عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

فن القُبل

في جميع الأعياد والمناسبات الاجتماعية المهمة لابد أن تصلك بطاقة تهنئة من الشاعر مصطفى عبد الرحمن، وفي غير المناسبات تتعدد رسائله إليك، خطاب يعلق فيه على مقال كتبته، خطاب آخر يحمل واحداً من كتبه، خطاب ثالث يحمل قصيدة استوحاها من مناسبة وطنية ما، او حلول ذكرى أحد العظماء، يكتب بخط جميل جداً بقلم باركر «21» بحبر أخضر، وبأسلوب مؤنس يفيض بالمودة.

لنجاحه في العلاقات العامة أحبه الكثيرون لشعورهم انه رجل حباب، تلك هي طبيعته، يكون سعيداً حين يتعرف على شخص جديد، ويكون أسعد إذا كان هذا الشخص الجديد هو بادأة بالرغبة في التعارف، حينئذ يبدو كأنه عثر على كنز، وتغمره السعادة حد النشوة بنزق طفولي إذا تذكر أن في حقيبته نسخة من أحد كتبه لكي يفتحها ويكتب اهداء لهذا الصديق الجديد يشكره فيه مقدما على قبوله الهوية وعلى ما قد ينفقه من وقت في قراءة هذا الكتاب، وقد مكنه هذا السلوك الشاعري الرقيق من أن يتبوأ كثيرا من المراكز في آن واحد: سكرتير عام جمعية المؤلفين والملحنين.. عضو مجلس ادارة اتحاد الكتاب.. رئيس تحرير مجلة المصانع الحربية التي هو احد كبار العاملين فيها.. عضو نقابة الصحفيين، رئيس لجنة النصوص بشركة صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات، عضو لجنة النصوص بالتليفزيون والاذاعة، عضو لجنة الشعر بالمجالس القومية المتخصصة.. عضو لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية.. سكرتير عام معهد الموسيقي.. اضافة الي كل ذلك هو موظف كبير بهيئة المصانع الحربية لديه فيها مسئوليات جسام تفرض عليه أن يتواجد في مكتبه يوميا.

رغم كل هذا فقد اتسع وقته لأن يكتب ثماني مجموعات شعرية، وتسعة كتب في موضوعات فنية وأدبية ذات خصوصية من نوع ما، وما يزيد على ألفي أغنية ما بين فصحى وعامية.

من قصائده الشهيرة قصيدة: (أقبل السعد فاهتفي بالأغاني) التي غناها محمد عبد الوهاب، وقصيدة: (أيقظي يا طير نعسان الورود) التي غنتها أم كلثوم من ألحان السنباطي، وقصيدة: (أيها الناعم في دنيا الخيال) التي غناها من ألحانه رياض السنباطي، أما أغنياته بالعامية المصرية فقد شدا بها عبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة وشادية وليلى مراد وعزيزة جلال ومحمد فوزي ومحمد قنديل، وكارم محمود وسعاد محمد وعبد العزيز محمود وهدى سلطان وياسمين الخيام ونجاح سلام ولطيفة وسيد مكاوي وعادل مأمون وهدى زايد وشريفة فاضل وسعد عبد الوهاب ومحمد ثروت وشهرزاد واحمد عبد القادر ونجاة على وغيرهما، ومن مطربي المغرب العربي غنى له عبد الهادي بلخياط ومحمد الحياني وعائشة الوعد ومحمد الادريسي وريتا عبد السلام، ومن سوريا غنت له ميادة الحناوي، ومن لبنان غني له حليم الرومي، ومن السودان محمد الكابلي ومحمد العاقب، ثم ان النشيد القومي للسودان من تأليفه، وليس ثمة من إذاعة عربية من المشرق الى المغرب الا ولديها رصيد من أغنيات الشاعر مصطفى عبد الرحمن.

وقد اتسع نشاطه منذ أن ازدهر الميكرفون المصري على الأثير فوجد في البرنامج الاذاعي أداة للتعبير ناجعة، فها هو ذا الشاعر عبد الفتاح مصطفى والشاعر مرسي جميل عزيز قد وجدا كل منها في البرنامج الغنائي الاذاعي اداة للتعبير الشعر الدرامي بديلاً عن المسرح الغنائي الذي انتكس برحيل سيد درويش، كل منهما قدم تجربة متميزة في حقل البرنامج الغنائي الذي صنع مجد الاذاعة الغنائي في بواكير شبابها في اربعينيات القرن العشرين، لكن مصطفى عبد الرحمن اتجه الى البرنامج الخاص، وهو أوسع حرية من البرنامج الغنائي، فكله نصف دراما، النصف الآخر سرد فني للتحليل والربط بلغة اذاعية بسيطة التراكيب يفهمها كافة المستمعين، ويتسع البرنامج الخاص لمواد متعددة الاصوات تخدم الغرض المطلوب ايصاله الى المستمع، لقطات من أفلام ومسرحيات، ومقتطفات من تسجيلات صوتية لأعلام رواد.. الخ، ويمكن للبرنامج الخاص أن يتناول حياة فنان أو مفكر أو أحدالعلماء، وان يتناول موضوعا بعينه، وكان مصطفى عبد الرحمن أميل الى هذا اللون من البرامج، ولهذا كانت برامجه الخاصة أشبه بمشاريع ثقافية تجول بالمستمع في رحلة متنوعة المشاهد والحوارات والغنائيات في اطار موضوع معين.

من هذه البرامج - مثلاً - برنامج: (الشعر والنغم)، قدم فيه حلقات عن أحمد شوقي وعلى محمود طه وابراهيم ناجي وجبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي وأبو القاسم الشابي وأحمد رامي ومحمود حسن اسماعيل وصالح جودت والأخطل الصغير وأحمد محرم ومن الواضح طبعاً ان البرنامج دراسات في الشعراء الذين لحنت لهم قصائد تغني بها المطربون.

ومن برامجه الاذاعية ايضا برنامج: (شعراء غنوا للحب والحرية)، قدم فيه حلقات عن محمود سامي البارودي، وابي فراس الحمداني واحمد شوقي والعقاد وعزيز أباظة وغيرهم، وكان له برنامج ثالث عنوانه: (شعراء من الازهر)، قدم فيه طه حسين وعلي الجارم ومحمد الأسمر وأحمد الزين ومحمود غنيم ومصطفي لطفي المنفلوطي، ولعلنا نذكر برنامجه عن محمد عبد الوهاب، الذي قدمته الاذاعية العريقة سامية صادق في ثلاثين حلقة مدة كل منها ربع ساعة، ولا شك ان مشاهدي التليفزيون يذكرون برنامجه القريب العهد: «همسات الليل» الذي كان يقدمه في ختام ارسال القناة الثانية، على امتداد عامين ونصف العام كان يقدم في كل ليلة قصيدة لشاعر عربي من القدماء والمحدثين على السواء، كما أنه قدم للتليفزيون فيلمين كبيرين أحدهما عن احمد شوقي والآخر عن عزيز أباظة.

ومن ذكرياتي اللطيفة معه أننا حصلنا معا على جائزة الدولة التشجيعية ووسام العلوم والفنون من الطبقة الاولى عام 1980، وكانت قد جاءته متأخرة الا أنها اسعدته جداً، وكانت عن ديوانه «أغنيات قلب»، وقد حصل هذا الديوان نفسه على جائزة الوسام الذهبي من مؤسسة البحر المتوسط بايطاليا، هو ديوان في اربعة اقسام هي على الترتيب: من شعر العاطفة ويضم خمسين قصيدة، القسم الثاني: الى الله، ويضم قصيدتين، القسم الثالث: من أناشيد الحرية، ويضم اثنتي عشرة قصيدة، القسم الرابع: متفرقات، ويضم قصيدتين، ومن القصائد الجميلة في هذا الديوان قصيدة «يا بحر» يقول في مطلعها: أتيت بحبي وأشواقيه/ أروي على ظمأ ناريه.. أعيد بشطك صبح الزمان/ وأبرأ من ليل أسقاميه.. وأذكر يا بحر أمس لديك/ وغدك أجمل أيامه.. أغنيك من هتفات الخلود/ نشيد هواس وأنعاميه. ومن المقاطع اللامعة في هذه القصيدة: وليلك يا

بحر للعاشقين/ كئوس تدور بها ساقية.. ورقص على همهمات الدفوف/ وشاك هواه الي شاكيه.. الخ.

ولعل من أجمل الكتب التي ألفها في موضوعات أدبية وفنية كتابه عن القُبلة، وهو كتاب شديد الطرافة ذو اهمية من نوع خاص، إنه تاريخ للقبلة، بضم القاف وتسكين الباء - أي البوسة بالتعبير الدارج، فبقدر ما تدهشنا طبيعة الموضوع، وكيف فكر المؤلف في وضع كتاب في موضوع كهذا، يستحوذ الكاتب على اعجابنا وتقديرنا لما بذله في هذا الكتاب من جهد في التجميع والربط والصياغة، واضفاء الجدية على الموضوع: أصل القبلة، كيف تمارس الشعوب فن القبلة، متي ولدت القُبلة، القبلة الاولى، القبلة والحب، والحب والمرأة والقبلة واحاديث الشفاه.. القبلة في الشعر الحديث، قصائد الحب والقبلة، القبلة الكاذبة، قبلة الاوطان، قبلة الآباء للأبناء، قبلة الشجاع وقبلة الجبان، قبلة اليد.. كل هذه فصول في هذا الكتاب العجيب الغريب الممتع.

عن أصل القبلة يقول انها ولدت مع الانسان الاول، طبعها على جبين ولده يوم مولده وعبر بها الطفل عن حبه، واحترامه، وعرفانا بالجميل يوم شب ويوم أن عرف الحياة، والقبلة على الجبين تعني الاجلال والاحترام، وعلى الخد الصداقة، وعلى اليد التعظيم وعلى القدم الخضوع والولاء، وعلى الشفاه الحب والاشتياق، ويعتبر الفرنسيون القبلة على الفم خطيئة اجتماعية ما لم تكن بين محبين عاشقين، وينظر الاوروبيون والشعوب الناطقة بالانجليزية الى القبلة كبدعة، ومن المحتمل - يقول - أن تكون قبلة الفم قد تطورت خلال مراحل متدرجة ابتداء من وضع مقابلة الوجه للوجه التي نشأت بين الاجناس البدائية وحيث كان السالكون في الغابات من جهات مختلفة يتقابلون، فتلتقي وجوههم عبر الطريق، وكلما اقتربت الوجوه بعضها من بعض أكثر كان ذلك دليل السلام والمودة، فاذا التصقت الوجوه، ولامست الشفاه أصبح الفريق المقابل معدودا من العشيرة ذاته.

وأقدم موطن للقبلة التي تتلامس فيها الأنوف كانت في بعض جهات الهند قبل الميلاد بحوالي 2000 عام تقريبا، وللواقع أن شاعرنا ليس وحده الذي اهتم بفن القبلة  فقد كتب فيها كثيرون من العلماء والادباء حاولوا وضع تفسير علمي لها، مثل عالم النفس الشهير فرويد وغيره، ويذكر الكاتب ان القبلة قد شغلت أدباء العالم وعلماءه فألفوا فيها الكتب وقدموا الكثير من الابحاث، حتي إن سائحا امريكيا عاش عمره يجوب آفاق العالم العريضة ليقدم للناس خلاصة ما رآه وأحس به طوال رحلته عن كيفية ممارسة الشعوب لفن القبلة، وقد قال في كتابه: ليس أبرع من الباريسيات معرفة لفن القبلة واتقانا لأدائها وحذقا في منحها واستجابة لدعائها حتي لتشعرك الباريسية حينما تقبلك المتعة والتسلية، وآه لو منحتها لك عن مشاعر حبها وحنينها الوفاق فلسوف تأخذك معها الى عوالم جديدة تعيش فيها أشهى لحظات الحياة، بينما لا تحس بالقبلة التي تمنحها لك الفتاة الانجليزية التي تفكر طويلاً حينما تريد ان تمنح قبلتها.. الى آخر ما أورده من وصف وتشخيص لقبلات جيمع نساء العالم.

ومن أطرف اخبار القبلة في الغرب أن فن التقبيل باتت له مدرسة لا يدرس بها غير هذه المادة فحسب! ففي مدينة «تثناجر» بلجيكا افتتحت مدرسة لتدريب فن القبلة، ناظرها البروفيسير «توم»، وتحصل الفتيات اللائي يتلقين الدرس في هذه المدرسة علي شهادات تخرج موقعة باسمه، وتتخرج في هذه المدرسة خمس وأربعون طالبة سنويا، والعجيب في الأمر انه حينما تزوج ناظر هذه المدرسة من احدى طالباته النجيبات أصرت هي واصر هو على أن يستمرا في تدريس مادة فن القُبل في هذه المدرسة التي طارت شهرتها في جميع انحاء بلجيكا وقد وافق هو أن يستمر في اعطاء دروسه بينما منعها هي من تقديم هذه الدروس.

ويقول شاعرنا: لقد ولدت القبلة مع مولد الشمس، ولدت مع مولد النور، ولدت مع مولد الحياة، قبلت الشمس الأرض يوم أطلت من عليائها أول مرة على الكون، قبلة حملت معها النور والدفء والحياة، قبلت شعاعات القمر في الليل امواج البحر وعاشت معها في حلم جميل تتمنى ألا يكون لليلها صباح، قبلت النسمات العليلة غصون الاشجار فغارت الازهار وراحت تتعانق في قبلات، غير عابئة بعزول، ولاخائفة من رقيب.