رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

في " مديح الكراهية "

هذا الجو من الكراهية أصبح يحيطنا ويسمم علينا أنفاسنا. المسؤول الأول عنه مايبثه الاخوان من دعايات وحقد أسود. إنه مناخ الانقسام والتعصب ونفى الآخر. ولعله يذكرنى برواية لكاتب عربى من سوريا ، صدرت أخيرا فى طبعة ثالثة أو رابعة من دار العين المصرية. الكاتب هو الروائى "خالد خليفة"، والرواية هى "مديح الكراهية".

يختار " خليفة " أن يجعل راويته صوتاً أنثوياً ، يتفجر بالرغبة للحياة والحب . امرأة ننساق وراء مشاعرها وتداعياتها النفسية ، بدءاً من سن المراهقة . تلح عليها رغبات جسدها الغائر فتكبتها بأناشيد صوفية لرابعة  العدوية من داخلها! ، بينما تقاليد " البازار " الحلبي والطائفة السنية تضع أغلالها حول عنقها . توظف البطلة – الراوية إرهاصات تمردها في إطار الدفاع عن " الطائفة "، التي تحتكر الحديث باسم " الإسلام الحق " وتجعل الطائفة الأخرى " العلوية " من الكفار . تنضم إلى جماعة  " الإخوان المسلمين " وتشاركهم طريق الآلام والدم والكراهية .
تجري أحداث الرواية في أكثر من مكان . لكن المكان " الثابت "، والذي ترجع إليه الرواية دائماً ومكرراً وبقصد ، هو بيت العائلة في حلب في حي الجلوم " حلب القديمة ". بيت لعائلة عريقة حلبية ، يسكنه أربعة نساء وخادم أعمى. وعبر التحولات السياسية والاجتماعية تترك الأحداث بصماتها على ذلك المنزل وساكنيه . نرصد مجتمعاً تغزوه " الكراهية الطائفية " باضطراد ، بالتوازي مع الاستبداد الشمولي وآلياته. 
يخطئ من يظن أن " خالد خليفة " يتحدث عما حدث في سوريا في ثمانينات القرن الماضي ، بل هو يتحدث عن واقع عربي مؤلم يتردى في نيران الكراهية ، تختلف درجة سعارها هنا أو هناك .
مع تصاعد سيمفونية " الكراهية " السوداء والحقد الأعمى والثأر الدموي ، تنساب تفاصيل إنسانية وديعة وسط ذلك الصخب . رحلة النساء الأسبوعية إلى حمام المدينة مع خادمهم الأعمى رضوان وما تمثله من تحرر نسوى من قيود وكبت ، حفلات العشاء العائلية وحضور الإخوة الذكور وأحاديثهم ، الخالة مروة وفراشاتها الحزينة الجميلة والمحنطة داخل أدراج زجاجية ، وحتى الخالة مريم الصارمة تعتني بمنمنمات وتفاصيل " جهازها " وثياب عرس في انتظار عريس لن يحضر أبداً بينما تتجرع ذكريات حب من طرف واحد مرة لبرهة في حياتها . تبدو الرواية كقطعة سجاد ثمينة وأثرية ، تتجاور فيها النقوش والمنمنمات ، بينما تصنع " الكراهية " خلفيتها بأحداث حقيقية مروعة ، تتكاثر النقوش الإنسانية العذبة مع رومانسية حزينة على سطحها .
كل أبطال الرواية وطقوسها ، هم ضحايا لقهر " الأيديولوجيا " المصمطة التي لا تعرف التسامح ، سواء كان ذلك تحت راية الدين أو الطائفة أو القومية أو الشيوعية . يبدو سحق " الإنسان " أمام التنظيم سواء كان حزب البعث أو جماعة الإخوان المسلمين أو التنظيم السياسي الآخر                 " الشيوعي " مرادفاً لثنائية الحب المطلق مقابل السياسة والمصالح الفئوية ، والإنسان المفرد مقابل وباء الكراهية الجماعية .  
تطرح نهاية الرواية تساؤلاً ، بل إشكالية خطيرة تمس واقعنا العربي . نجد فيها المثقفين وأطراف الفتنة والكراهية الطائفية ، قد أفاقوا من غفوتهم ، فوجدوا أنفسهم مشردين ، مجبرين على الهجرة والفرار من الخراب والدمار . لم يكن الأصوليون استثناءً ، فلقد لجأوا إلى الغرب " الكافر " للفرار من الاضطهاد . إسلاميون وليبراليون وشيوعيون سابقون وجدوا حريتهم فقط في أوربا والغرب لينعموا بأمان من مطاردة الاستبداد والكراهية ، هل هي قيم " الحرية الفردية " وقيمة              " الفرد " ، التي هي جوهر الحداثة ، وراء ذلك اللجوء ؟ أليس غريباً أن يلجأ أصحاب النظريات الشمولية وشبه الشمولية إلى أوطان تعترف بحق الفرد في الاعتقاد والاختيار خارج الطائفة والجماعة والمألوف ؟ .إشكالية تطرح بعمق أسباب نكوص الشرق عن مسيرة الحرية والديمقراطية والتحديث .
من بقى من شخصيات الرواية في " الوطن " ، كان مصيره انتظار الموت في صمت .             " مريم " تصنع تابوتاً وتستبدل به سريرها ، لتنام كل يوم فيه ، في انتظار موت وراحة أبدية . إنه عشق الموت . رضوان الأعمى ينتظر معها موتاً ، يكون نهاية قصة عشق من طرف واحد ، لم يستطع أن يبح بها . " عمر " ينكفئ بين الملذات والتجارة ليقضي ما تبقى من عمر في وطن تسوده الكراهية والخراب ، أما " سليم " فيختبئ وراء " صوفيته " منعزلاً عن الجميع ، غير آبه بما يدور حوله .
تبقى " مديح الكراهية " عملاً رائعاً يكشف بشجاعة عن أن حرية الإنسان وحق الفرد في الاختيار قضية لم يتم حسمها في مجتمعاتنا العربية ، بينما انتهت كل الأنظمة التي تعتبر الإنسان مجرد " ترس " في آلة بلا مشاعر وبلا عواطف وبلا طموحات . هي رواية يجب أن تقرأ ، لأنها تتعرض لمصير مخيف ينتظرنا إذا غرقنا في بحر الكراهية ، وهي " رواية " تكشف عن مبدع روائي كبير .