الخطر المرعب للقراءة
للمفكر الفرنسي المعروف " فولتير " قصة قصيرة لا تتعدى صفحتين , لكنها تمس حياتنا الراهنة بشكل مثير . القصة صاغها " فولتير " , في النصف الثاني من القرن الثامن عشر, على شكل " فتوى "
صادرة من مفتي استانبول إبان الدولة العثمانية , وملأها فيلسوف الحرية بسخرية لاذعة وخيال خصب . لكن حكاية" فولتير " مبنية على واقعة حقيقية , عندما دخلت المطبعة ذات الحروف العربية , والتي كانت تكتب بها التركية , لأول مرة إلى عاصمة الخلافة العثمانية عام 1726 . أحدث دخول تلك المطبعة ضجة كبيرة , فقد قام مفتي الدولة,الذي أسماه فولتير "يوسف شاريبى" بتحريم طباعة الكتب الدينية بها , وتمت إقالة السلطان أحمد الثالث من عرشه وحدثت ثورة , أطيح فيها بالصدر الأعظم .
• فتوى " فولتير "
أخذ فولتير هذه الواقعة , ونسج عليها حكاية أسماها " الخطر المرعب للقراءة " . استند فولتير في فتواه الساخرة . على أن المطبعة آلة ملعونة محرمة لأسباب ثلاثة , هي أنها ستبدد الجهل , والجهل أساس أي دولة , وأنها ستأتي بكتب من الغرب مليئة بالأفكار المسمومة , ولأنها ستؤدي إلى طباعة كتب الفلاسفة , وهم أسوأ من الشيطان نفسه . لم يكن الفيلسوف الفرنسي مهتماً بالطبع بأحوال الشرق العثماني , ولكنه كان يريد الإسقاط على الواقع السياسي والاجتماعي الفرنسي ومهاجمة سلطة الكنيسة الكاثوليكية ورجال الدين في فرنسا آنذاك .
تذكرت واقعة المفتي وحكاية فولتير , وأنا أطالع فتاوى بعض مشايخ هذا الزمان. تذكرت أيضاً رقابة" الأزهر " التي أصبحت سيفاً مشرعاً , ليس على الكتب الدينية فقط , بل على الإبداعات الأدبية من شعر ورواية وقصة . وتذكرت أيضاً قرار الأزهر منذ سنوات بمصادرة خمسة آلاف نسخة من كتاب باللغة الإنجليزية عن " محمد بن عبد الوهاب " مؤسس " الوهابية " , وكأن " الأزهر الشريف " قد جعل من نفسه حارساً للمذهب الوهابي , وعد نفسه مدافعاً عن " محمد بن عبد الوهاب " , ناسياً أن رسولنا ونبينا هو " محمد بن عبد الله " عليه الصلاة والسلام .
عندما بدأ انتشار الكهرباء في القاهرة وأصبحت تضيء الشوارع وبيوت الأثرياء , وقعت الواقعة . بذل " المشايخ " جهداً بالغاً في مقاومة إنارة المساجد بتلك المصابيح " الشيطانية " , مدللين بأن الكهرباء سوف تفسد روح الجلال الذي يسكن بيوت الله , وتطلب الأمر جدلاً ومعركة شعواء انتصر فيها رجال الدين المستنيرون .
لم تعرف بلدان عربية أيضاً المذياع حتى النصف الثاني من القرن العشرين لأن حكامهم ومناصريهم من رجال الدين كانوا يرون في الإذاعة عملاً من أعمال الشياطين . كان وصول الكلمة إلى الناس هو تبديد للجهل , وكان أي تبديد للجهل هو خطر عل نظام الحكم . لم يكن " فولتير " مخطئاً في سخريته قبلها بمائة عام . أما دخول " التلفزيون " فقد احتاج إلى معركة في أحد البلاد العربية , كادت أن تبذر الشقاق بين أسرة حاكمة وحلفائها الدينيين . تلك الوقائع تثبت أن هناك من يحاول استغلال الدين للوقوف أمام سنة التطور والتحديث , وأن فتاوى بعض المشايخ لم تكن لوجه الله ولوجه مصلحة المسلمين , بل للحفاظ على مصالح البعض المستفيد من القديم البالي .
• فتاوى الظلام
احتاجت المطبعة إلى مائة عام أخرى بعد دخولها إلى عاصمة الخلافة العثمانية , لتدخل مصر المحروسة
كما أن للظلام " شيوخ " يدافعون عنه , كان أيضاً للحرية والعقل " مشايخ " يفتحون للنور نافذة كي يدخل منها . لعل أبرزهم , هم شيوخ الأزهر الكبار : محمد عبده , ومصطفى عبد الرازق ومحمود شلتوت . تولى الشيخ مصطفى عبد الرازق مشيخة الأزهر لمدة لا تزيد عن ثمانية عشر شهراً , انتهت بوفاته في سن مبكرة , فخسر الأزهر والإسلام مجدداً وعقلاً مستنيراً . وكان لمصطفى عبد الرازق رأياً في الفتوى بثه في مقال له عام 1926 في صحيفة " السياسة " . كان يرى أن " المفتي " ليس شبيهاً ببابا الفاتيكان , وأن " وظيفة " الإفتاء " كالأعضاء الأثرية التي تلبث ناتئة في الجسوم من غير أن يكون لها عمل " , وينهي مقالته " بأن من مصلحة الدين أن تلغى تلك الوظيفة مادام وجودها يوقع في وهم الناس أن في الإسلام بابا تسير كلماته ورغباته على المؤمنين , وقراراته لا تقبل المناقشة "
تداعت كل تلك الأفكار والذكريات إلى ذهني وأنا أتمعن في قصة " الخطر المرعب للقراءة " التي ترجمها الدكتور صادق نعيمي في كتاب صدر له فى القاهرة بعنوان " الإسلام في عصر الأنوار " عن دار شرقيات. وقانا الله وإياكم كل " الأخطار المرعبة" القادمة ممن يقاوم أنوار القراءة والمعرفة والعقل، وممن يصدر فتاوى " ظلامية " تثير الفتن والبغضاء في مجتمعات آمنة .