رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الخطر المرعب للقراءة

للمفكر الفرنسي المعروف " فولتير " قصة قصيرة لا تتعدى صفحتين , لكنها تمس حياتنا الراهنة بشكل مثير . القصة صاغها " فولتير " , في النصف الثاني من القرن الثامن عشر, على شكل " فتوى "

صادرة من مفتي استانبول إبان الدولة العثمانية , وملأها فيلسوف الحرية بسخرية لاذعة وخيال خصب . لكن حكاية" فولتير " مبنية على واقعة حقيقية , عندما دخلت المطبعة ذات الحروف العربية , والتي كانت تكتب بها التركية , لأول مرة إلى عاصمة الخلافة العثمانية عام 1726  . أحدث دخول تلك المطبعة ضجة كبيرة , فقد قام مفتي الدولة,الذي أسماه فولتير "يوسف شاريبى" بتحريم طباعة الكتب الدينية بها , وتمت إقالة السلطان أحمد الثالث من عرشه وحدثت ثورة , أطيح فيها بالصدر الأعظم .

• فتوى " فولتير "
أخذ فولتير هذه الواقعة , ونسج عليها حكاية أسماها " الخطر المرعب للقراءة " . استند فولتير في فتواه الساخرة . على أن المطبعة آلة ملعونة محرمة لأسباب ثلاثة , هي أنها ستبدد الجهل , والجهل أساس أي دولة , وأنها ستأتي بكتب من الغرب مليئة بالأفكار المسمومة , ولأنها ستؤدي إلى طباعة كتب الفلاسفة , وهم أسوأ من الشيطان نفسه . لم يكن الفيلسوف الفرنسي مهتماً بالطبع بأحوال الشرق العثماني , ولكنه كان يريد الإسقاط على الواقع السياسي والاجتماعي الفرنسي ومهاجمة سلطة الكنيسة الكاثوليكية ورجال الدين في فرنسا آنذاك .
تذكرت واقعة المفتي وحكاية فولتير , وأنا أطالع فتاوى بعض مشايخ هذا الزمان.   تذكرت أيضاً رقابة" الأزهر " التي أصبحت سيفاً مشرعاً , ليس على الكتب الدينية فقط , بل على الإبداعات الأدبية من شعر ورواية وقصة . وتذكرت أيضاً قرار الأزهر منذ سنوات  بمصادرة خمسة آلاف نسخة من كتاب باللغة الإنجليزية عن " محمد بن عبد الوهاب " مؤسس " الوهابية " , وكأن " الأزهر الشريف " قد جعل من نفسه حارساً للمذهب الوهابي , وعد نفسه مدافعاً عن  " محمد بن عبد الوهاب " , ناسياً أن رسولنا ونبينا هو " محمد بن عبد الله " عليه الصلاة والسلام .
عندما بدأ انتشار الكهرباء في القاهرة وأصبحت تضيء الشوارع وبيوت الأثرياء , وقعت الواقعة . بذل " المشايخ " جهداً بالغاً في مقاومة إنارة المساجد بتلك المصابيح " الشيطانية " , مدللين بأن الكهرباء سوف تفسد روح الجلال الذي يسكن بيوت الله , وتطلب الأمر جدلاً ومعركة شعواء انتصر فيها رجال الدين المستنيرون .
لم تعرف بلدان عربية أيضاً المذياع حتى النصف الثاني من القرن العشرين لأن حكامهم ومناصريهم من رجال الدين كانوا يرون في الإذاعة عملاً من أعمال الشياطين . كان وصول الكلمة إلى الناس هو تبديد للجهل , وكان أي تبديد للجهل هو خطر عل نظام الحكم . لم يكن " فولتير " مخطئاً في سخريته قبلها بمائة عام . أما دخول " التلفزيون " فقد احتاج إلى معركة في أحد البلاد العربية , كادت أن تبذر الشقاق بين أسرة حاكمة وحلفائها الدينيين . تلك الوقائع تثبت أن هناك من يحاول استغلال الدين للوقوف أمام سنة التطور والتحديث , وأن فتاوى بعض المشايخ لم تكن لوجه الله ولوجه مصلحة المسلمين , بل للحفاظ على مصالح البعض المستفيد من القديم البالي .

• فتاوى الظلام
احتاجت المطبعة إلى مائة عام أخرى بعد دخولها إلى عاصمة الخلافة العثمانية , لتدخل مصر المحروسة

. جاء الفرنسيون ليغزوا مصر في عام 1798 , وجاء معهم المدفع والمطبعة العربية . لكن عندما ذهبوا أخذوا معهم مطبعتهم , وظلت مصر دون مطبعة عربية حتى الثلاثينات من القرن التاسع عشر . أدخل محمد علي المطبعة ذات الحروف العربية ليطبع منها " الجرنال " . نشرة من صفحتين لأوامر الباشا , يتم طباعة مائة نسخة فقط منها . بعد " الجرنال " ظهرت " الوقائع المصرية " ليتم طباعة سبعمائة نسخة منها , لكن المطبعة بقيت , وازدادت أعدادها . ظهرت الكتب والصحف , فجاء نور المعرفة , وظهرت معه " فتاوى الظلام " لبعض المشايخ , الذين يرون أن القراءة خطر مرعب . ظهرت " الرقابة " على الصحف والكتب , وتمدد سلطان البعض ليصادر إبداعاً هنا أو هناك .
كما أن للظلام " شيوخ " يدافعون عنه , كان أيضاً للحرية والعقل " مشايخ " يفتحون للنور نافذة كي يدخل منها . لعل أبرزهم , هم شيوخ الأزهر الكبار :                محمد عبده , ومصطفى عبد الرازق ومحمود شلتوت . تولى الشيخ مصطفى عبد الرازق مشيخة الأزهر لمدة لا تزيد عن ثمانية عشر شهراً , انتهت بوفاته في سن مبكرة , فخسر الأزهر والإسلام مجدداً وعقلاً مستنيراً . وكان لمصطفى عبد الرازق رأياً في الفتوى بثه في مقال له عام 1926 في صحيفة " السياسة " . كان يرى أن  " المفتي " ليس شبيهاً ببابا الفاتيكان , وأن " وظيفة " الإفتاء " كالأعضاء الأثرية التي تلبث ناتئة في الجسوم من غير أن يكون لها عمل " , وينهي مقالته " بأن من مصلحة الدين أن تلغى تلك الوظيفة مادام وجودها يوقع في وهم الناس أن في الإسلام بابا تسير كلماته ورغباته على المؤمنين , وقراراته لا تقبل المناقشة "
تداعت كل تلك الأفكار والذكريات إلى ذهني وأنا أتمعن في قصة " الخطر المرعب للقراءة " التي ترجمها الدكتور صادق نعيمي في كتاب صدر له فى القاهرة بعنوان " الإسلام في عصر الأنوار " عن دار شرقيات. وقانا الله وإياكم كل " الأخطار المرعبة" القادمة ممن يقاوم أنوار القراءة والمعرفة والعقل، وممن يصدر فتاوى " ظلامية " تثير الفتن والبغضاء في مجتمعات آمنة .