عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

محنة الكتاب الجامعى..

فى أواخر عام 1955، كان لقاؤنا الأول –نحن طلاب قسم الفلسفة- فى آداب القاهرة، مع رائد علم النفس فى الوطن العربى: الدكتور يوسف مراد، لنتعلم منه مقررا عن (مدخل إلى علم النفس)، فإذا به يكتب لنا على السبورة الخطوط العريضة لمنهج هذا المدخل،

ثم يُتبع ذلك بقائمة من المراجع، وكان من بينها كتاب له بعنوان (مبادئ علم النفس العام)، وهو ما يكاد يفى بمفردات المنهج المعلن.
لكن، لم يحدث أبدا أن أخبرنا الأستاذ، ولا أى أحد، بأن كتاب الأستاذ هو المقرر، فقد ساقه كأحد المراجع، مثله فى ذلك مثل غيره، بل وجدتنى مع الكثرة الغالبة من الزملاء، نهرع إلى المكتبة العامة للجامعة وكانت ملاصقة للآداب، بحثا عن كتب « تغطى « مفردات المنهج، لنقرأها، استعارة، أو بالجلوس فى المكتبة، وبعض المتيسرين من الزملاء، اشتروا عددا من هذه المراجع، وكان الفقراء أمثالى، يعتمدون على الاستعارة من دار الكتب، بجانب مكتبة  الجامعة، وربما من بعض فروع الدار.
وكان هذا هو الشأن نفسه فى بقية المقررات، وطوال سنوات الدراسة الأربع.
حتى إذا أصبحتُ عضو هيئة تدريس بتربية عين شمس عام 1969، وجدت أن الأمر قد بدأ يختلف، فيكون للأستاذ «الكبير»، كتاب مرجعى، يتعامل معه الطلاب باعتباره هو الكتاب المقرر! ولم يكن لنا نحن «المدرسين» أن نفكر لحظة فى أن يكون لنا كتاب مقرر، حتى لو كان التدريس فى كلية أخرى، فكتاب الأستاذ الكبير، يظل هو المقرر.
ثم إذا بنا، بعد ما يقرب من عقد من الزمان، نسمع صيحة من بين صفوف من حصلوا على الدكتوراه، يتخذون شعار: نحن رجال وهم رجال، ولابد من التحرر من سطوة كبار الأساتذة، وهو منطق معقول، لكن الكارثة، أن هذا كان يتم بعد الحصول على الدكتوراه مباشرة، وقبل أن ينضج المدرس، وتتعمق ثقافته ومعرفته المتخصصة، وتثرى خبرته، فبدأ سوق التأليف الجامعى يعرف نوعية غير جيدة من الكتب.
ثم وجد عدد غير قليل من هؤلاء المؤلفين الجدد أن الناشرين يقاسمونهم العائد، فاختاروا أن يكون كتاب كل منهم «مذكرة» يطبعها بمعرفته فى أى مكتب (آلة كاتبة فى ذلك الوقت )، كى يختص بالعائد كله وحده.
وقد مثّل هذا التطور تراجعا ملحوظا فى القيم والعلاقات الجامعية، فضلا عن المستوى المعرفى المتخصص، كيف؟
كان التنوع الحاصل من قبل فى قرءاة المنهج المقرر، يتيح الفرصة للطالب أن يشهد زوايا رؤية متعددة، واجتهادات مختلفة، فإذا به بعد ذلك ينفرد بعقله شخص واحد، لا يُريه إلا ما يرى، فإذا بالطالب الجامعى ينسى أن تجاه كل اجتهاد، اجتهادات أخرى، قد تختلف مع بعضها البعض، وفى هذا إثراء مؤكد للمعرفة، وترسيخ لقيم المرونة فى التفكير والتعامل مع الآخر، والتنافس المعرفى.
وزاد الطين بلة، أن «المذكرة» إذ يتم إخراجها داخل أسوار الكلية فقط، لا يراها ولا يقرأها غير الطلاب الذين سُيمتحنون فيها، هبط مستواها إلى حد كبير، بل وصل الأمر إلى حد انتشار عمليات سطو على جهد آخرين، حيث إن العملية محصورة بين الأستاذ والطلاب، وقد حدث مرة –منذ عدة سنوات- أن وجدت «مذكرة» فى يد عامل بإحدى الكليات عن طرق تدريس الفلسفة، ولما كان هذا التخصص هو غرامى العلمى القديم، بحكم ما أتاحه الله لى من جهد إيجادها لأول مرة على خريطة كليات التربية بدءا من عام 1969، أخذت أقلب فيها، فإذا بى – وقد دخلنا القرن الحادى والعشرين- ألمح عبارة (العام الدراسى الحالى1971/ 1972)، فأدهشنى هذا، ودفعنى إلى أن أقلب

صفحات المذكرة، فإذا بى أجد ما يزيد على ثلاثين صفحة مصورة من كتابى تدريس المواد الفلسفية الذى صدر فى ذلك العام، ولم يكلف السارق نفسه جهد تغيير رقم العام، بل وكان التصوير لكتابة جمعت بالمطبعة القديمة، حيث جمع الحروف باليد، ولم يكلف نفسه إعادة كتابتها بالحاسب الآلى الحديث.
وكان الأستاذ السارق ذكيا بحيث تعمد ألا يكتب اسمه على المذكرة، وإلا لخضع للمحاسبة القانونية والتى كان لابد أن تُخرجه من زمرة الجامعة كلية!!
ثم إذا بالأمر يتطور إلى خطوة أخرى- إلى وراء دائما- ففى الكليات التى يدرس فيها الطلاب مقررا واحدا فى كل الأقسام والشعب، بحيث، يُدَرّسه أكثر من أستاذ، ولتهدئة ما كان يجرى من تنافس وعراك على الاستئثار بالمجموعات الكبيرة، اتفق الجمع فى هذا القسم أو ذاك على ما سُمى خطأ بالتأليف الجماعى، والذى لو كان هذا حقيقيا لكان أروع، لكن الأمر الذى يحدث أن كل عضو يفتح درج مكتبه ليخرج بحثا، سبق أن تقدم به إلى ترقية، أو قدمه فى مؤتمر، أو كتبه طلبا لجهة ما، لشارك به فى الكتاب، الذى تحول إلى «سمك، لبن، تمر هندى»! حيث لا جلوس للمؤلفين معا ومناقشة الموضوعات، ولا أحد يقوم بدور «التحرير» الذى ينسق بين الموضعات وأسلوب كتابتها،وما بنها من تتابع، وتلافى التكرار.
ولأن الكتاب المذكرة يتكرر كل عام، حيث لا اهتمام بالتطوير والتجديد، فربما يشترى طلاب كل عام جدد نسخ زملائهم فى العام السابق، وهنا كان ابتكار ما يعرف «بالشيت»: جزء ملحق بالكتاب، وغالبا يكون «مختوما»، ويحمل هذا الملحق تاريخ العام الحالى دائما، ويطلب من كل طالب أن يفصل الشيت ويقدمه كأعمال سنة، ومن ثم يضمن الأساتذة أن الكتاب المذكرة لابد أن يشتريه الطلاب!!
وفى الوقت الذى يكسب فيه الأعضاء ألوفا مؤلفة من الجنيهات كل عام، تخسر المعرفة المتخصصة الكثير، حيث تراجعت الدافعية لتأليف كتب مرجعية، عن طريق ناشرين، تتاح للجميع، فيحرص مؤلفوها على أن تقدم جديدا، فضلا عن ضرورة الإتقان، والخشية من النقل عن الآخرين، وإلا افتضح أمرهم.
وإذا كانت هذه هى خسارة المعرفة المتخصصة، فإن الخسارة الأهم هى مجموعة قيم سلبية يتم ترسيخها بطرق غير مباشرة  لدى الطلاب، فضلا عن تراجع واضح فيما يمثله الأستاذ الجامعة  بالنسبة للطلاب...وكل هذا إنما هو بعض من كل!