عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الله أكبر فوق كيد المعتدى

سوف لن يغفر لنا التاريخ إهمالنا للموسيقار محمود الشريف إلي هذه الدرجة المزرية، وهو الذي سجل انتفاضة مصر في مواجهة العدوان الثلاثي الجبان، بصيحة نشيده العظيم (الله أكبر) ذلك النشيد الذي امتد تأثيره من رد العدوان إلي بعث النصر في حرب أكتوبر، ولن يضمحل تأثيره علي طول الزمان فليس علي ظهر الأرض إنسان لا يهتز من نشيد الله أكبر حين يسمعه.

كل معاني الكلمة اكتملت في هذا النشيد الصيحة الداوية المقدسة، ما إن تسمعه حتي تراك تشمخ بأنفك في عزة وكبرياء، يمتلئ صدرك بالهواء النقي إذ تهتز أعطافك ويطرب وجدانك من فرط إحساسك بالقوة المؤيدة بروح من عند الله.. الله أكبر فوق كيد المعتدي حقاً.

هذا النشيد يقوم بالدرجة الأولي علي النغم الموسيقي، صحيح أن كلماته التي وضعها الشاعر عبدالله شمس الدين كانت مليئة بالحماسة والبساطة بساطة العمق، وفيها قدر كبير من الشعر البسيط المستساغ الملتهب مع ذلك، إلا أن الأنغام الموسيقية التي احتوته هذه الكلمات رفعت اللحن والكلمات إلي قمة عالية، إذ نجح اللحن في اصطياد الإيقاع الحقيقي للثورة العربية ممثلة في قوتها لرد هذا العدوان الأثيم من جانب ثلاث دول تريد إقامة أمجاد زائفة فوق أشلائنا.

ارتفع اللحن عما يسمونه بالأغنية الوطنية إلي قيمة إيجابية تسهم في إحياء الوطن وفي تحديد معناه وإبراز هويته مجسدة شاخصة للبصر، إن الأذن لا تكاد تسمع دبيب أنغامه حتي تنتفض الأعماق انتفاضاً عنيفاً ينتفض العنفوان، يخفت القلب بالحب العميق لمصر حباً مقتبساً من حب الله سبحانه وتعالي، ومن جلال الدين والوطن، تستيقظ في الأعماق طبقات من المشاعر السخنة مفعمة بأمل عظيم في انتصار بعيد المدي ولهذا عاش نشيد الله أكبر في وجدان الوطن العربي كله ولم يكف عن ترديده إلي اليوم كأنه تميمة النصر أو تعويذة للنهوض.

وللموسيقار محمود الشريف ليس هذا النشيد فحسب، ولكن هذا النشيد هو إحدي قممه الكثيرة بقدر ما هو ـ الشريف ـ إحدي القمم الموسيقية العربية المعاصرة، غير أنه قمة متميزة عن غيرها من القمم بكونها جاءت صوتاً للتاريخ، معبرة عن شعور جماعي بشخص فيه أمة بأكملها.

إن محمود الشريف عنصر أصيل في تركيبة الوجدان الشعبي العربي، تلك حقيقة لا جدال فيها إلا ممن يجهلون قدره وتاريخه في ظل هذه الفوضي الغنائية التي غرقنا فيها منذ نكسة السابع والستين إلي اليوم.

علي امتداد نصف قرن من الزمان أو يزيد ومحمود الشريف لا يني عن الإسهام في بناء وجدان مصر والعرب، كان، ككل فنان حقيقي موهوباً ترتبط موهبته بالضمير ومتوهجاً إلا إذا كان الإبداع في خدمة الإنسانية في تنوير الضمير، إذا لم يكن في العمل الفني سعي إلي الارتقاء بالنفس البشرية فإنه لا يكون عملاً ولا يكون فناً ولا يجدر بفنان أصيل ذي موهبة، وضمير الفن عند محمود الشريف إما فناً وإما تهريجاً ضاراً بالإنسانية، وبخاصة فن الموسيقي والغناء إنه فن علي درجة خطيرة من الحساسية، مليء بالمنزلقات والمنحدرات القاتلة، وفي قول له إن علي كل فنان حصيف أن يعي هذه المنزلقات والمنحدرات فيحذرها ويحمي نفسه منها.

ذلك أن فن الموسيقي والغناء من أصعب الفنون وأسهلها في نفس الوقت، إذا ما أسهل أن تتعلم الموسيقي والعزف علي الآلات ومعرفة أسرارها، ولكن ما أصعب أن تكون فناناً، إن خبرتك بهذا الفن، مهما تضخمت واتسعت، لا تعني أنك فنان، إنما الفنان هو من يملك قدرة السيطرة علي هذا العالم من الرموز والمقامات والأنغام، يقول إن الأنغام كالألوان لكل لون مشتقاته العديدة ومعرفتك بكل ذلك لا تعني بالضرورة أنك فنان تشكيلي قادر علي رسم لوحة جديرة بأن يقتنيها أحد، إنما الفنان هو من يجعل من هذه الألوان بكل مشتقاتها لغة يرسم بها لوحة حاشدة بالمعاني والدلالات.

في أيامنا الخالية كان انتشار العمل الفني جماهيرياً يعتبر وثيقة علي أهمية هذا العمل وقيمته، بعكس هذه الأيام، لأنه كان ينتقل علي مهل شديد فنحن تعنى الأغنية في حفل في مناسبة ما، أو نسجلها علي أسطوانة محدودة الانتشار، وحتي قبل اختراع الراديو والأسطوانة كانت الأغنية تنتقل من الحفل إلي أسماع الناس، عموم الناس، إذا كان اللحن أصيلاً وجديراً بالفعل ومبنياً بناء سليماً واضحاً فإنه نطبع علي شريط الأذن خاصة أن جمهورنا العربي من عادته أن يستعيد المغني مثني وثلاث ورباع، ثم يعيد المستمع ترديد هذا اللحن علي مسامع آخرين، فيستعيدونه بدورهم، فيطبع في آذانهم فإذا هم يغنونه في مناسباتهم وأفراحهم بل وفي الحقول وعند السواقي وأحياناً عند الانفراد بالنفس، وهكذا يكتسب اللحن شرعية الحضور فلا ينمحي من ذاكرة الوجدان حتي وإن تم نسيانه مؤقتاً، وإنه في رحلته من بيئة إلي بيئة، من مدينة إلي قرية يتعرض لامتحانات صعبة قد يخرج منها قوياً صلباً صامداً وقد يتساقط في الطريق حين تطفئ الأيام بريقه ويتضح أنه من معدن رخيص.

كانت الجماهير إذن هي صاحبة السلطة الحقيقية في الحكم علي اللحن، هي التي لا تعطيه جواز المرور إن كان زائفاً مغشوشاً، وتعطيه شهادة النجاح والبقاء إن كان أصيلاً صادقاً.

إن محاولة الانسلاخ من التراث الغنائي القومي التي تقوم بها السلطة الإعلامية الراهنة باعدت بين الملحنين والمطربين الجدد والناس بطبيعة الحال وبين أن يتطور الغناء ويتجدد ويبقي علي أصالته، فما كاد الناس يملكون أجهزة التسجيل حتي تمردوا علي الغناء المفروض عليهم من الإذاعة، وراحوا يستلهمون وجدانهم البدائي الغفل من الثقافة الفنية، ولأن المنجز التكنولوجي في حد ذاته سلطة قوية تتيح لمن يملك جهاز طبع ونشر أن يفرض علي جمهرة المستمعين ما يعجبه هو من أصوات وألحان، ولهذا فقد شاعت ألوان من الغناء التافه الرخيص، لكن هذه الإمكانية التكنولوجية نفسها في المقابل أتاحت لأصحاب الذوق السليم أن يكونوا لأنفسهم مكتبات غنائية من الغناء المحترم.

هذه الآراء هي بقايا ذكريات شخصية من جلسات متعددة بيننا عبر صداقة حميمية استمرت أكثر من عشرين عاماً.

كان محمود الشريف مهرجاناً غنائياً وحده قائماً بذاته، ربما كان أكبر فارس لعب في حلبة الأغنية الشعبية بعد أن خلت بموت سيد درويش سكندري هو مثله وأغنياته تحمل بدقتها الشخصية الواضحة، الأغنية ذات «الفورم» أو الشكل الفني النابع في موضوعها، ليست مجرد طرب يتمايل منه المستمع وينتشي مردداً: يا سلام.. ياعيني.. إلي آخر ما يحدثه الغناء، النظر بين الرخيص، الذي يصفي النفس من كل الانفعالات الإيجابية النبيلة ويغرقها في بلهنية من الأنغام، و«الهنك والرتك»، إنما الأغنية الدرويشية ـ الشريفية تهدف إلي رسم صورة موسيقية، تضع تمثالاً حياً من الموسيقي لحزمة من المشاعر في تجربة موضوعية محددة، اللحن تشخيص بتجربة شعورية في صورة صوتية مبهجة تنقي المشاعر وتنعش القلب والعقل فتفتح شهية المستمع للحب وتؤهله لاستيعاب الحياة بشكل جيد.

من منا لم ينبهر وينفعل بالذوق الغنائي الشعبي الرصين في أغنية لنجاة الصغيرة: «اوصفوا لي الحب» و«عطشان يا اسمراني» في اللحن الأول صورة الحيرة اللذيذة للفتاة الصغيرة تجاه الحب وعالمه

الذي لم تدخله بعد أو ربما هي علي وشك الدخول؟ كانت آلة الناي تنوح بزفرات صدر الفتاة مجسدة عمق الحيرة ونشوتها في آن معاً، في اللحن الثاني صورة لشخصية نهر النيل الأسمراني الذي يتدفق في الأواني وفي عروقنا وعروق الأرض، أنغام اللحن تحي ارتفاع الموج وانسيابه وترسم إيقاع الأشرعة تصافح الريح، وهدير المراكب وهي تمخر العباب.

من منا لم يستمتع بمرحلة كاملة من الغناء قدمها الشريف لصوت شادية فصنعت لها هذه الشخصية الحبوبة في قلوب المصريين هل ننسي أغنية «يا دبلة الخطوبة عقبالنا كلنا» أو أغنية «حبينا بعضنا» أو أغنية «يا دنيا ذوقوكي بالعز والهنا» أو تلك الأغنية العذبة التي طالما صافحت آذاننا في كثير من الأصبحة السعيدة علي لسان فتاة تغني لأمها «يانور عينية واكتر شوية يا أغلي عندي من الدنيا دية»! ولمحمود الشريف مع شادية مشوار طويل وكانت ألحانه لها هي التي دقت لصوت شادية أوتاداً في الوجدان العربي، ولقد تطورت ألحانه لها فطورت صوتها، فأيام كان صوتها يعطي الطباع لفتاة الشعنونة الحبوبة الشقية كانت الألحان تنطق بذلك، وحينما كبر صوت شادية واكتسب رصانة وعمقاً قدم لها الشريف ما يناسبها من الألحان: «حبه حبة يا حبيبي»، «ياريت ابقي نسمة وأنا أخدك واطير»، وغير ذلك.

ومن منا لم يترنم مع كل من محمد عبدالمطلب وكارم محمود بالأغنية العتيدة «يابوالعيون السود» لقد كانت هذه الأغنية، قبل انتشار جهاز الراديو أشهر أغنية شعبية في تاريخ الغناء المصري، وهل ننسي روائع محمود الشريف لمحمد عبدالمطلب: «بتسأليني باحبك ليه» تلك الأغنية الرصينة التي يدب لحنها في الإحساس كدبيب الخضرة في فروع وأوراق الشجر، أو أغنية «وأنا مالي يا بوي وأنا مالي»، التي مثلت صيحة الشخصية الصعيدية بسؤال عفوي تتبرأ فيه من مسئولية الصد والهجران بخفة ظل صادقة الشعور، وأغنية «ودع هواك ودع» ذات اللحن الشجي، أو أغنية «يا أهل المحبة ادوني حبة» أو أغنية «رمضان جانا».

أغنيات محمود الشريف تأخذ طريقها إلي القلوب في سهولة لتستقر فيها تؤنسها تصبح بعض متاعها الحميم، أينسي أحدنا أغنية ليلي مراد: «اسأل علىّ» التي طالما رددها الشارع المصري في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، أو أغنيتها «من بعيد يا حبيبي باسلم».

وكيف ننسي ألحانه للمطرب الشعبي الكبير عبدالغني السيد التي صدح بها طوال عمره وكانت هي الأخري عصراً غنائياً كاملاً يستحيل نسيانه: «البيض الأمارة» و«وله يا وله» و«ياهوي»، و«علشانك يا حارمني حنانك»، و«ع الحلوة والمرة»؟

لقد لحن محمود الشريف لجميع المطربين والمطربات من مختلف الأجيال والنوعيات، ولم يلحن لعبدالحليم حافظ سوي أغنيتين اثنتين: «يا سيدي أمرك» و«حلو وكداب» وهما لحنان فريدان بارزان في كل ما غناه عبدالحليم.

ويعتبر محمود الشريف قاسماً مشتركاً في كل الأفلام الغنائية التي قدمتها السينما المصرية خلال خمسين عاماً من عمرها، وحين نسمع هذه الأغنيات اليوم في تلك الأفلام تدهشنا روعتها، وكيف كانت متقدمة عن ذوق عصرها أغنيات: «يا خارجة من باب الحمام وكل خد عليه خوخة»، و«بطلوا ده واسمعوا ده» و«زوقوها مخطروها» بصوت شهرزاد و«جوة عينيه سحر مخبيه» بصوت نور الهدي، و«القلب ولا العين» بصوت سعاد محمد وغيرها وغيرها.

وإلي ذلك كان محمود الشريف قاسماً مشتركاً في البرامج الغنائية الإذاعية، خاصة تلك التي كتبها عبدالفتاح مصطفي وأخرجها محمد محمود شعبان، لعل أشهرها «قِسَم» و«الراعي الأسمر» وقد غني بصوته في برنامج «قسم» من ألحانه لحن «يا خال أنا خالي روقت لك بالي».

وهناك لحن تغنيه المطربة عصمت عبدالحليم يقول مطلعها «رايحين علي سوقنا بالغلة والعيش الصابح والجبنة»، كلما سمعتها أتعجب من هذه القدرة التعبيرية التي استخدمها في تقديم صورة موسيقية لجو سوق القرية بصخبه وضجيجه وخوار الماشية من خلال الاستخدام البارع للآلات الموسيقية.

وفي مجال الوطنيات والمناسبات القومية لم يدخر وسعاً في تقديم الألحان المشرقة القوية التأثير خذ عندك أغنية المطربة أحلام «ياحمام البر سقف» التي غنتها في عيد الجلاء بكلمات لصلاح جاهين، نسمعها فتبدو الموسيقي كرفرفة أجنحة الحمام إذ يلحق في سلام، وأغنية محمد عبدالمطلب: «يا سايق الغليون عدي القنال عدي» التي غناها بعد انسحاب المرشدين الأجانب من القناة وتولي المرشدون المصريون المهمة، وأغنية فايدة كامل «عاد السلام يا نيل».

كل ذلك عدا أغنيات أخري كثيرة جداً لعدد كبير من المطربين والمطربات المصريين والعرب، وذلك هو محمود الشريف، الذي ظل طوال عمره، ذلك الفنان العملاق الضخم المترفع والمتعفف ينأي بنفسه عن مجالس الصخب واللهو والنميمة يخلو طوال الليل إلي آلتي العود والبيانو يستلهمهما فتوحات في عالم النغم.

ألا يستحق محمود الشريف أن تقيم له دار الأوبرا احتفالية كبيرة تليق بتاريخه الحافل وقيمته الثمينة!؟