصولها وإنجازاتها الحضارية المتقدمة،‮ ‬يتيح لهذه الشخصية مزيدا من التقدم والكثير من التطور‮.‬

وهكذا تكون‮ "‬مصرية‮" ‬غير متعصبة،‮ ‬بمثل ما تعرف ما كان لها من فضل علي الآخرين‮ ‬،‮ ‬تعرف فضل هؤلاء الآخرين عليها،‮ ‬فتقرأ ما كان لها من ثقافات،‮ ‬وتقرأ ما كان ويكون لهم هم أيضا من ثقافات،‮ ‬إيمانا بأنها ليست نبتا نما وظهر بعيدا عن المؤثرات العالمية،‮ ‬وإنما هي ثمرة ساهمت في صنعها وتطويرها كل الثقافات الأخري‮.‬

ومن ناحية أخري،‮ ‬فإن الاعتزاز بالشخصية المصرية ليس بالضرورة نقيضا للشخصية القومية العربية،‮ ‬بل إننا لنري العكس من ذلك،‮ ‬نراه تأكيدا لها وتدعيما،‮ ‬لأن الفهم الصحيح للشخصية المصرية يبين ارتباطها بسائر شعوب المنطقة العربية،‮ ‬والإدراك لآمالها يظهر ضرورة هذا الارتباط وحتميته،‮ ‬ولا نظن أننا نذهب بعيدا إذا قلنا إن هذا الاعتزاز والتأكيد،‮ ‬يعطي لكل وحدة من وحدات البناء العربي قوة بحيث يكون هذا البناء العام قويا متينا،‮ ‬ثابت الأركان،‮ ‬بشرط ألا يكون هناك ما يمكن أن ينقض الروابط التي بين أجزاء البنيان وتناسقها وتكاملها وتآلفها‮.‬

والحق أن مصر في واقع الأمر تحتل مركزا فريدا لم يتوافر لأي بلد آخر‮.. ‬مركز البلد الذي استطاع أن يصنع حضارة تغذت عليها سائر الحضارات الأخري،‮ ‬ثم شاءت له الظروف بعد ذلك أن يكون بمثابة‮ "‬المكتبة المركزية‮"‬،‮ ‬التي وضعت فيها كل حضارة تالية،‮ ‬نسخة من ثقافتها،‮ ‬وبمعني آخر فالارتكان علي الشخصية المصرية،‮ ‬يوفر فرص التعرف بالضرورة علي أصول الحضارات والثقافات الأخري،‮ ‬لأنها في معظمها،‮ ‬جاءت إلي أرض مصر وتركت آثارا واضحة عليها‮.‬

وليست‮ "‬العقيدة الدينية‮" ‬أمرا يمكن أن يخضع لهوي هذا أو ذاك،‮ ‬من حيث الاهتمام والارتكاز والتوجيه،‮

‬ذلك لأن الحديث يمكن أن يطول،‮ ‬لو أننا حاولنا أن نبرهن علي رسوخ النزعة الدينية في الشخصية المصرية،‮ ‬فيكفي نظرة كلية شاملة لعينة من آثار الحضارة المصرية القديمة،‮ ‬التي استمرت آلافا من السنين،‮ ‬لتؤكد لنا بما لا يدع مجالا للشك أن البعد الديني ضارب بجذوره في أعماق شخصيتنا،‮ ‬قبل أن يعرف الإنسان الأديان السماوية الثلاثة،‮ ‬وهذا من شأنه أن ينبهنا إلي أن نقف موقفا حذرا من بعض الدعوات التي تروج لها قوي كبري،‮ ‬مريدة بها إضعاف الشأن الديني في بلادنا بهذا الربط التعسفي بين الدين والإرهاب،‮ ‬فالعديد من القرون التي مرت بنا بينت وأكدت كيف أن هذه النزعة الدينية كانت طاقة نهوض وعمل وإنتاج حضاري،‮ ‬علي عكس ما كان الأمر في أوروبا،‮ ‬بفعل مطامع سياسية ومصالح شخصية،‮ ‬ألبسوها لباس الدين‮.‬

إنها أوهام وأكاذيب،‮ ‬تروجها قوي كبري لنزع طاقة روحية لا مثيل لها لدي شعوبنا،‮ ‬وإذا كان بعض الأبناء في بلداننا قد جنحوا بالفعل إلي العنف،‮ ‬فلأسباب أخري،‮ ‬ليس من بينها ما تضمه الكتب المساوية من قيم ومبادئ وأخلاقيات تؤكد التراحم والتسامح والتعارف،‮ ‬والسياحة في ربوع الأرض،‮ ‬بل والكون،‮ ‬نبتغي استثمار ما سخره المولي عز وجل للإنسان علي وجه العموم،‮ ‬كي ينهض ويتقدم،‮ ‬فالله يؤكد دائما أنه‮ "‬غني عن العالمين‮"‬،‮ ‬ومن ثم فكل ما في الكون،‮ ‬وكل ما نفعل،‮ ‬ونقول،‮ ‬ونحلم،‮ ‬لابد أن يكون في صالح الإنسان،‮ ‬خليفة الله علي الأرض‮.‬

إن قوي الاستغلال العالمية الكبري تعلم علم اليقين أن النزعة الدينية في بلادنا عندما تسيدت حياتنا،‮ ‬وفق الأصول الصحيحة،‮ ‬فاضت بالخير علي البشر،‮ ‬وأضاءت أركان الدنيا بالعلوم والمعارف،‮ ‬وفاضت علي الجميع بخيرات التنمية والنهضة،‮ ‬ومن هنا فهي إذ تريد لنا الوقوف الدائم موقف الضعف والاستكانة،‮ ‬حتي تستمر في الاستغلال‮ ‬،وتأمن المنافسة والمغالبة،‮ ‬تبذل ما تبذل الآن حتي تحيل تصوراتنا عن العقيدة الدينية وكأنها منبع شر،‮ ‬وبداية عنف،‮ ‬ومشتل تعصب،‮ ‬ولو قام نفر من الباحثين المخلصين بالتحقيق في هذه الدعاوي،‮ ‬لوجدوا أن ما نالنا من عنف واستغلال وإرهاب علي يد هذه القوي الكبري الاستغلالية،‮ ‬هو أضعاف أضعاف ما يسعون لبث تصور أننا المصدر،‮ ‬من خلال عقيدتنا‮.‬

ومن هنا فإننا لا ينبغي أن ننساق هكذا وراء عمليات التخويف من النزعة الدينية،‮ ‬فنحاصرها في المجالات التعليمية،‮ ‬وإنما لابد من العمل عكس ذلك،‮ ‬وفقا لأصول النظر الموضوعي القائم علي النهج العلمي،‮ ‬ورحابة الأفق،‮ ‬والتأكيد علي أن أحدا لا يملك الحقيقة وحده سوي المولي عز وجل،‮ ‬مما لابد أن ينعكس علي تغليب نهج الحوار والتفاعل وتبادل المنافع والأفكار‮. ‬

كذلك،‮ ‬فعلي الرغم من أن المشهد القائم في عموم الوطن العربي،‮ ‬يشير إلي تفكك،‮ ‬وانكفاء علي الذات،‮ ‬وفشل بعض المشروعات التي أريدَ‮ ‬بها تنسيق وتعاون،‮ ‬إلا أننا لا ينبغي أن نقع في وهم أن هذا هو‮ "‬الأصل‮"‬،‮ ‬بل هو أمر عارض،‮ ‬نتج عن سوء تقدير،‮ ‬وتغليب المصالح الخاصة بهذا الحاكم العربي أو ذاك وكذلك،‮ ‬بعض الخبرات السياسية السلبية،‮ ‬التي لا ينبغي أن تنقض المبدأ،‮ ‬بقدر ما تظهر سوء التقدير،‮ ‬وضعف رشد التصرف من قيادات سياسية كانت قائمة‮.‬

وفضلا عن ذلك،‮ ‬فمن المهم التنبه إلي أننا نعيش في عالم التكتلات الكبري،‮ ‬إذ كيف تسعي الدول الأوروبية التي تتباين لغة،‮ ‬ومصالح،‮ ‬وقامت بينها حروب ضارية فترات طويلة،‮ ‬إلي التعاون والتكتل والاتحاد،‮ ‬بينما نحن نسعي إلي العكس من ذلك،‮ ‬في الوقت الذي تربطنا فيه لغة واحدة،‮ ‬وتعيش في قلوبنا ديانتان تتعايشان معا بيسر وتفاهم؟‮!‬

ونحن إذ نؤكد علي هذه الأركان الثلاثة التي تقوم عليها هويتنا‮: ‬المصرية،‮ ‬والدينية،‮ ‬والعروبة،‮ ‬نقر في الوقت نفسه بأنها ليست،‮ ‬في جميع الأحوال،‮ ‬بنسب متساوية،‮ ‬وأقدار متماثلة،‮ ‬فالأمر لابد أن يخضع،‮ ‬في كل موقف،‮ ‬وإزاء كل قضية،‮ ‬لموازنات وحسن تقدير،‮ ‬وبعد نظر‮.‬