رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

.. وأخيراً وجد د. العوا نفسه!

في خريف عام 1951، وقف زعيم الوفد العظيم، مصطفي النحاس، في البرلمان قائلاً: «من أجل مصر، وقعت معاهدة 1936، ومن أجل مصر، أطالبكم اليوم بإلغائها».. وكانت تلك قنبلة وطنية مدوية، حيث كان إلغاء المعاهدة مطلبا شعبيا بامتياز.. وكان أحمد حسين، زعيم مصر الفتاة، دائم الهجوم الضاري، في جريدته، علي الزعيم الوفدي، فلما أعلن الزعيم إلغاء المعاهدة، كتب أحمد حسين مقالا ما زلت أذكره، عَنْونه بـ «وأخيرا وجد النحاس نفسه»! تقديرا للفعل .

ولا أدري كيف تم استدعاء هذا بسرعة إلي ذاكرتي، حال أن عرفت نتيجة الجولة الأولي من انتخابات الرئاسة، وفيها، خرج الدكتور محمد العوا من السباق.
ومن الغريب أن هاجمني وقتها شعوران متناقضان: أولهما حزن عميق، والآخر، فرح غريب.. وجه الحزن، أنه، رغم توقعي بألا يفوز العوا بمركز متقدم ، لكني لم أتوقع أن يحصل العوا علي هذا العدد الذي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعكس ولو عشر قيمة الرجل وقدره.
أما وجه الفرح، فيفسره أن أروي للقارئ العزيز، أن الظروف قد ساقتني في طريق العوا، في بداية تفكيره في الترشح للرئاسة، حيث تزاملنا في مناقشة رسالة دكتوراه في تربية طنطا، ولما تأخر علينا الدكتور، وسألت عنه قيل إن طلاب كلية الآداب ما أن عرفوا بوجوده، حتي نظموا لقاء حضرته أعداد غفيرة من طلاب الكلية وكليات أخري، ولما تقابلنا قال العوا إن جماهير الطلاب طالبته بالترشح للرئاسة سائلاً رأيي.
كان رد فعلي المباشر، أن قلت له ما عرفت أن غيري قاله له فيما بعد، بل وسُئل في ذلك، عبر لقاءات تليفزيونية.. ألا وهو أن العوا مفكر من العيار الثقيل، تطرح عليه أي قضية، في أي وقت، وفي أي ظروف، فإذا به كالشلال الهادر، بغير سابق إعداد، ولا تردد، لتنظيم الأفكار، وتجري النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، والشواهد الفقهية علي لسانه بسرعة غريبة، وكأن هناك أزرارا خفية، ما أن يقترب من فكرة، حتي تستدعي له علي الفور هذه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وتلك الشواهد الفقهية، في إطار يحكمه الاتساق العقلي، والتسلسل المنطقي، والترابط الفكري، وهو ما يستغرق فيه أمثالنا وقتا طويلاً في إعداد الكلمة التي نُدعي إلي إلقائها في أي  مناسبة، مما يدفعني - بصراحة شديدة - أن أشعر بقدر من الغيرة من هذا الرجل الذي يصعب، إن لم يستحل، مجاراته في هذا.
كان لنا منطقنا، وهو أن عالم الفكر يختلف كثيرا عن عالم السياسة، وإذا أردنا تشبيها إنشائيا لقلنا أن الأول عالم ورود ورياحين، والثاني عالم أوحال ومطبات.
وكان منطقه أن هذا أدعي له للتقدم حتي يفيد عالم السياسة بقدر من التفكر والتعقل والحكمة الضابطة لحركتها.
وكانت المعركة الانتخابية نفسها تطبيقا صريحا لمنطق محبيه وعشاقه، ومنطقه الذي آمله وتصوره.
لقد كان - حسب طبيعته - عفيف اللسان، صادق الوعد، مستقيم الطريق، نظيف اليد، وصدق عزيزي القارئ أن أصدمه عندما أقول له، وأن هذا ما كان سببا قويا في ألا يحظي بما أملنا من أصوات، لأن المعارك الانتخابية، وهي صورة من صور العمل السياسي، أحيانا ما تتطلب طول اللسان، واللف والدوران، وربما لا يكون هناك مانع من طول اليد أحيانا، إذا ما توافر الغطاء القانوني أو الشكلي.
كانت وعوده، في حدود الممكن، وقياسا إلي قدراته الشخصية، وكانت تبدو لديه صور حسن الظن، والكياسة والقدرة علي الجدل..
وهذا نفسه ما لا يجري تداوله في عالم السياسة...
كان يبرز إيمانه بجدوي وضروة الاتفاقات والتفاهمات، في عالم سياسة يقوم علي الصفقات، وقد يرادف كثيرون بين الاتفاقات والصفقات، بينما أري بينهما فرقا دقيقا، قد يطول شرحه هنا، ويكفي الإشارة إلي أن الصفقة يحكمها منطق «الغاية تبرر الوسيلة»، بينما الاتفاق يكشف عن تقدير كل طرف لظروف ومطالب الآخر.
كان العوا عندما يتحدث، أتصور أن المجتمعين لسماعه، هم صفوة فكر، ونخبة رأي، بينما بعض من خاضوا الانتخابات أو استُبعدوا، يضعون نصب أعينهم دغدغة المشاعر، ومخاطبة العواطف، بغض النظر عما يكون من غياب المنطق.
وتستحضر ذاكرتي الآن نموذجين، نموذج مترشح تم استبعاده، وكيف كانت هناك ملايين تتبعه مسحورة بأحاديثه التي لو حللت منطقيا لتطايرت من ورائه هذه الجموع الحاشدة، ومرشح آخر حالي، لو ترك لحاله هو لتواري وراء جدران بيته، بدلا من الاحتماء وراء صناديق أموال المفسدين، والمخربين ومن لا يريدون لمصر تقدماً.
وفقاً لبورصة الانتخابات، يتراجع مفكر عظيم مثل العوا، ويتقدم غيره ممن لا يساوون معشار ما يحصلون عليه لو دخلوا بورصة الوطنية والمنطق والأخلاق.
لقد كسب العوا نفسه، بالخروج من المستنقع السياسي الحالي، وكسبناه نحن، وكسبته مصر والوطن العربي مفكرا وطنيا مسلما وسطيا، مُنَوّرا لملايين العقلاء.