رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

غُربة‮ "‬العِلْمية‮" ‬في وزارة التربية

منذ قرون بعيدة ،تأكد للإنسان أن التقدم ،والنهوض الحضاري ،لا سبيل له إلا بأن يلتزم »بالعلمية« سبيلا في الحياة . وليست العلمية، كما يتصور البعض، مجرد تجارب تُجري في معمل، بل هي بالدرجة الأولي »منهج في التفكير«، و»طريقة في الحياة «، فقد يكون إنسانُُ ما أستاذًا ـ مثلاً ـ في كلية العلوم ، لكنك تجده يمكن أن يعلق علي باب منزله »خمسة وخميسة«، أو يلجأ إلي بعض زاعمي القدرة علي كذا وكذا من الأفعال ،من الدجالين، فلا نصف هذا الإنسان بالعلمية، حتي ولو كان حاملا للدكتوراه في هذا أو ذاك من العلوم الطبيعية أو الكيميائية أو الرياضية.

 

ومن حسن طالع مصر حقا ، أن الرعيل الأول من المربين فيها، مثل إسماعيل القباني ،والدكتور عبد العزيز القوصي ، قد تنبها إلي ذلك، في ثلاثينيات القرن الماضي ، في العصر الذهبي لليبرالية. ففي المعهد العالي للتربية، تيقن "القباني" أن أية فكرة جديدة في التعليم، لا ينبغي أن تُطبق، قبل أن يتم تجريبها أولا في نطاق ضيق، فإذا كان الفشل هو النتيجة، انحصر الضرر في هذا النطاق الضيق، وإذا كانت النتائج مبشرة بالتوفيق ، يتم تعميمها علي باقي المدارس.

 

أنشأ الرجل، ما سُمي وقتها »بالفصول التجريبية«، باتفاق مع وزارة التربية علي أن تكون الفصول تابعة للمعهد وأساتذته. لكن، لوحظ أن الإقبال علي الفصول كان ضعيفا للغاية، إذا تصور الناس أن أبناءهم " سيجَرَّب عليهم في معامل، فخشوا عليهم، ومن هنا كان القرار بتغيير الاسم إلي »النموذجية«، وأدي نجاحها الباهر، إلي اتساع نطاقها، فأُنشئت مدرسة الأورمان النموذجية، والقبة، التي سميت بعد ذلك »بالنقراشي«، وفؤاد الأول ،وفاروق الأول بالعباسية . كان أبرز ما في هذه المدارس أن الإشراف العلمي كان لأساتذة المعهد الذي أصبح بعد ذلك كلية التربية بجامعة عين شمس، ويقتصر دور الوزارة علي التمويل فقط. وكان أوائل خريجي المعهد يعَينون مدرسين بهذه المدارس.

 

وكانت هذه المدارس تعج بالنشاط والحيوية ،وتطبق ما يستجد من مناهج تعليمية ،وطرق تدريس، وتنظيمات مدرسية، حتي لتجد أن معظم ما عرفته مصر من أشكال وصور وأفكار تعليمية مبتكرة، قد خرج من هذه المدارس. لكن »عفريتا من الجن« هبَّ يوما علي هذه المدارس في الستينيات، علي وجه التقريب، فألغي النظام الذي قامت عليه ، لتسير في الركب الذاهل، الهابط إلي أسفل ،وهو مسار التعليم حتي وقتنا الحالي.

 

ولو قفزت إلي آخر السبعينيات، فسوف يفجعك ما لجأت إليه الدولة من الكذب ،( وبالقانون)، عندما أنشأت ما سمي »بالمدارس التجريبية«، فهي، علي عكس ما عرفناه علي يد القباني والقوصي تماماً، وكانت تلك بداية تحايل الدولة علي النص الدستوري القاضي بمجانية التعليم، فإذا بها تزعم أن هذه المدارس الجديدة، تقدم خدمات متميزة، مما يتطلب أن يدفع طلابها بعضاً من تكلفة التعليم.

 

وجه الكذب والدجل هنا أن الاسم لا ينطبق علي المسمي، حيث لم يكن هناك »تجريب تربوي«، والتميز المزعوم للتعليم بالمدرسة التجريبية في الخدمة التعليمية ، هو نفسه الحد الضروري للتعليم الواجب القيام به، لكن الوزارة عجزت عن توفيره في عموم المدارس ،ويزيد علي ذلك، اتخاذ لغة أجنبية لغة للتعليم، علي عكس ما هو مفروض في مدارس الدولة من حيث الاعتزاز باللغة القومية ،والإعلاء من قدرها بإحلالها موقع التعليم بها، وخاصة في المرحلة التعليمية الأولي.

 

وعندما طبقت الوزارة القانون، وادعت أن ما تقدمه في هذه المدراس المدعاة »بالتجريبية« شأن زائد يتطلب أن يدفع الطلاب تكلفته، التي أصبحت بالمئات ،اتضح لنا مخالفتها الصارخة للدستور ،فهي تقام علي أرض ملك للدولة ،وفي مبني تم دفع تكلفته من الدولة، ويقوم بالتدريس فيها معلمون يتلقون مرتباتهم من الدولة ،وهكذا بالنسبة للكثير من مستلزمات الإنفاق التعليمي.

 

وما دمنا نقول »من الدولة«، أي من جيوب الناس ،وفكيف تطالب الوزارة بعد هذا الناس أن يدفعوا تكلفة تعليم أبنائهم، والمدرسة ملكهم ،وليست مثل المدارس الخاصة التي يملكها صاحب رأس المال؟ ولو تنبه محام إلي الثغرات التي يمتلئ بها قانون إنشاء هذه النوعية من المدارس، فسوف يجد أن ليس عسيرا كسب قضية عدم دستوريته ،وأنه كان مقدمة لخطوات تالية اتبعتها الوزارة، وزميلتها »التعليم العالي« للالتفاف حول النص الدستوري الذي يقضي بمجانية التعليم، والتي أصبحت الآن، أثرا من الآثار القديمة، لا نجده إلا في الدستور، دون تفعيل ، مثله في ذلك مثل نصوص أخري!!

 

كان من المهم، حتي يتطابق الاسم علي المسمي، أن تقوم دراسة علمية علي هذه المدرسة، بعد سنوات قليلة من إنشائها، حيث كانت مقتصرة علي المرحلة الابتدائية فقط، تكشف عن أوجه السلب والإيجاب فيها، وبناء علي نتائجها، التي تعلن للناس، يتم التوسع فيها، أو العكس، لكن ما حدث هو التوسع في إنشاء هذه المدارس، لتشمل مرحلتي

التعليم الإعدادي، والثانوي.

 

ولو استرسلنا في تتبع الخطوات المناهضة للعِلمية، لاحتجنا كتابا كاملا ،ولكن ، فلنقفز إلي أواخر الثمينيات، حيث بدأت أخطر جريمة في حق التعليم المصري، عندما تم اختصار سنوات التعليم الابتدائي إلي خمس سنوات، أيضا بغير دراسة علمية تقارن بين مدرسة ذات خمس سنوات، وأخري ذات ست سنوات ،وتم الاعتماد علي أقوال مرسلة من اليونسكو، فندناها في حينه ،وقت صدور قانون الإنقاص، لكن، كالعادة: لقد ناديت إذ أسمعت حيا ،ولكن لا حياة لمن تنادي.

 

كانت الخطيئة الكبري في هذه الخطوة، أن ظل تعليمنا يشهد ما عُرف »بالدفعة المزدوجة«، أي تكدس طلاب دفعتين كاملتين في نفس الفصول المعدة لتعليم دفعة واحدة، وهي أصلا كانت مكتظة، وكان اكتظاظ فصول التعليم هو الحجة الكبري لوزير التربية في ذلك الوقت لإصدار هذا القانون الشيطاني.

ولو كانت لدينا السبل والتقنيات والأساليب العلمية لقياس كم الخسائر التي ترتبت علي تعليم دفعتين، في فصول لدفعة واحدة، علي أيدي نفس المدرسين ،وتحت ظلال نفس الإدارة، وفوق نفس المساحة من الأفنية، لرأينا خسائر مهولة.

 

وبعد أن انتهي أمر الدفعة المزدوجة، بفعل الزمن، بدأنا نشهد أمرا مضحكا آخر، عندما حرص الوزير التالي أن يصحح الوضع بإرجاع السنة المحذوفة ـ أيضاً بغير دراسة علمية مسبقة ـ بدأنا نشهد ظاهرة أخري ألا وهي ما عُرف بـ»سنة الفراغ«، فتتالي دفعات الطلاب الذين يعدّون، علي الأصابع، بنفس الإمكانات التي تعلم بها عشرات التلاميذ، علي العكس تماما مما حدث بالنسبة »للدفعة المزدوجة«، مما يعد لدي خبراء اقتصاديات التعليم، »هدرا« واضحا للنفقات، وبدأت الجامعات في العام الحالي في استقبال طلاب السنة الفراغ، الذين ينظر إليها باعتبارهم »بقايا« و»رواسب«! فانظر إلي عدد السنوات التي استمرت فيها هذه الظاهرة، وليحسب متخصص، كم من مال تم إهداره، دون محاسبة، بل وجدنا المتسبب الأول يكافَأ بموقع عال للغاية، أطول مدة عرفها تاريخنا السياسي الحديث!! هذا بالنظر إلي التكاليف »المادية«، لكن، كم هي التكاليف »الإنسانية«؟ حدِّث ولا حرج، ومما يندي له الجبين.. إذا كان صاحبه ذا ضمير حي.

 

وعندما كان الدكتور حسين بهاء الدين وزيرا للتربية، حرص الرجل علي النهج العلمي، عندما فكر في تطوير التعليم الثانوي، فعقد حلقات مناقشة واسعة وكثيرة ، فلما أُقصي من الوزارة، وجاء بعده الدكتور أحمد جمال موسي، تابع الرجل النهج نفسه ،ولما بدأ مشروع التطوير يتخذ ملامحه الأساسية، إذا به، هو الآخر، يقصي عن الوزارة، بعد عام واحد ، علي وجه التقريب ، فجاء »الجمل« ووالي البحث والتفكير، والمناقشة، ثم إذا به أي الوزير، يترك الوزارة، إقصاء لا اختيار كالعادة، دون أن نعرف مصير مشروع تطوير التعليم الثانوي، منذ أواخر التسعينيات، حتي الآن، حيث لا حس ولا خبر، انشغالا من الوزير الحالي بالضبط والربط، الذي هو فلسفته في الإدارة ومنهجه في التعليم.

 

والمسألة، كما تري، هي »رؤية« شخص، كُتب علي المصريين أن يكون مسئولا عن تعليم الملايين من أبنائهم، ولو كان هناك نهج علمي حقيقي، لتم ذلك بطريقة »مؤسسية«، لا تتعلق بهوي هذا الوزير أو ذاك.. ولعلك بعد هذا تعرف من أوجه الإجابة عن التساؤل المؤلم: لماذا نتأخر في التعليم ،ويتقدم غيرنا؟!