عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

ما قبل أصداء السيرة الذاتية

ونحن نحتفل بمئوية نجيب محفوظ لمدة عام كامل من ديسمبر‮ ‬2010‮ ‬إلى ديسمبر‮ ‬2011،‮ ‬يطيب لي‮ ‬أن أتوقف عند بعض آرائه ووجهات نظره التي‮ ‬كانت ولاتزال محل خلاف بين المثقفين،‮ ‬من ذلك مثلاً‮ ‬رأيه في‮ ‬فن السيرة الذاتية،‮ ‬حيث كان قد أدلى بتصريح للصحفي‮ ‬الأديب محمد الشاذلي‮ ‬ضمن حدث له معه نشرته مجلة‮ "‬المصور‮" ‬الغراء في‮ ‬أوائل تسعينيات القرن العشرين،‮ ‬وفي‮ ‬ذلك الحين كان الدكتور لويس عوض قد أصدر كتابه‮ "‬أوراق العمر‮" ‬يتضمن فصلواً‮ ‬من سيرته الذاتية أثارت حفيظة بعض المثقفين المتحفظين،‮ ‬لكنها حظيت بإعجاب الغالبية من القراء،‮ ‬وفي‮ ‬نفس الحين كان الكثيرون من عامة المثقفين‮ ‬يطالبون نجيب محفوظ بإلحاح‮ ‬يقارب الضغط بأن‮ ‬يكتب هو الآخر سيرته الذاتية‮.‬

وقد علقت على رأي‮ ‬نجيب محفوظ في‮ ‬حينه،‮ ‬ولكنني‮ ‬اليوم أراني‮ ‬مدفوعا الى إعادة قراءة هذا الرأي‮ ‬نظراً‮ ‬لصدوره عن مبدع كبير ذي‮ ‬موهبة استثنائية ومن ثم‮ ‬ينبغي‮ ‬أن نعود الى كل ما‮ ‬يصدر عنه من آراء شخصية،‮ ‬بنفس الاهتمام والشغف اللذين نتناول بهما أعماله الفنية‮.‬

لخص نجيب محفوظ رأيه في‮ ‬فن السيرة الذاتية،‮ ‬أو الترجمة الذاتية كما‮ ‬يسميها طبقاً‮ ‬لما عُرفت به في‮ ‬تراثنا الثقافي‮ ‬العربي،‮ ‬في‮ ‬كلمات قليلة،‮ ‬رداً‮ ‬على سؤال عن سر إحجامه عن كتابة سيرته الذاتية حيث قال‮: "‬لي‮ ‬رأي‮ ‬لم تأت مناسبة لاعلانه فيما‮ ‬يسمى بالترجمة الذاتية،‮ ‬أنا لا أفهم الترجمة الذاتية الا لرجل‮ ‬يستحق أن‮ ‬يكون له ترجمة ذاتية،‮ ‬من الذي‮ ‬يستحق ان تكون له ترجمة ذاتية؟ في‮ ‬نظري‮ ‬اثنان‮: ‬العسكري‮ ‬والسياسي‮.. ‬لماذا؟ لأنهما بحكم العمل لهما ظاهر وباطن وهذا بحكم العسكرية والسياسية،‮ ‬لذلك كنت أقرأ ترجمات العسكريين والسياسيين وأفهم حقائق كان لا‮ ‬يمكن التوصل إليها الا عن طريق هذه الترجمات‮.‬

‮"‬كثيرون‮ - ‬يقول‮ - ‬يحبون الترجمة الذاتية على أساس‮ ‬يا رايح كتر من الفضايح،‮ ‬والتقليد الأعمى ففي‮ ‬يوم من الأيام كتب جان جاك روسو الفرنسي‮ ‬مذكرات صريحة،‮ ‬والناس تحب الفضائح،‮ ‬فأحدثت ضجة،‮ ‬وأصبح هناك سباق وكلما كنت أجرأ على كشف الفضائح العالية تكون كاتبا أعظم‮!! ‬هناك من لا تستحق حياتهم ترجمة ذاتية،‮ ‬وكل كلمة في‮ ‬مذكراته كان‮ ‬يمكن أن تكتب دون اصدار ترجمة ذاتية فما الذي‮ ‬يبقي‮ ‬بعد ان فضح أباه وأمه؟ ما قيمة هذا؟ وفي‮ ‬الحقيقةعندما أقرأ هذه التراجم أو أسمع عنها أتألم،‮ ‬وأتساءل ما ذنب الأب والأم؟ الكاتب شخصية عامة لكن أباه وأمه وأولاده ليسوا شخصيات عامة،‮ ‬فهل كل أسرة نبغ‮ ‬ابن لها‮ ‬يكون مصيرها الفضيحة؟ الترجمة الذاتية أصبحت سباقا في‮ ‬الفضائح لأناس لا تستحق حياتهم ترجمة ذاتية،‮ ‬ولا‮ ‬يمكن أن تقدم تراجمهم للناس إلا بمبرر وحيد هو ما فيها من فضائح‮!.. ‬ما عدا ذلك فإن الكاتب‮ ‬يستطيع تقديم حياته في‮ ‬أدبه والمفكر في‮ ‬فكره والفنان في‮ ‬فنه،‮ ‬التراجم الذاتية أصبحت سباقا في‮ ‬الفضائح،‮ ‬ولها أسوأ أثر في‮ ‬الاجيال الصاعدة‮".‬

لسوف نفند هذا الرأي‮ ‬ونقف عند كل جزئية فيه ولكن بعد أن نستكمل ما قاله عن كتاب‮ "‬أوراق العمر‮" ‬للدكتور لويس عوض،‮ ‬ذلك لأنه استطرد في‮ ‬نفس الموضوع‮ ‬يستكمل به وجهة نظره،‮ ‬وفي‮ ‬نفس الوقت‮ ‬يغمز الدكتور لويس بسبب هذا الكتاب‮ ‬غمزة مستترة‮ ‬يجب أن نلحظها ونشير إليها،‮ ‬فلقد سأله المحرر سؤالا مباشراً‮: ‬هل‮ ‬يدخل في‮ ‬هذا السباق أوراق العمر للراحل الدكتور لويس عوض؟ فأجاب الاستاذ نجيب بقوله‮: "‬أنا تألمت من هذا الكتاب‮.. ‬أنا لم أقرأ أوراق العمر ولكنني‮ ‬عرفت الفضائح العائلية التي‮ ‬جاءت فيه دون داع،‮ ‬فما الذي‮ ‬استفاده الادب من هذه السطور؟ هل‮ ‬يستطيع أحد أن‮ ‬يجيبني؟ أليس لوالديه اللذين فضحهما أثر في‮ ‬تكوين لويس عوض؟ فهل هذا جزاؤهما؟ ان بقية الكتاب لا‮ ‬يستحق الترجمة الذاتية،‮ ‬ففيه تأريخ عن ثورة‮ ‬19،‮ ‬وهو‮ ‬يؤرخ لكل شىء،‮ ‬وفيه تأريخ لمعاصريه،‮ ‬وهو‮ ‬يؤرخ لكل المعاصرين‮.. ‬فكل ما عدا الفضائح من أوراق العمر لا‮ ‬يستحق الترجمة الذاتية،‮ ‬فهل الترجمة الذاتية هي‮ ‬فضح أفراد العائلة؟‮.. ‬وهذا ليس رأيي‮ ‬في‮ ‬لويس عوض بل في‮ ‬كتابه أوراق العمر فقط،‮ ‬أُعز لويس عوض وأحبه حقيقة،‮ ‬ولكني‮ ‬تألمت من كتابه الأخير الذي‮ ‬فضح فيه عائلته التي‮ ‬كان‮ ‬يمكن أن تعيش في‮ ‬الستر لولا نبوغ‮ ‬لويس عوض،‮ ‬وبقية الكتاب هو شغله اليومي‮ ‬ولا‮ ‬يحتاج ترجمة ذاتية،‮ ‬والكاتب الذي‮ ‬لديه ترجمة انسانية عليه أن‮ ‬يقدمها في‮ ‬فنه وتكون أسمى من الفضائح،‮ ‬وستكون تجربة عامة‮ ‬يصل فيها الكاتب من الخاص الى العام،‮ ‬ولو أن حياتي‮ ‬تستحق الكتابة أو تفيد أحداً‮ ‬لكتبتها على الفور‮.. ‬هذا اقتناعي‮ ‬الذاتي‮ ‬منذ قرأت سيرة جان جاك روسو‮".‬

عندئذ سأله المحرر‮: ‬لماذا تكون الترجمة الذاتية مغرية للكاتب في‮ ‬أخريات عمره إذن؟ فيجيب‮: "‬في‮ ‬إحدى المرات أنقذت أديبا‮ ‬غير مشهور كان‮ ‬يتصور أن كتابه قصة حياته هي‮ ‬التي‮ ‬ستساهم في‮ ‬شهرته‮.. ‬وقرر أن‮ ‬يكشف في‮ ‬حياته خبايا وأسراراً‮ ‬في‮ ‬منتهي‮ ‬الغرابة‮.. ‬فحدثته عن ابنه وابنته المراهقين عندما‮ ‬يعرفان هذه الأسرار فماذا سيكون الموقف؟ وتركته لنفسه ولم‮ ‬يفعلها‮. ‬انسان‮ ‬ينتحر علنا،‮ ‬والكتاب سوف‮ ‬ينتشر ولا‮ ‬يجلب الا الفضيحة وضياع ولد وبنت وأسرة،‮ ‬اما الاديب الذي‮ ‬يصل الى اخريات عمره ولديه فائض تجارب انسانية تحتاج لترجمة ذاتية فمن المؤكد أنه لم‮ ‬يكتب شيئا ذا قيمة،‮ ‬فالكاتب طوال حياته الادبية‮ ‬يقدم تجارب انسانية وبكتابتها

لم تعد تجارب شخصية‮.. ‬ولكن هناك استثناء مثل حالة طه حسين الذي‮ ‬تغلب على عقبات لا‮ ‬يتصورها الخيال،‮ ‬ولذلك احترم ترجمته الذاتية‮.. ‬الأيام كتابات استثنائية وتكون في‮ ‬جانب الخير وهي‮ ‬تغري‮ ‬الكاتب لأن كل كاتب أناني‮ ‬ونرجسي‮ ‬ومقتنع بأنه محور الكون ويحتاج لكتاب أخير‮ ‬يقول فيه هأنذا بينما هو لا شىء وحياته لا تساوي‮ ‬شيئا‮".‬

الشىء الوحيد الذي‮ ‬أختلف فيه مع استاذنا هو ربطه للسيرة الذاتية بما أسماه بالفضائحية،‮ ‬فالاعتراف بحقائق الأشياء وجوهر المواقف ودخائل الشخصية لا‮ ‬يشكل بالضرورة نوعا من الفضيحة لأي‮ ‬أحد،‮ ‬فهنالك فرق بين الفضائحية والكشف عن الحقائق الانسانية الجوهرية،‮ ‬ولربما‮ ‬يكون الدكتور لويس عوض قد وقع دون أن‮ ‬يدري‮ ‬في‮ ‬فخ الفضائحية من حيث أراد اعطاء صورة دقيقة وصادقة عن ابيه وأمه وشقيقته وبعض أفراد عائلته،‮ ‬الا أنها فضائحية من وجهة نظرنا نحن كشرقيين نميل الى الستر بجميع درجاته ومستوياته حتي‮ ‬إن كان ذلك على حساب الحقيقة الموضوعية،‮ ‬في‮ ‬حين أنها في‮ ‬ثقافات اخرى تعتبر قمة الموضوعية والصراحة المطلوبين من كاتب سيرته الذاتية،‮ ‬وإن كان ثمة من ادانة للدكتور لويس عوض انما تكون في‮ ‬نسيانه أنه‮ ‬يخاطب القارئ العربي‮ ‬بالدرجة الأولى مما‮ ‬يستوجب قدراً‮ ‬من التحفظ وإن كنت على شىء من اليقين بأن الدكتور لويس عوض لم‮ ‬ينس هذا بل تجاوزه عن عمد وكتب ما كتب عن قناعة مستمدة من رؤية فلسفية للحياة وللتاريخ والفن والوجود الانساني‮.‬

وأتفق مع استاذنا الجليل في‮ ‬جزئيات كثيرة‮ ‬يمكن اعتبارها توصيفا لبعض أوضاع وحقائق موجودة بالفعل في‮ ‬حياتنا بوجه عام،‮ ‬مثل كون الناس تحب الفضائح فهذا حقيقي،‮ ‬وبعض الكتب السياسية التي‮ ‬راجت في‮ ‬أسواقنا في‮ ‬شكل سير ذاتية أو مذكرات أو ما سمى بشهادة على العصر وهو عنوان مراوغ‮ ‬مضلل،‮ ‬انما راجت في‮ ‬الواقع لما تحويه من فضائح وافتراءات وانتحالات،‮ ‬ثم ان الجانب الفضائحي‮ ‬يفتن الكثيرين من المثقفين قراء وكتابا على السواء وبصورة محيرة بالفعل ولها خطورتها لأنها تشجع شباب الكتاب وشيوخهم أحيانا على اختلاق أسباب تهتك الأسرار والأعراض وتشوه الحقائق والوجوه تحقيقا لشهرة رخيصة ورواج كاذب‮.‬

كذلك لا أتفق مع أستاذنا في‮ ‬أن الناس تحب السيرة الذاتية من أجل ما قد تحتويه من الفضائح،‮ ‬أو ان السيرة او الترجمة الذاتية لابد أن تحتوي‮ ‬على نوع ما من الفضائح سياسية كانت أو اخلاقية،‮ ‬انما‮ ‬يحب الناس فن السيرة الذاتية اكثر من حبهم لفني‮ ‬القصة والرواية لما‮ ‬يقوم عليه فن السيرة الذاتية من امكانية للبوح،‮ ‬والإفضاء،‮ ‬حيث‮ ‬يفرغ‮ ‬صاحب السيرة ما في‮ ‬جوفه من متاع سابق،‮ ‬كيف عاش وكيف ناطح صخور الحياة وحقق ما حقق من نجاح مرموق او فشل مشهود؟ كيف انهزم ولماذا؟ كيف صارع الشر أو صرعه الشر؟ انه عندئذ‮ ‬يفحص محتويات نفسه لعله‮ ‬يكتشف عمق ما فيه من زيف أو أصالة،‮ ‬وهو اكتشاف لا‮ ‬يتم على النحو الصحي‮ ‬الصحيح الا بإيحاء القلم وعملية الكتابة نفسها والشعور بالتزام الصدق والامانة مع الكلمة المكتوبة‮.. ‬انه التقديس الانساني‮ ‬العريق لمعني‮ ‬الكلمة المكتوبة ولقيمة الادب في‮ ‬الاساس،‮ ‬وبعض كبار الروائيين في‮ ‬العالم أمثال هنري‮ ‬ميلر الأمريكي‮ ‬يستعيرون ضمير المتكلم للحكي‮ ‬به للاستفادة من ايحاء بالسيرة الذاتية ومن رصيدها في‮ ‬الوجدان العام،‮ ‬استجلابا للمصداقية‮.‬

ولكن الواقع ان استاذنا قد اتسق مع نفسه كابن للطبقة المتوسطة بشقيها الزراعي‮ ‬والتجارب،‮ ‬قد ورث حرصها على المظهر العام للشخصية تكريسا لمبدأ القدوة والمثل الاعلى،‮ ‬وتلك قضية نتعشم أن نعود اليها في‮ ‬مقال آخر بعد حين‮.‬