عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

التعليم الذي نريد (6)

لو نظرت إلي أية شجرة، أيا كان نوعها، في أي مكان، فسوف لا تخطئ ملاحظة أنها ذات جذر واحد، وفروع متعددة، لأن الجذر هو »الأساس«، الذي إذا تعدد، لم يعد الأمر أمامنا أمر شجرة واحدة، بل عدة أشجار، وفقا لتعدد الجذور.. شيء مثل هذا لابد أن يكون في الشخصية الإنسانية، كما ألمحنا في مقال سابق، حيث أكدنا أن الأركان الأساسية للهوية الوطنية، هي التي تشكل هذا الأساس.

ومن هنا تتحدد وظيفة أساسية للتعليم، وهي أن يقوم بالتنشئة للمواطن وفقا للقسمات الأساسية للوطن، من خلال مرحلة تعليمية يبدأ بها ومنها، في أولي سنوات تعلم الأطفال، وفقا للنظام القائم حاليا، حتي لقد اصطُلح علي تسمية هذه المرحلة باسم »التعليم الأساسي«، بمعني أن التعليم هنا يقدم للطفل »أساسيات المواطنة«.. ونقصد بمرحلة التعليم الأساسي هنا، وأيضا وفقا لقانون التعليم عام 1981: المرحلة التي تضم فترتي التعليم الابتدائي، والتعليم الإعدادي، مدة تسع سنوات.

فإذا ما تعدد التعليم في هذه المرحلة المبكرة من عمر الطفل، وقُدم في صورة أشكال وأنواع تعليمية مختلفة، وجدنا أمامنا »تبايناً« سلبياً بين المواطنين يؤسس للاختلاف الشديد، ولا يدع فرصة للوحدة الوطنية.

ولعل من أكثر البلدان التي يمكن أن نلاحظ تجربة عملية لذلك، هو لبنان.

فلظروف تاريخية متعددة، لا محل لها هنا، أصبح لكل طائفة - علي وجه التقريب - تعليم خاص بها، فهذا مسلم سني، وذاك مسلم شيعي، وهذا مسيحي أرثوذكسي، وذاك مسيحي ماروني، وهذا مسيحي كاثوليكي، وهذا أرمني.. إلخ، فإذا بالمواطن اللبناني »يرضع« منذ المهد، المكونات الأساسية للاختلاف والتباين.

وربما يكون هذا مفسرا لما يحدث بكل أسف للبنان، من حين لآخر من انقسام وتباين حاد، تستغله قوي محلية وإقليمية ودولية في في بث فُرقة، تتيح لها تحقيق مصالحها الخاصة علي حساب المصلحة اللبنانية، وقد وصل التباين والاختلاف الحاد إلي ذروته في السبعينيات والثمانينيات إلي حد نشوب حرب أهلية.

ويمكن للقارئ أن يسرع فينبه إلي أن المولي عز وجل خلقنا، من الأصل »مختلفين«، فقال سبحانه في سورة فاطر: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ »27« وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يخْشَي اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ »28«).. وقال عز وجل أيضا في سورة الروم: (وَمِنْ آَياتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَياتٍ لِلْعَالِمِينَ »22«).

ويلاحظ القارئ في الآيتين الإشارة المشتركة، إلي أن هذا الاختلاف هو مما لابد للعلماء أن يعرفوه، ولا تكون هذه المعرفة مما يوجب وصف صاحبها بالعلمية، إلا إذا كانت قائمة علي بحث ودراسة، وتوظيف.

بل وهناك فرع ضخم في علوم النفس عُرف باسم »سيكلوجية الفروق الفردية«، قائم علي أساس التباين بين قدرات الناس واستعداداتهم، كما ظهر مؤخرا ما يسمي »الذكاءات المتعددة«، وحتي في طرق التعليم، عادة ما ننصح المعلم، وننصح الآباء والأمهات، بضرورة مراعاة ما بين التلاميذ والأبناء من اختلاف وتنوع، وعبر المثل الشعبي عن هذا بالقول »كل فولة ولها كيال«، و»صوابعك مش زي بعضها«.. وهكذا.

لكننا إذ نعي أن »الاختلاف« هو سنة إلهية في الكون والناس، وهو مؤسس لتنشيط التفاعل وتبادل المنافع، لابد أن نعي أيضاً ضرورة أن تكون هناك »قواسم مشتركة«، أيضا حتي يمكن لكل منا أن يتعامل مع الآخر، وآية ذلك، اللغة، علي سبيل المثال، بحيث لابد أن تكون هناك لغة قومية يتعامل عبرها أبناء الوطن الواحد، وقل مثل هذا في كثير من الجوانب والقسمات.

ووظيفة التعليم الأساسي أن يقدم قدرا مشتركا بين أبناء الوطن الواحد للتأسيس لرشد التعامل والتفاعل بين المواطنين بعضهم بعضا.

لكن المشهد التعليمي في مصر يباين هذا مباينة مؤسفة حقاً.. فهناك قِسمة بين تعليم مدني، وتعليم ديني.. وبين تعليم وطني، وتعليم أجنبي، وداخل التعليم الوطني، هناك قِسمة بين تعليم مجاني، وتعليم بمصروفات.. وداخل التعليم الوطني بمصروفات، هناك قسمة بين تعليم تجريبي، وآخر خاص.

وداخل التعليم الأجنبي، هناك قسمة بين تعليم أمريكي، وآخر إنجليزي، وثالث فرنسي، ورابع ألماني.. وهكذا، مما يجعل من التعليم »موزايك« مؤسف حقا، محزن فعلا، يفرز إلي المجتمع مواطنين مختلفي التكوين، متفاوتي المشارب.

ولا يقتصر التعدد والتباين علي أنواع التعليم، ومقرراته، ونظمه، وإنما - وقد يكون هو الأخطر، لكن له حديث آخر - ما يعكسه كل هذا من تفاوتات اجتماعية، وتباينات طبقية تعكس انتفاءً للعدل التربوي، فضلا عن العدل الاجتماعي.

إن البعض يتصور أن هذا التعدد صورة من صور »التنوع الثقافي« الذي يرونه ضروريا لمزيد من الانفتاح، والاستفادة من الخبرات الثقافية  والتعليمية العالمية المختلفة، ونحن إذ نقر بالمبدأ، لكن مخالفتنا تكمن فقط في توقيت »التعديد«، و»التنويع«، حيث نراه خطرا في مرحلة التعليم الأولي الأساسية، ونراه ضروريا، بعد ذلك.

وإن ما يحزن حقا، أن يقوم علم من أعلام التعليم والثقافة في مصر، عُرف بتشيعه للثقافة الغربية، ألا وهو طه حسين، وهو يصرح بذلك علنا في كتابه الشهير »مستقبل الثقافة في مصر«، عندما اختير وزيرا للتعليم في وزارة الوفد عام 1950 حيث حرص علي

استصدار قانون يقضي بتوحيد تعليم المرحلة الأولي، لوعيه العميق بأن أمر المواطنة لا يستقيم حقيقة إلا إذا توحد التأسيس، وبعد ذلك، فلنفرع كما نريد، ثم نأتي، مع الأسف، بعد أكثر من نصف قرن، لنجد تراجعا مخجلا، يعيدنا إلي ما قبل الخمسينيات من القرن الماضي، زمن الاحتلال البريطاني خاصة.

ومن هنا فإننا نشدد علي ضرورة توحيد تعليم المرحلة الأولي، حتي بالنسبة للثنائية بين التعليم المدني والتعليم الديني! إن البعض ربما يصدمه هذا القول منا، ولكنا نحيله إلي مؤتمر تم عقده، في أواسط الأربعينيات من القرن الماضي عن سياسة التعليم، وقف فيه عالم شهير، كان أستاذا رائدا في الفلسفة الإسلامية، ورئيسا لمجمع اللغة العربية، وهو الدكتور إبراهيم بيومي مدكور لينادي بمثل هذا.

وإذا كان هناك بالفعل تعليمات من وزارة التربية بضرورة التزام كافة المدارس المدنية بتعليم اللغة العربية، والتاريخ والجغرافية، وهو أمر جيد حقا شكلا، إلا أن التطبيق الفعلي ينبئ بأن اللغة العربية - مثلا - لا يتم الامتحان فيها، مما يهبط كثيرا بقيمتها لدي جميع أطراف العملية التعليمية.. ثم إننا نزيد علي ذلك بضرورة أن تكون المقررات كلها موحدة في جميع المدارس.

صحيح أن اللغة العربية، والدراسات الاجتماعية هما الأهم، لكننا نتحدث عن كافة عناصر التعليم، وضرورة توحيدها.

ويرتبط بهذا أيضا، أن يكون تعليم المرحلة الأولي باللغة العربية.. ولابد أيضا أن نتحمل تبعة هذا بأن نزيد جرعة تعليم الدين، عوضا عن دمج التعليم الأزهري، في هذه المرحلة.

سيثور البعض بأنهم يدفعون آلافا من الجنيهات كي يحصل أبناؤهم علي التعليم المتميز الذي تقدمه المدارس غير الحكومية، فإذا تم التوحيد ، فما جدوي هذا الإنفاق الكبير؟

وردنا: أن المنطق العلمي التربوي والنفسي، والمصلحة الوطنية، تجُب هذا التعدد، خاصة أن التميز له صور متعددة: في ارتفاع مستوي المعلمين ،وفي وجود خدمات تعليمية متعددة ومتنوعة، تشمل توافر مساحات خضراء وأفنية واسعة، ومعامل تعليم جيدة، وتعدد وثراء في الأنشطة التعليمية، وفي قلة عدد الطلاب في الفصل الواحد، وفي الإدارة المدرسية.. فضلا عن إجازة تعليم لغة أجنبية تعليما متعمقا، كلغة »تعلم«، وليس كلغة »تعليم«.. وهكذا.

وبعد هذه المرحلة من التعليم الأساسي، يكون هناك تنويع، حيث نكون قد ضمنا، إلي حد كبير، توحيدا في تأسيس المواطنين، يوفر لهم فرصا ثرية للتفاعل والتفاهم والتعاضد والتضامن.

ويترجم هذا التنويع داخل نظام موحد للتعليم الثانوي، في دراسة مدتها ثلاث سنوات، ويكون هناك تفريع إلي: تعليم عام، وتعليم فني، وتعليم ديني، وذلك بعد الانتهاء من دراسة الصف الأول الثانوي.

ولأن الصف الأول يهييء الطلاب للدراسة التخصصية، يصح أن تتضمن مقرراته ، ما يتصل كذلك بكل من العليم الديني والتعليمي الفني، بحيث لا تقل مقررات كل تخصص (عام، وفني، وديني) عن مقررين.

وداخل التعليم الفني، يكون هناك تفريع آخر، وفقا لمقتضيات التعدد والتنوع في هذا القطاع، كما نشهد الآن.

وبالنسبة لكل تخصص، لابد من أن يختار الطالب مقررا واحدا من مقررات التخصصين الآخرين، فيختار طالب التعليم العام، مثلا، مقررا من شعبة التعليم الفني، ومقررا من شعبة التعليم الديني، وهكذا الأمر بالنسبة لطلاب كل تحصص.

وهنا يكون توجه طلاب شعبة التعليم الديني، إلي الكليات الأزهرية الأصلية: أصول الدين والدعوة، واللغة العربية، والشريعة فقط، وتفتح كليات الأزهر المدنية أبوابها لطلاب التعليم العام.

ولابد أن تفتح كليات الهندسة أبوابها لطلاب التعليم الصناعي، وكليات الزراعة، لطلاب التعليم الزراعي، وكليات التجارة لطلاب التعليم التجاري.