رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الشاعر المظلوم حياً‮.. ‬وميتاً

يصيبنى الأسى كلما تذكرت الشاعر الراحل محمد مهران السيد،‮ ‬ذلك الشاعر الكبير الفحل الذي‮ ‬ظلم حياً‮ ‬وميتاً‮. ‬كان في‮ ‬حياته نبيلاً‮ ‬بمعني‮ ‬الكلمة‮ ‬يستعلى علي‮ ‬المكاسب الرخيصة وينأى بنفسه عن مواطن الشبهات‮. ‬لقد زاملته في‮ ‬مجلة الإذاعة والتليفزيون لأكثر من ثلاثين عاماً،‮ ‬أراه كل‮ ‬يوم فيأخذني‮ ‬هدوءه إلي‮ ‬رحابة الإنسانية الصافية الرائعة الراقية،‮ ‬وتأسرني‮ ‬حكمته،‮ ‬ويحتويني‮ ‬دفء مشاعره،‮ ‬ووداعته،‮ ‬وشيئاً‮ ‬فشيئاً‮ ‬تصيبني‮ ‬عدوي‮ ‬تطامنه،‮ ‬وعدم تكالبه علي‮ ‬أي‮ ‬مغنم أو منصب،‮ ‬إنها روح المستغني‮ ‬بكبريائه،‮ ‬المتنازل حتي‮ ‬عن حقوقه عند جهة العمل كموظف من حقه الترقي‮ ‬والحصول علي‮ ‬العلاوات والحوافز والمكافآت الاستثنائية علي‮ ‬قدر ما‮ ‬يبذله في‮ ‬المطبخ الصحفي‮ ‬من جهود مضنية ليس‮ ‬يملكها سواه بين جميع محرري‮ ‬المجلة

‮ ‬وعن حقوقه الأدبية قبل الحياة الثقافية المصرية بنقادها ودارسيها ومحرري‮ ‬صحافتها وهو أحد أهم رواد الشعر العربي‮ ‬الحديث ذو قامة شعرية لا تقل بأي‮ ‬حال من الأحوال عن صلاح عبدالصبور وحجازي‮ ‬والبياتي‮ ‬ونازك الملائكة وخليل حاوي‮ ‬وغيرهم ممن تبوأوا مكانات مرموقة كان هو‮ ‬يستحق مثلها لولا عزوفه عن الترويج لشعره وابتعاده عن منافذ التوصيل،‮ ‬وعجزه عن بناء علاقات مصلحية رغم أنه علي‮ ‬علاقة وثيقة بجميع ممثلي‮ ‬الثقافة اليسارية حيث أمضي‮ ‬زبدة سنوات نضجه في‮ ‬معتقل أبو زعبل مع زعماء اليسار،‮ ‬لم‮ ‬يكن‮ ‬يطلب من الله شيئاً‮ ‬إلا دوام الراتب الشهري‮ ‬من وظيفته‮ - ‬أياً‮ ‬كان قدره‮ - ‬ليضمن قوت عياله وروقان القريحة الشعرية‮. ‬كان‮ ‬يراهن على قصيدته،‮ ‬هي‮ ‬الرصيد الوحيد الذي‮ ‬يشعر بسعادة حقيقية كلما أضاف إليها بيتاً‮ ‬جديداً‮ ‬له مقومات البقاء في‮ ‬الوجدان زمناً‮ ‬طويلاً،‮ ‬سيما وقد كان‮ ‬يمتح من آبار شعورية كالماء الزلال‮.‬

ينتمي‮ ‬محمد مهران السيد للطبقة التي‮ ‬نسيها جموع الشعب العاملة،‮ ‬تحت الطبقة المتوسطة،‮ ‬وفوق طبقة المعدمين بقليل‮. ‬وهو من مواليد سوهاج،‮ ‬تلقي‮ ‬تعليماً‮ ‬متوسطاً،‮ ‬لأن نفقات التعليم أثناء طفولته كانت باهظة التكاليف لا‮ ‬يقدر عليها إلا فئات معينة من الميسورين‮. ‬علي‮ ‬أن التعليم الذي‮ ‬حرم منه مهران السيد لم‮ ‬يكن شيئاً‮ ‬بالنسبة للثقافة الرفيعة التي‮ ‬حصلها مهران في‮ ‬مرحلة الصبا‮. ‬ذلك أنه انفتح علي‮ ‬مصادر الثقافة منذ طفولته المبكرة‮. ‬القنوات التي‮ ‬ربطت بين‮ »‬الفتي‮ ‬مهران‮« ‬والثقافة كانت وجدانية خالصة‮. ‬فهذا الطفل الشقي‮ ‬تفتح وعيه المبكر،‮ ‬الشديد الحساسة،‮ ‬علي‮ ‬بيئة‮ ‬يرتع فيها الأعداء الألداء الثلاثة للشعب المصري‮: ‬الفقر والجهل والمرض‮. ‬لقد رأى بعينيه درجات المعاناة والشقاء‮ ‬غير الإنساني‮ ‬بين أهله لا‮ ‬يحتملها إلا قلب فيلسوف‮. ‬عاش بكيانه الأخضر حياة ناس‮ ‬يبذلون من قلوبهم الدفء والعطاء الإنساني،‮ ‬يعوض بعضهم البعض ما حرم منه الجميع من القوت الضروري‮. ‬رأى ناساً‮ ‬ينتحرون للإبقاء علي‮ ‬ما‮ ‬يسد رمق الصغار،‮ ‬ويبذلون ما في‮ ‬وسعهم للعيش في‮ ‬شرف وحب وإخاء وتراحم وإيثار‮.‬

كان‮ ‬يقرأ في‮ ‬الأدب،‮ ‬فيزداد وعيه بمحنة الجماهير العريضة،‮ ‬يتسع قلبه لهموم هذه الجماهير الكادحة التعيسة ليس في‮ ‬مدينة سوهاج وحدها بل في‮ ‬جميع أنحاء البلاد‮. ‬أصبح‮ ‬يعبر عن هموم هذه الجماهير في‮ ‬قصائد شعرية صغيرة‮ ‬يبعث بها إلى الصحف في‮ ‬العاصمة الكبيرة،‮ ‬فتنشر بعضها أحياناً،‮ ‬وتشجعه أحياناً‮ ‬أخري‮ ‬بكلمات طيبة تفتح أمامه آفاق الأمل العريض‮. ‬وكان لابد للفتي‮ ‬الشقي‮ ‬أن‮ ‬يحمل المسئولية منذ الصغر،‮ ‬فعمل في‮ ‬وظيفة بسيطة متواضعة في‮ ‬هيئة السكة الحديد،‮ ‬وبمرتبه الضئيل‮ ‬يوسع علي‮ ‬أهله وعلي‮ ‬عقله ووجدانه‮. ‬وشأن أي‮ ‬شاب متفتح محب وقع الفتي‮ ‬مهران في‮ ‬حب فتاة شعر أنها‮ ‬يمكن أن تكون شريكة عمره،‮ ‬فبادر بالارتباط بها فأصبح مسئولاً‮ ‬عن زوجة سرعان ما أنجبت له أطفالاً‮.‬

علي‮ ‬أن ارتباطه الأكبر والأعمق كان بالثورة،‮ ‬بأحلام الجماهير الكادحة،‮ ‬فانضم إلي‮ ‬حركة التحرر الوطني‮. ‬بات عضواً‮ ‬فعالاً‮ ‬في‮ ‬أحد التنظيمات اليسارية‮. ‬كان‮ ‬يعرف منذ البداية أنه لابد من التضحية براحته الشخصية وبسعادة أبنائه،‮ ‬إلا أنه كان‮ ‬يعرف أنه أمام طريق لا مفر منه،‮ ‬فمستقبل هذه الجماهير‮ - ‬ومن بينها أسرته الصغيرة‮ - ‬مرهون بألسنة شجاعة تقول كلمة الحق في‮ ‬وجه العتاة الطغاة البغاة،‮ ‬تعبر عن حقيقة الأوضاع‮. ‬حتي‮ ‬إذا ما تحققت أمنية الفقراء وقامت ثورة‮ ‬يوليو رافعة راية العدالة الاجتماعية والمساواة بين البشر تنفس الجميع الصعداء،‮ ‬خاصة المثقفين المنتمين لأحلام الجماهير‮. ‬ولكن هذه الثورة بكل أسف خيبت ظن الجميع،‮ ‬انتهجت نهجاً‮ ‬ديكتاتورياً‮ ‬شديد الوطء علي‮ ‬البلاد؛ عيشت الجميع في‮ ‬محنة كبيرة‮. ‬رفع بعض المثقفين الشرفاء ثمن هذه المحنة،‮ ‬فقد بادرت الثورة باعتقال الكثيرين منهم وألقت بهم خلف قضبان السجون،‮ ‬وكان محمد مهران السيد أحد أولئك الذين ألقي‮ ‬بهم في‮ ‬الأتون،‮ ‬حيث حكم عليه بسبع سنوات،‮ ‬أمضي‮ ‬منها خمساً‮ ‬في‮ ‬سجون الثورة في‮ ‬أشغال شاقة

أهلكت زهرة الشباب ونضارة الأيام الخضراء‮. ‬ومع ذلك لم‮ ‬يفقد إيمانه بالثورة لأنها بالنسبة له لم تكن أشخاصاً‮ ‬يتسلطون،‮ ‬إنما كانت مبادئ آمن بها واعتنقها ولم‮ ‬يعد مستعداً‮ ‬للتنازل عن شيء منها حتي‮ ‬ولو حكم عليه رجالها بالسجن وحرموه من نسمة الدنيا‮. ‬وحينما أفرج عنه كانت معظم قصائده قد ضاعت بين ما ضاع من أوراقه في‮ ‬سنوات الشتات‮. ‬لم‮ ‬يبق في‮ ‬حوزته سوي‮ ‬القليل من قصائد كتبها خلف القضبان وهربها داخل قطع من الحلوي‮. ‬فاحتفظت بها زوجه ضمن بيته وأولاده وعرضه‮.‬

من هاتيك القصائد تشكل ديوانه الأول‮ (‬بدلاً‮ ‬من الكذب‮)‬،‮ ‬الذي‮ ‬أصدرته دار الكاتب العربي‮ ‬في‮ ‬العام السابع والستين عام الكسرة العظمي،‮ ‬فإذا بهذا الشاعر‮ ‬يهدي‮ ‬ديوانه الأول هذا إلي‮ ‬جمال عبدالناصر‮ »‬الزعيم والقائد بكل ما‮ ‬يحمله جوهر هذا الاسم من نبل وأصالة وانطلاق‮«. ‬مثله في‮ ‬ذلك مثل الشاعر فؤاد حداد وغيره من مثقفي‮ ‬مصر الأصلاء نراه‮ ‬يرتفع فوق المحن الشخصية فيري‮ ‬الحقيقة بعين أوسع وأعمق وأشمل‮.‬

في‮ ‬ديوانه‮ (‬بدلاً‮ ‬من الكذب‮) ‬تشكلت ملامح شاعر أصيل،‮ ‬صاحب قضية،‮ ‬صاحب موقف‮. ‬الشعر عنده ليس هموماً‮ ‬ذاتية‮ ‬يغني‮ ‬فيها علي‮ ‬ليلاه،‮ ‬بل هو أصداء حية للهم العام،‮ ‬لحياة الشارع المصري،‮ ‬والبيوت الواطئة،‮ ‬والمصانع،‮ ‬والمزارع،‮ ‬والعشش الصفيح،‮ ‬وكسوة العيال في‮ ‬العيد،‮ ‬وكراريس المدارس‮.. ‬فكأن ذات الشاعر التي‮ ‬انطلقت منها هذه الهموم قد صارت تمثيلاً‮ ‬لذات الأمة والوطن بآلامه وأحلامه المحبطة‮. ‬ولأنه شاعر أصيل وصادق فإن وجدانه الشفاف استطاع أن‮ ‬يعكس جوهر المحسوسات ولب الحقائق في‮ ‬بساطة آسرة ودون ثرثرة‮. ‬بساطة التعبير في‮ ‬شعره تعني‮ ‬أنه‮ ‬يري‮ ‬جيداً‮ ‬ويشعر بصدق وحرارة ويحزن حتي‮ ‬ثمالة الألم،‮ ‬يسبر الأغوار حتي‮ ‬يستشف بؤرة العورة،‮ ‬مركز الإشعاع فيها،‮ ‬فيسلط عليه عدسته العاكسة‮. ‬من هنا‮ ‬يبدو شعر مهران كأنه عصارة الحكمة الشعبية العتيقة‮. ‬ورغم طزاجة شعره وحرارته وعصريته واتصاله الحميم الوثيق بالهموم الراهنة المعاشة،‮ ‬نستطعم فيه مع ذلك نكهة الفلاح الفصيح،‮ ‬وأناشيد إخناتون،‮ ‬وكتب الموتي،‮ ‬والمواويل الخضراء،‮ ‬والأغنيات الفلكلورية،‮ ‬وحواديت الجدات‮. ‬لقد عاش مهران مخلصاً‮ ‬لقضيته التي‮ ‬تبلورت عبر مراحل طويلة من الكفاح والمعاناة‮.‬

من ديوانه‮ (‬بدلاً‮ ‬من الكذب‮) ‬إلي‮ ‬دواوين‮: (‬زمن الرطانات‮)‬،‮ (‬ثرثرة لا أعتذر عنها‮)‬،‮ (‬طائر الشمس‮)‬،‮ ‬إلي‮ ‬مسرحيته الشعرية‮ (‬حكاية من وادي‮ ‬الملح‮)‬،‮ ‬ناهض محمد مهران السيد كل وجوه الزيف والكذب،‮ ‬بمواجهتها بالحقائق الوجدانية،‮ ‬وربما كانت قصيدته‮: (‬سيرة ذاتية‮) ‬تلقي‮ ‬الضوء علي‮ ‬شخصية هذا الشاعر الكبير،‮ ‬وعلي‮ ‬محنته مع الحرف والحياة والآمال المحبطة في‮ ‬مجتمع زائف،‮ ‬في‮ ‬مقطع بعنوان‮: (‬السؤال‮) ‬يقول‮:‬

‮.. ‬ما من مرة

صادفتك فيها إلا وسألت‮..‬

كيف الحال؟‮!‬

وتدور علي‮ ‬عقبيك

نصف جواني‮ ‬في‮ ‬أذنيك

والنصف الآخر‮.‬

يتدحرج فوق الأسفلت

يا صاحب أيامي‮ ‬الخضراء

كيف الحال؟‮!‬

مازلت ومازال

ذاك الخيط الشائك‮.. ‬يمتد بعرض الطرقات

وإشارات الضوء الحمراء

قد صرخت امرأة‮: ‬قف

كانوا قد مروا‮.‬

بيني‮ ‬والأضأل شأناً‮.. ‬خطوات‮!!‬

وتخلفت عن الصف‮.. ‬إلخ

تلك قصيدة طويلة من ديوان‮ (‬زمن الرطانات‮) ‬وهو من أهم وأعمق المنجز الشعري‮ ‬المصري‮ ‬في‮ ‬حركة الشعر العربي‮ ‬الحديث كلها‮. ‬ألا هل نجد من‮ ‬يعيد طبع ديوانه الكامل المبعثر؟ أعتقد أنه‮ ‬يستحق النشر في‮ ‬مكتبة الأسرة،‮ ‬بل‮ ‬يستحق أن تتذكره كل عام بالتكريم والتقدير‮.‬