عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

إن ثروة المرء العظيمة هى عقله

الأعمال الطبيعية التى نقشها أحد أشراف رجال الوجه القبلي علي قبره فى القرن السابع والعشرين قبل الميلاد، والتى أنهينا بها المقال السابق تلفت نظر هنري بريستيد، فيعلق عليها بقوله إن البرّ بالوالدين كان من أهم الفضائل البارزة فى عصر الأهرام، فقد ذكر في النقوش القديمة في جبانات الأهرام - بشكل متكرر - أن المقابر التي دفن فيها أصحابها كانت من صنع الأبناء لآبائهم المتوفين. وكان السائد أن الابن يعد لأبيه مدفناً فاخراً.

ولأن فضيلة البر بالوالدين أحد أهم دلائل النضج الأخلاقى الدالة علي قيام مجتمع إنساني بمعني الكلمة في مصر في وقت مبكر جداً فإن بريستيد يلح علي تأكيدها عبر النقوش المتكررة في مقابر أو جبانات الأهرام. هناك ابن كتب علي قبر أبيه ما يلي: «والآن قد عملت علي أن أدفن في نفس القبر مع زاو هذا - يعني والده - لكي أكون معه في مكان واحد - علي أني لم أفعل ذلك لأني لست في مكانة تؤهلني لبناء قبر ثاني، بل فعلته حتي أتمكن من رؤية زاو هذا كل يوم، ولكي أكون معه في المكان عينه». وهاك صورة أخري تبين إلي أي حد كان البر بالوالدين مبدأ أخلاقياً إنسانياً عالي القيمة في المجتمع المصري الموغل في القدم، هاك هي «سيتي» حارس الباب الجنوبي - أي المحافظ علي الحدود المصرية من جهة السودان عند شلال النيل الأول، فقد حدث أن «سخو» والد «سيتي» قام برحلة خطيرة في قلب السودان للتجارة، وهناك انقض عليه بعض الهمج وذبحوه، فلما سمع ابنه «سيتي» بذبح والده قام علي الفور برحلة تحفها المخاطر واستخلص جثمان والده بعد أن تعرضت حياته خلال ذلك للموت.

ويؤكد بريستيد أن النقوش المرئية علي مقابر منف حتي الآن تؤكد أن العلاقات الأسرية المرحة المنطوية علي الود، التي تنطق بها تلك النقوش تعد كشفاً جديداً ذا أهمية أساسية في تاريخ الأخلاق. وذلك لأن الصورة مضاف إليها النقوش المدونة فوق جدران القبور، مع حكم «بتاح حتب»، تقدم لنا برهاناً تاريخياً قاطعاً علي أن الإدراك الخلقي نبتت جذوره من حياة الأسرة.

ويقول إن المصادر المصرية التي يرجع عهدها إلي النصف الأول من الألف الثالث لما قبل الميلاد تقدم مجموعة من الأدلة تظهر لنا تاريخنا لأول مرة ما وصل إليه علماء النفس الاجتماعيون المحدثون من ملاحظاتهم عن حياة الإنسان كما نجده في عصرنا الحاضر.

يقصد بريستيد بذلك ما وصلوا إليه من «أن الوازع الخلقي في حياة الإنسان نبت من المؤثرات التي تعمل في العلاقات الأسرية». كذلك تؤكد فنون الأهرام صورة حقيقية عن عواطف المحبة في حياة الأسرة من جهة علاقتها الوثيقة بالشعور الأخلاقي، وأن معلوماتنا عن الحياة البشرية البدائية نجدها اليوم لها أهمية عظيمة جداً من هذه الناحية بالذات.

وفي الوقت الذي كان فيه مدي السلوك الحسن محصوراً علي الأرجح في أول الأمر في دائرة الأسرة فإن نطاقه أخذ يتسع حتي صار يشمل الجيرة أو الطائفة قبل عصر الأهرام بزمن طويل. فمن ذلك أننا نجد أن أحد الموتي يقص علينا في نقوش قاعدة تمثال جنازي له منصوب في قبره. وقد صوره المثال بصورة ناطقة له كأنها هو: «لقد طلبت إلي المثال أن ينحت لي هذه التماثيل، وقد كان مرتاحاً للأجر الذي دفعته إليه». كما يقول مدير ضيعة يدعي «مني» في نقوش مأخوذة من مقبرته التي من عهد الأسرة الرابعة (2600 - 2750 ق.م)، وموجودة الآن في متحف «جليتوتيك» بمدينة ميونخ ما يأتى: «أما فيما يخص كل رجل عمل هذا لي - أي ساهم في إقامة هذا القبر - فإنه لم يكن قط غير مرتاح، سواء كان صانعاً أم حجاراً، فإني قد ارتضيته». فمن الواضح جداً أن كلاً من ذلك الرجلين أراد أن يعلن أنه حصل علي معداته الجنازية من طريق شريف، وأن كل من عمل في إعدادها قد تسلم أجره كاملاً غير منقوص».

وكذلك ترك لنا أحد حكام المقاطعات ممن عاشوا في القرن السابع والعشرين قبل الميلاد، البيان التالي عن حياته الصالحة حيث يقول: «لقد أعطيت خبزاً لكل الجائعين في جبل الثعبان - ضيعته - وكسوت كل من كان عرياناً فيها، وملأت الشواطئ بالماشية الكبيرة وأراضيها المنخفضة بالماشية الصغيرة، وأشبعت كل ذئاب الجبل وطيور السماء بلحوم الحيوان الصغير.. ولم أظلم أحداً قط في ممتلكاته حتي يدعوه ذلك إلى أن يشكوني لإله مدينتي، ولكني قلت وتحدثت بما هو خير، ولم يوجد إنسان كان يخاف غيره ممن هم أقوي منه حتي جعله ذلك يشكو للإله.. ولقد كنت محسناً لأهل من ضيعتى بما ما في حظائر ماشيتي وفي مساكن صيادي الطيور، وإن لم أنطق كذباً لأني كنت امرءًا محبوباً من والده ممدوحاً من والدته رفيع الأخلاق مع أخيه ودوداً مع أخته».

وإننا - يقول - لنجد مراراً وتكراراً أن أولئك الناس القدماء الذين مضي علي انقضاء زمنهم نحو أربعة أو خمسة آلاف سنة يؤكدون براءتهم من عمل السوء. هاهو ذا رئيس أطباء الملك «سمورع» في منتصف القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد يقول: «إني لم آت بسوء قط ضد أى إنسان». وبعد ذلك العهد بقليل نجد كاهناً يقول نفس الكلام أيضاً: «إني لم أرتكب أي عنف ضد إنسان». وبعد ذلك العهد أيضاً نجد كذلك مدنياً رقيق الحال قد أقام نصباً علي واجهة قبره ليقرأه الأحياء منقوشاً علي الخطاب التالي: «أنتم أيها الأحياء الذين علي وجه الأرض المارون بهذا القبر، جودوا بقربان جنائزي مما عندكم فيؤتي به إلي لأني كنت إنسانًا محبوباً من الناس، فلم أجلد قط من حضرة أي موظف منذ ولادتي، ولم أستول علي متاع أي شخص قسراً، وكنت أفعل ما يرضي جميع الناس». ونرى مثل ذلك في نقش قبر آخر لإنسان كان علي ما يظهر موضع اهتمام جيرانه إذ يقول: «لقد فعلت ما كان يحبه الناس ويرضي الآلهة حتي يجعلوا بيت أبديتي - أي قبره - يبقي واسمي موضع الحمد علي ألسنة الناس». ويتضح من مثل تلك الخطابات التي كانت توجه إلي الأحياء أن القيم الأخلاقية كان لها تقديرها في نظر الله بما يجوز أن يؤثر مادياً علي سعادة المتوفي في الحياة الآخرة.

علي أن الوازع الخلقي لم يبق منحصراً نفوذه في العوامل الشخصية، مقتصراً علي علاقة الإنسان بأسرته وجيرانه أو المجتمع الذي يعيش فيه فحسب، بل كان تأثيره قد بدأ يظهر في ذلك الزمان في الأوساط العليا من المجتمع البشري، حتي صار تأثيره يظهر في واجبات الحكومة نحو عامة جميع الشعب ولو أدى تنفيذ تلك الواجبات إلي عدم رعاية حقوق الأسرة أصلاً. فقد وجدنا في عصر مبكر مثل عصر الأهرام أن الوزير العادل «خيتي» قد صار مضرب الأمثال بسبب الحكم الذي أصدره ضد أقاربه عندما كان يرأس جلسة للتقاضي كانوا فيها أحد الطرفين المتخاصمين. وتحتوي فنون الأهرام أيضاً علي أدلة قاطعة لا تقبل الشك علي أن طلبات «العدالة» و«الحق» كانت قوتها أقوي من سلطان الملك نفسه.

وإن حِكم «بتاح حتب» تمدنا بأقدم نصوص موجودة في أدب العالم كله للتعبير عن السلوك المستقيم. فمن نصائح الوزير الكبير لابنه مثلاً هذه

الكلمات: «لا تكونن متكبراً بسبب معرفتك، فشاور الجاهل والعاقل لأن نهاية العلم لا يمكن الوصول إليها وليس هناك عالم بلغ في فنه حد الكمال، وإن الكلام الحسن أكثر اختفاء من الحجر الأخضر الكريم، ومع ذلك فإنه يوجد مع الإماء اللائى يعملن في إدارة حجر الطاحون». ومن حِكم «بتاح حتب» أيضاً هذه النصائح: «إن المستمع هو الذي يحبه الإله، أما الذي لا يستمع فإنه هو الذي يبغضه الله. والعقل هو الذي يجعل صاحبه مستمعاً أو غير مستمع. إن ثروة المرء العظيمة هي عقله.. فما أفضل الابن عندما يصغي لأبيه، والابن إذا وعي لما يلقيه عليه والده فإنه لن يخيب في مشروع من مشروعاته. وعليك أن تعلم من يستمع إليك كأنه ابنك، ومن سيكون ناجحاً في نظر الأمراء، ومن يوجهه فهمه حسبما يقال له.. ما أكثر المصائب التي تنزل بمن يستمع، والرجل العاقل يبكر في الصباح ليصلح من شأن نفسه، أما الجاهل فإنه يصبح في حالة ارتباك، كما أن الأحمق الذي لا يستمع فإنه لم يسئ إليه أحد، بل هو يعتبر الحكمة جهلاً، وما يفيد كما لا ينفع».

وكان للنجاح الدنيوي المكانة السامية إذ ذاك، فها هو ذا الوزير المسن ينصح ابنه بالتعامل مع العظماء هكذا: «خذ ما يقدم لك - يقصد من مائدة الطعام - حينما يوضع أمامك دون أن تنظر إلي ما هو أمامه، ولا تصوبن لحظات كثيرة إلى الرئيس أي لا تحملق فيه. وانظر بمحياك إلي أسفل إلي أن يحييك، وتكلم فقط بعد أن يرحب بك، واضحك حينما يضحك فإن ذلك يدخل السرور علي قلبه، وما تفعله يكون مقبولاً لأن الإنسان لا يعلم ما في القلب».

وهاك سياسي كبير ينصح ابنه قائلاً: «إذا أصبحت عظيماً بعد أن كنت صغير القدر وصرت صاحب ثروة بعد أن كنت محتاجاً.. فلا تنسين كيف كانت حالك في الزمن الماضي، ولا تفخر بثروتك، التي أتت إليك منحة من الملك، فإنك لست بأفضل من غيرك من أقرانك الذين حل بهم ذلك.. احذر الأيام التي يمكن أن يأتي بها المستقبل.. اشبع أصدقاءك مما حولك بسبب نيلك الحظوة عند الملك، إذ لا أحد يعرف مصيره إذ فكر في الغد، وإذا اعتور حظوته لدى الملك شيء فإن الأصدقاء هم الذين لا يفتئون يقولون: مرحباً.. فعليك أن تستبقي ودهم لوقت السخط الذي يهدد الإنسان، ولكن ستري فيما بعد أنه حينما تسوء حالك فإن فضيلتك ستكون فوق أصدقائك». وشروط الأصدقاء هي: «إذا كنت تبحث عن أخلاق من تريد مصاحبته فلا تسألنه عن شيء ولكن اقترب منه وتعامل معه، علي انفراد معه، وامتحن قلبه بالمحادثة، فإذا أفشي شيئاً قد رأه أو أتي أمراً يجعلك تخجل له، عندئذ احذر حتي من أن تجاوبه». علي أن مسئوليات الأسرة كانت في نظره أهم من الأصدقاء، فنراه يقول: «إذا كنت ناجحاً وطد حياتك المنزلية وأحب زوجتك في البيت كما يجب».

وتمتد نصائح الوزير المسن لابنه حتي شملت طرق التعامل مع الزوجة والمرأة بوجه عام. «أشبع جوفها واستر ظهرها». والحب الذي يطلب من الزج تجاه الزوجة هو العاطفة التي تدفعها لمساعدته علي العمل.

الحق والعدالة لهما مكانة سامية في حِكم «بتاع حتب» لا تعادلها مكانة أخرى: «إذا كنت حاكماً فكن شفيقا حينما تسمع كلام المتظلم، ولا تسىء إليه قبل أن يغسل بطنه ويفرغ من قول ما قد جاء من أجله.. وإنها لفضيلة يزدان بها القلب أن يستمع مشفقاً». ومن نصائحه: «إذا كنت حاكماً تصدر الأوامر للشعب فابحث لنفسك عن كل سابقة حسنة حتي تستمر أوامرك ثابتة لا غبار عليها، إن الحق جميل وقيمته خالدة، ولم يتزحزج عن مكانه منذ خلق، وقد تذهب المصائب بالثرثرة ولكن الحق لا يذهب بل يمكث ويبقي، والرجاء المستقيم يقول عنه: إنه متاع والعرب قد ورثته عنه». وعلي الشاب الذي يقوم بأية مهمة أن: «يتعلق بأهواء الصدق والحق حتي ولو كان التقرير الذي يقدمه لا يسر القلب».

وقد حفظت لنا آثار ذلك العصر التاريخي العظيم أسماء وأصحاب عظمة جبارة. منهم أوى عالم مجهول في العلوم الطبيعية وهو مؤلف أقدم رسالة علمية تبحث في الحرية وربما يرجع عهده إلي عهد «أمحوتب» نفسه. ومؤلف الرسالة الذي هو أقدم ؟؟؟؟؟ تعرف لنا للآن، يُعد أول إنسان مثير بين القوي السلبية والقوي الإلهية. وأعظم ما أخرجه نحاتو عصر الدولة القديمة يظهر لنا أنهم كانوا قد بدأوا يبرزون قوة الشخصية الممتازة واستقلالها بينما تبرز لنا لأول مرة في شخص الفرعون المحبب، ثم في أشخاص طائفة من العظماء من رجال السياسة والحكماء والفنانين ورجال العمارة والمهندسين، وهم الذين جعلوا من مصر منذ خمسة آلاف سنة مضت بلداً يضم عجائب المباني التي لاتزال إلي يومنا هذا تعد من عجائب الدنيا.