رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

العسكر والسياسة

أثناء المناقشات الأولية التى دارت بين جمال عبدالناصر، وعدد من الضباط السوريين الذين جاءوا إلى مصر أوائل عام 1958، طلبا للوحدة بين البلدين، كان من أهم ما شدد عليه عبدالناصر هو أن يتخلى الضباط الوحدويون عن مواقعهم العسكرية، حيث كان الرجل عميق الوعى بأن انغماس الضباط السوريين فى السياسة، مع الإقرار بما لهم من دوافع الوطنية المخلصة، كان طريقا جهنميا إلى كثرة الانقلابات العسكرية.

وكان عبدالناصر نفسه، كما أشرنا فى مقال سابق لنا هو من أكد على كثير من ضباط يوليو، فى الفترة الأولى من الثورة، بأن من يريد الاشتغال بالسياسة فليخلع «الكاكى»، كناية عن ترك الخدمة العسكرية، حيث كان مدركا لإغراء امتلاك القوة العسكرية فى السعى للاستحواذ على السلطة، بالانقلاب على غيره الذى يتولاها.
وإذا كنا نشعر بالامتنان لهذا النهج فى التفكير لعبدالناصر، ونقدر مواقفه الوطنية والتحريرية، إلا أننا لا نستطيع أن ننسى له أنه، مع الأسف الشديد، هو أول من أسس لتوغل العسكر فى شرايين الدولة، الأمر الذى اتسع وتوحش بحيث يستحيل أن تجد مجالا من مجالات العمل فى الدولة إلا وتجد للعسكر وجود ملحوظ، لا أى وجود بل وجود متميز.
ونحن نعرف أننا إذا استثنينا البلدان المتخلفة، فسوف نجد أن العمل السياسى محرم على العسكر، حتى هذا الحق الوطنى الشهير، حق المشاركة فى انتخاب رئيس الجمهورية، ونواب البرلمان، محرم على العسكر: الشرطى والحربى، دون أن يعنى هذا أبدا، لدى من أسسوا لذلك وشرعوا له، الانتقاص من وطنية العسكر، فهم الذين يحملون أرواحهم على أكفهم، معرضين لفقدها فى أية لحظة، ولكن لسببين أساسيين:
أولهما، أن العمل السياسى غالبا ما يرتبط بالأحزاب، والأحزاب تنظيمات سياسية يقوم كل منها على مبادئ وأهداف، غالبا ما تختلف عما لدى الأحزاب الأخرى، وعمل العسكر بالسياسة، لابد أن يؤدى إلى «التحزب»، بينما الخدمة العسكرية الوطنية، هى ساحة عمل للمواطنين كافة، بغير تمييز بين فئة وأخرى، طائفة وأخرى.
ثانيهما، وهو الأهم، من حيث الواقع البشرى، هو امتلاك العسكر للقوة المسلحة، مما يجعل الحوار، إذا اشتغلوا بالسياسة، مهددا بقعقعة السلاح، تماما مثل لو تخيلت أن مباحثات أو مناقشات تجرى بين جماعة من الناس وخلافات حول مسألة من المسائل، وهناك واحد يمسك بيده قنبلة أو مسدساً، كيف تستمر المناقشة؟ لا يكون هناك إلا مسار واحد، وهو الاستسلام لحامل السلاح، والرضوخ لأوامره ونواهيه، بل وربما تدبيج قصائد المديح لها.
هذا فى الوقت الذى نجد فيه أن العمل السياسى، يعتمد بالدرجة الأولى على الحوار، ومقارعة الحجة بالحجة، والتنافس فى خدمة الجماهير، وغير هذا وذاك من الوسائل «السلمية».
بل إن الأمر يصل فى عدد من البلدان المتقدمة إلى تحكيم مقولة شهيرة تنص على أن الحرب أخطر من أن تترك للعسكريين وحدهم، فالقادة السياسيون، هم الذين يقررون أمر الحرب والسلام، بعد أخذ رأى العسكريين، حتى يمكن التأكد من امتلاك القوة

الكافية للانتصار، وفرق كبير بين أن تكون القاعدة هى «بعد أخذ رأى»، وهى الصيغة السائدة فى البلدان المتقدمة، وبين صيغة تقول «بعد موافقة..» تلك التى نجدها فى الإعلان غير الدستورى، «التكميمى» وليس «التكميلى»، الذى صدمنا صدوره بليل شديد الظُّلمة.
الصيغة الأولى، تتبناها الدول المتقدمة، لأنها تُنزل عسكرها منزلتهم التى تُعين على رفعة الوطن واستقراره، حيث إن القوات المسلحة «قوة تنفيذية» تأتمر بأمر السلطة السياسية، بينما نراها فى الدول المتخلفة، على غير ذلك: قوة آمرة، ناهية، حاكمة!
إن التخلف والتقدم لا يُقاسا فقط بمقدار المعرفة الممتلكة، ولا بمقدار التقنيات المستخدمة، ولكنها فى تلك الحكمة النبوية الرائعة، القائلة بأن معيار الرشاد من الفساد فى أمة من الأمم هو: «أن يُوَسّد الأمر لغير أهله»، أى يوكل الأمر لمن لم يُعَد أصلا لذله، بل وأدركته الحكمة الشعبية المصرية التى تقول «إد العيش لخبازه، ولو كَلْ نصفه»!!
والقراءة البسيطة، ولا نقول المتعمقة فقط، تكشف كيف أن الإعلان الكارثى، الذى صدر بليل، قد فاق فى توغله وتغوله على جميع ما صدر فى مصر منذ بدء حكم العسكر فى 1952، حتى الآن، وأبسط ما ينبئ عنه، مخالفة صريحة لوعد العسكر برفع اليد عن السلطة، ورد الأمانة إلى صاحبها، و«العسكرية»، من مزاياها المعروفة هى صدق الوعد، والوفاء بالعهود، ومن ثم فإن مخالفة ذلك، تُفقد الثقة فى أهلية المخالف أن يكون أمينا على مصير بلد بحجم مصر...
ونحن جميعا، أفراد الشعب ومواطنى مصر، لا نملك طائرات ولا دبابات ولا غواصات، ولا كم قل أو كثر من النيران، لمقاومة هذا العدوان السافر على ثورة نبيلة، لم تقذف بحجر واحد على من ثارت عليهم، رغم أنهم نهبوا الوطن وخربوه، وقزموه أمام العالمين..
لكن دروس التاريخ بطول الحياة الإنسانية، تؤكد أن إرادة الشعوب، لها من القوة ما يفوق كل الأسلحة المعتادة مما يملكه ناكثو الوعد، المطيحين بصدق العهد بعيدا، حتى ولو بعد حين!