عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

ليلتى الأولى فى باريس

ليس في باريس شارع أنظف أو أهم من شارع، فكل الشوارع تكاد تكون شارعاً واحداً كشجرة سامقة ترتفد منها عشرات الأفرع بمئات الأغصان، كلها مورقة ولامعة كالبللور أرضاً وأبنية حيث المدينة عنوان علي ساكنيها، سجَّل لتاريخها المجيد، ولكنني كأى فلاح منبهر بالمدن خائف منها في نفس الآن، بدا لي شارع سان ميشيل درة الحي اللاتيني، هكذا ارتبطت به عواطفي من أول وهلة، ليس فحسب لأن المركز الثقافي المصري يقع في عمارة في منتصفه، وإنما إلي ذلك شعرت أنه شارع يفتح لي أحضانه عن آخرها يقول أدخلني أيها الفلاح المصري وتجول في ربوعي دون وجل مثل فلاحين مصريين كثيرين من قبلك من بينهم الصعيدي طه حسين والشبراخيتي الإمام محمد عبده والقروي البحراوي توفيق الحكيم والمثال الفلاح مختار. ويقول لي شارع سان ميشيل إن باريس أسهل وأبسط بكثير من زائريها من العالم الثالث حينما يعودون إلي أهلهم بشخصيات مركبة قد تلبسها الروح الباريسي الساحر فأصبحت مغالية في باريسيتها فكأن الواحد منهم متحف غير مدروس غير منظم، وإذ يري الآخرون باريس من خلالهم فلن يروا إلا واحدة من صورتين: إما المرأة المنحلة المبذولة لكل شرقي فتي، وإما غابة من الحضارة المعقدة لا يرقي لفهمها واستيعابها إلا الذكي الألمعي.

شعرت بالألفة مع الشارع بمجرد اقتراب السيارة من مبني المركز. وحينما دخلت المركز خيل لي أنني لا أزال في القاهرة وبالتحديد في أحد محلات حي خان الخليلي كان في انتظاري الملحق أحمد المغربي، ومحمود إسماعيل المدير المالي والإداري للمركز وهو في نفس الوقت يحضر رسالة للدكتوراة في جامعة السوربون عن أسلوب جديد في ترميم الآثار الإسلامية، وإيهاب رضوان، هو الآخر شاب صغير السن يعمل في وظيفة إدارية بالمركز ويسعي لدراسة الموسيقي، وهو نموذج للولد المصراوي السالك، الثقيل، رغم مظهر الرصانة تشعر بأنه شقي ولكن علي وعي وحرص وحذر، وقد فاجأني قبل الرحيل بيومين أنه ابن مذيع إذاعة الشرق الأوسط أحمد رضوان، لفرط ذكائه لم يصرح لي بأنه ابن لأحد أصدقائى وزملائى في وزارة الإعلام إلا بعد أن تيقن من رضائى عن شخصه واطمئناني إليه. عم هاشم فراش المركز - المعار من وزارة التربية والتعليم - جاءني بالقهوة المصرية، ولم يتردد في تنبيهي إلى أنني إن طلبت الشيشة فعلي أن أجلس في السرادق الرمضاني الذي لايزال منصوباً علي جزء من الرصيف يدفع عنه المركز ضريبة ككل من يريد احتلال سنتيمترات من رصيف الشارع.

سبقتني حقيبتي إلي الشقة التي سأنزل ضيفاً عليها طوال مدة بقائى هاهنا، ولم ينس أحمد المغربي التنويه عن وعده لي في الهاتف بأن الشقة إن لم تعجبني فسينقلني إلي فندق. الشقة في الطابق الثالث من نفس العمارة التي يشغل المركز جانباً من طابقها الأرضي ببدرومه الواسع المتشعب. علي رقعة صغيرة من الورق كتب لي محمود إسماعيل عنوان المركز والشقة ورقم لهواتف هنا وهاهنا، ورقم الكود الذي يجب أن أسجله علي أزرار اللوحة كلما أردت فتح باب العمارة وهو: 2469A، اللوحة مثل علبة السجائر الفضية مثبتة في صدغ الباب، إن دست علي هذه الأرقام بالتتابع المذكور مع حرف A يتراح لسان الكالون من الداخل وينفتح الباب الحديدي الثقيل دون أن تدفعه بيدك، فما أن تدخل حتي يرتد من تلقاء نفسه منغلقاً، فإن أردت فتحه من الداخل لتخرج دست علي زر في مكان خفي لصق الباب فينفتح الباب في الحال. وهكذا جميع أبواب جميع العمائر والبيوت لكل منها كود خاص لا يعرفه إلا ساكنوها.

العلم والأناقة صنوان متلازمان هاهنا، العقل والجمال يبدوان بوضوح في مثل هذه الحلول المواكبة للعصر دون اعتداء علي حرمة الأصل العريق. هذه العمائر مبنية منذ قرون بعيدة علي طرز متناسقة متعددة الأشكال والأساليب لمزاج معماري واحد هو المزاج الفرنسي الذي ترك بصماته في وسط القاهرة بأبنيته يبعث شكلها من الخارج الراحة في النفوس والابتهاج في القلوب كأنها تتفرج علي تحفة يروق لك أن تحتويك مدي الحياة، فإن دخلتها وجدتها لا تقل جمالاً ولا بساطة. وكان السلم آنذاك رئيسياً في العمارة يبني من الرخام بدرابزينات عتيقة تقاوم الزمن، ولكن بعد إذ تقدمت التكنولوجيا الكهربائية واخترعت المصاعد الكهربائية - الأسانسيرات - فلابد لبيوت باريس أن تأخذ حظها من هذا التقدم دون إجراء أية تعديلات في المبني علي الإطلاق، وليس هذا يصعب علي دولة فيها شركات هندسية استطاعت نقل معبد أبو سمبل كاملاً غير منقوص من مكان تهدده بحيرة ناصر إلي مكان مرتفع، تلك كانت معجزة هندسية فرنسية لا تقل إعجازاً عن بناء المعبد نفسه، ناهيك عن شبكات مترو الأنفاق التي تخترق ممرات تحت قيعان الأنهار، تفتقت العبقرية الفرنسية النيرة عن تفصيل مصاعد غاية في الدقة والمتانة والجمال، كل مصعد تقاس أبعاده وحجمه علي حجم منور السلم في كل عمارة. وكل المصاعد ذات طابع واحد كأن صانعها رجل واحد هو نفسه صاحب البيت قدم في شغله صنعة: شغل المعلم لابنه. باب المصعد حديدي ثقيل بأكرة صابرة قادرة علي الاحتمال أبد الدهر من خبط ورزع لا نهاية لهما. أما المصعد نفسه فعبارة عن كشك من خشب الجوز الخفيف الناعم الأرستقراطي، مستطيل، كنز، يتسع بالكاد لشخص واحد مع حقيبة ملابسه، أو لشخصين. حسن جداً فالعمارة لا تحتاج لأكثر من ذلك حسب عدد شققها المحدود، وكل العمائر سكنية حتي شقق المكاتب والمراكز لا يؤمها جمهور كبير وحتي إن تعرضت للزحام في لحظة من اللحظات فالمصعد مجهز ميكانيكياً ومادة لأن يحتمل الصعود والهبوط إلي ما لا نهاية طالما أن مستعمليه بشر عاقلون لا حيوانات بشرية فوضوية همجية، وحتي أمثال هؤلاء ممن يغدون إلي المدينة فإن المصعد مجهز لردعهم وإيقافهم عند حدهم وتنبيههم إلي استعمال اللطف والعقل.

الشقة ذات طابع قاهري حميم، نفس الذوق الفرنسي الذي انطبع علي وجداننا لانتشاره في القاهرة علي مستويات معمارية واجتماعية متفاوتة. الأبواب ذات الدرفتين من خشب نصفه السفلي مصمت والنصف العلوي مربعات من الزجاج الحاجب المؤطر بالخشب، مدهون باللون الأبيض - سن الفيل، الأكرة العتيقة التالفة دائماً عندنا جديدة هاهنا رغم قدمها الملحوظ تفتح وتغلق بإحكام دون هد أو رزع، في مواجهة الباب مربع ضيق تتكوم فيه صناديق آلات موسيقية وحوامل كاميرات ونوتات. علي اليمين غرفة كبيرة تطل بشرفتين علي شارع سان ميشيل، ومقسومة إلي غرفتين بباب كبير من درفتين متعددتي المفاصل، مغلق ولكن الكراسي الفوتي الجلدية المسنودة عليه تجعل الجالس فوقها يري الغرفة الأخري بوضوح كامل، وهي أصغر في الجزء المجاور ليمين الباب حيث يخصص فيما بدا لاستقبال الضيوف لكثرة مقاعده الجلدية وشلته ووجود جهاز للبث التليفزيوني وجهاز هاتف. أما الغرفة الأصغر المقطوبة فمخصصة للمستر كلود، مصور الفيديو الخاص بالمركز الثقافي، عليه أن يصور كل أنشطة المركز يوماً بيوم يأتي إلي هذه الغرفة البديعة المحندقة، ولها هي الأخرة مدفأة ذات سقف رخامي بارز يستخدم كرف توضع فوقه تماثيل وشرائط وكتب، وتكون في مواجهة أخت لها في الغرفة الأولي. في هذه الغرفة الصغيرة يقوم المستر كلود «بمنتجة» الشرائط لاستبعاد الواغش من الصور، وضبط اللفظات في سياق مرئى متسق مستخدماً في ذلك الكمبيوتر الذي ينجزها في دقائق معدودة. المستر كلود رجل متوسط القامة نحيف البدن قريب الشبه بعباقرة العصور الوسطي في الملامح المترهلة والعينين المرهقتين خلف عدستي منظار طبي دقيق الحجم لا يكاد يلحظ له وجود علي الوجه، ذكي جداً، لماح، يكلمك بالفرنسية، ويستمع منك بالعربية وسواء فهم كلامك أو لم يفهمه فإنه يستشعر مقصدك من الكلام، قيل إنه يرجع في نسبه البعيد جداً إلي أصول تونسية إلا أنه وأباه نفسه مولودان في باريس

كما أنه لا يعرف من اللغة العربية حرفاً واحداً ولم يسافر تونس إلا عاماً، هو مع ذلك متزوج من صحفية تونسية كانت تكتب بالعربية في بعض الجرائد التونسية لكنها لم تجد رواجاً فاستقرت في باريس منذ سنوات طويلة تحرر فقرات لإذاعتي الشرق ومونت كارلو، وتراسل بعض الصحف التونسية، وهي تكاد تتساوي مع زوجها كلود في السن حيث تتجاوز الأربعين من عمرها بسبع سنوات. وكلود في الأصل كان مهندساً للصوت في إحدى شركات الاتصالات اللاسلكية والإلكترونية ولكن هذه الشركة قامت بتوفيره مع عدد آخر من عمالها، ولما كان يعرف أحمد المغربي بالصدفة فإن المغربي ألحقه بهذه المهمة للمركز الثقافي نظير مرتب معين، ومنحه هذه الغرفة كمعمل، وله حق المبيت في الشقة كيفما شاء متي يشاء، وهو كثيراً ما يشاء، حيث يطول مكثه في المعمل ليلاً إلي أن تكف المواصلات العامة عن الحركة، ولو استقل تاكسياً فسيدفع في المشوار إلي مسكنه البعيد ما يصلح أن يكون إيجاراً لشقة في الشهر. فإن تكرر مبيته في هذه الشقة ليلتين متتاليتين فإن زوجه تحضر إليه صبيحة اليوم الثالث لتمكث معه بعض الوقت، قد تأتي له بتشكيلة من الفاكهة بوزن كيلو جرام واحد لكنه مشكل من مشمش وبرقوق وكريز وخوخ وتفاح وعنب، وهذا بالمناسبة متاح في باريس دون غضاضة أو خجل من جانب المشتري أو امتعاض من جانب البائع، لك الحق أن ترفع رأسك في كبرياء وتطلب من الفاكهي أن يبيعك أصبعين من الموز وثلاث تفاحات وهكذا، ورداً علي الفاكهة يعزمها كلود علي العشاء.

تركنا كلود وغرفة الاستقبال لنري الغرفة التي سأقيم فيها، فإذا بنا أمام ممر ضيق يتسع بالكاد لرجلين متجاورين بالعافية، أرضه من خشب الباركيه جعجاعة مقلقة الصوت لولا أن السجادة تكتمه قليلاً علي اليمين يوجد المطبخ، كبير، له شباك كبير علي المنور الذي يستضيف الشمس يوماً كاملاً، فيه موقد غازي ومنضدة وثلاجة ورفوف ملآنة بالأواني والأكواب والأطباق، طوله هو طول الممر الذي نمشي فيه الآن، حيث تواجهنا غرفة مفتوحة فيها سريران ودولاب صغير، يجود بنا الممر فنتركها علي يسارنا لنجد الغرفة الثانية علي نفس الجانب وفيها هي الأخري سريران ودولاب، ويواجهها علي اليمين باب الحمام المزود بحوض لغسيل الوجه وحلاقة الذقن، يليه مباشرة كابينة ضيقة جداً يقبع فيها المرحاض الذي يسمح لك بتحريك ذراعيك عند الاستنجاء الذي لا يعترف به الفرنسيون مستبدلينه بالورق، والمؤكد أن المصريين هم الذين أضافوا هذه الشطافة الخارجية علي شكل سماعة بمصفاة معلقة علي مسمار، وهي بدورها مقرفة مربكة لأنك لا تدري كيف تدخلها إلي البقعة المراد غسلها. في مواجهته باب الغرفة الثالثة وفيها كذلك سريران وكومدينو ودولاب. الغرف الثلاث علي صف واحد، وكل غرفة فيها شرفة مطلة علي الشارع الخلفي وموقعه الجغرافي يضعه في حالة تأهل لاحتواء الشمس واستقطابها عند الشروق وهي مقبلة وعند الغروب وهي قافلة. والشمس تصبحك بالخير علي السرير وتعافيك بالعافية منفرجة بلون الخجل. انتخبت السرير المجاور للشرفة ووضعت حقيبتي علي السرير الآخر وفتحتها لتهوية الهدوم وفردها وفرز الأشياء المطلوب استخدامها علي الفور. وقلت لمحمود إسماعيل إنني ملتزم بالكتابة يومياً، بل وجئت معي بأوراق مسلسل الكومي الذي يجري تصويره حالياً بالقاهرة ولابد من كتابة الحلقتين الأخيرتين فيه قبل حلول موعد هدم الديكور ومغادرة الاستوديو، ولدقة الموقف توجس المنتج وكاد يقع صريعاً أمام إصراري علي السفر بذريعة أنني يجب أن أتجدد وأغير الجو بعد صراع مرير مع هذا المسلسل استمر خمسة أعوام كاملة حتي تحول إلي كابوس مرعب لا مجال هاهنا لذكر تفاصيله إلا كونه وقع في قرابيزي بعد لفة طويلة ومحاولات لكتابة السيناريو لم تعجبني واحدة منها فكان علي إما أن أنقذ روايتي من العبث بها وإلا فلن ألومن بعد ذلك إلا نفسي وعليه تحملت عبء كتابة السيناريو والحوار في ظروف شديدة القسوة شكلت تحدياً وفقني الله في مواجهته ومواجهة تآمر بعض النجوم في خسة شريرة إلي أن استقرت الأوضاع وقطع التصوير شوطاً كبيراً جداً ولم يبق إلا هاتان الحلقتان. ولم أكن في الواقع واثقاً من قدرتي علي إنجاز ولو نصف حلقة واحدة وأنا في قلب باريس لأول مرة فى حياتي، فهل جئت لأشاهد باريس وأستمتع بها لمدة أسبوع واحد أم جئت لأواصل الانغماس في نفس الهم الأزلي الذي اختنقت به في القاهرة؟! إن من يسمعني أقول هذا ينظر لي في استنكار شديد وربما في استعباط، حتي محمود إسماعيل وهو يأمر لي بطاولة وأباجورة وأوراق إضافية ومجموعة من أقلام الفلوماستر أحسست أنه يفعل ذلك من قبيل تبطيل الحجج، في نظرات عينيه الطيبتين العافيتين خلف المنظار الطبي كان كأنه يتحداني قائلاً: هاك كل ما تحتاج إليه فأرني إذن كيف ستنسلخ من باريس لتكتب حلقتين من مسلسل يجري تصويره في القاهرة؟ كانت نظرته تكاد تقول: يا راجل ما تضحكش علي نفسك! انت فاكر نفسك سافرت المنصورة ولا بورسعيد ولا إسكندرية! إنك في باريس يا عم خيري. صحوت من شرودي الحائر علي هذه العبارة الأخيرة منطوقة علي لسان إيهاب رضوان.

«يتبع»