رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

تجليات اتحاد الشمس والخضرة

يري هنري بريستد في كتابه «فجر الضمير» أن الكشف عن الأخلاق أسمي عمل تم علي يد الإنسان من بين كل الفتوح التي جعلت نهوضه في حيز الامكان، وأن علينا الآن أن نتعرف علي منهاج التطور البشري في مداه الواسع الذي يسمو علي الفواصل الجنسية، وأن ندرك الأهمية العظمي الحتمية التاريخية الثابتة وهي أن الإنسان قد سما الي تصور خلقي عال قبل أن تظهر الأمة العبرانية في عالم الوجود بألفي سنة.

تلك شهادة علمية يدلي بها جيمس هنري بريستد للحقيقة وللتاريخ ردا علي ادعاء اليهود بأنهم خالقو هذه الحضارة المتمثلة في صحوة الضمير والتصور الأخلاقي، هكذا قدموا أنفسهم للعالم حتي كاد العالم يصدق أنهم بالفعل شعب الله المختار، وهكذا أيضا يجيء كتاب «فجر الضمير» هذا كأن هنري بريستيد وضعه خصيصا لينفي هذا الادعاءاليهودي وفضحه وليؤكد بالأدلة القاطعة أنهم سرقوا حضارة المصريين وانتحلوها وزهوا بها علي العالم باعتبارهم ـ كذبا ـ مؤسسي الأخلاق في التاريخ البشري

تعالوا بنا نتعرف علي الخطة التكتيكية لهذا الكتاب..

يقع في ثمانية عشر فصلا بإضافة تمهيد ومقدمة ويضم تسع عشرة صورة وثائقية  في هذه الفصول تناول المباحث التالي: الأساس الماضي الجديد آلهة الطبيعة والمجتمع الإنساني ـ إله الشمس ـ إله الشمس وفجر المبادئ الأخلاقية   العقيدة الشمسية ومكافحة الموت.. فنون الأهرام وصعود فرعون الي السماء..   المذهب الشمسي والآخرة السماوية.. آلهة الطبيعة والمجتمع الإنساني: أووزير نور الشمس والخضرة وامتزاج رع مع أوزير وظل أوزير.. السلوك والمسئولية الخلقية وظهور النظام الخلقي.. انهيار المذهب المادي وأقدم عهد للتخلص من الأوهام.. الأنبياء الاجتماعيون الأوائل وفجر المسيحية «التبشير». أقدم جهاز مقدس في سبيل توطيد العدالة الاجتماعية وتعميم المسئولية الخلقية.. إقبال عامة الشعب علي اعتناق المعتقدات الملكية القديمة عن الآخرة وانتشار السحر.. الحساب في الآخرة والسحر.. السيادة العالمية وأقدم عقيدة للتوحيد.. سقوط اخناتون ــ عصر انتشار التنسك الشخصي ــ الكهانة وخاتمتها.. مصادر إرثنا الخلقي.. ويجيء الفصل الثامن عشر بمثابة الخاتمة، وتتكون من خمس فقرات كبيرة تجري علي هذا النحو: الطبيعة ومصادقتها للبشرية.. الانتقال العظيم وبطء التقدم البشري.. الانتقال العظيم بصفته تعبيرا عن تجارب البشرية.. الماضي الجديد كمؤثر خلقي جديد.. القوة والأخلاق.

كل هذه الفصول تقوم برحلة، ربما كانت أعظم رحلة في التاريخ، تجول بين سوق الفكر الشامخ والعواطف الإنسانية والأخلاقية العظيمة ويطيب لنا ـ بالطبع ـ أن نصحبها في هذه الرحلة لنأخذ منها اقباسا تعيد الينا الثقة في مجدنا التليد.

طلع فجر المبادئ الأخلاقية من مصر القديمة، بالتحديد من مدينة هليوبوليس ــ عين شمس حاليا ــ التي وجدت في عصر ما قبل التاريخ، في العهود التي سبقت عهد توحيد مصر تحت حكم ملك واحد، وقد ثبت ذلك بوثيقة غاية في الغرابة، هو حجر أسود كان المصريون في أواخر القرن التاسع عشر يستخدمونه كقاعدة لحجر طاحون لطحن غلالهم، وقد استقروا في إدارة حجر الطاحون الأعلي فوقه لأعوام طويلة دون أن يفقهوا شيئا من تلك النقوش الثمينة التي يعملون علي محوها بالطحن.. لولا أن أنقذه السر المدون عليه حينما وقع عليه نظر البريطانيين، فنقلوه لدراسة ما عليه من نقوش، وتم حفظه في المتحف البريطاني ولكن بعد أن أدلي للعالم بتصريحات شديدة الخطورة وأسرار رهيبة عن بداية عصر الأخلاق علي ظهر الكرة الأرضية.

لقد استدل العلماء من فك رموز اللغة المصرية القديمة علي هذا الحجر.. يكشف متن هذا النقش عن موقف تاريخي يدل بداهة علي أن وقوعه لا يمكن إلا من بداية الاتحاد الثاني، أي في عهد تأسيس الأسرة الأولي علي يد مينا حوالي سنة 3400 قبل الميلاد، وعلي هذا يكون ذلك المتن من إنتاج الحضارة المصرية في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، وبذلك يكون قد أعطي لنا صورة من أفكار بني البشر لم يصل الينا مثلها مدونة إلي الآن.

هذا النقش هو بقايا مسرحية دينية تبرز لنا إله الطبيعة القديم ــ وهو إله الشمس ــ رع، متحولا تماما الي قاض يحكم في شئون البشر، تلك الشئون التي أصبحت ينظر اليها من الناحية الخلقية فهو يحكم عالما يري من واجبه توجيه حياة البشرية فيه طبقا لقواعد تفصل بين الحق والباطل، وأنه لمن المدهش جدا ـ يقول بريستيد ــ أن نجد أن أمثال هذه الأفكار كانت قد ظهرت فعلا في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، وتعليقا علي هذه المسرحية التي يحلل الباحث محتوياتها وما تضمنته من أفكار عن الدنيا والآخرة، يقول إنه في هذه المرحلة السحيقة من التقدم البشري أخذ الإنسان يدرك أن بعض السلوك ممدوح وبعضه مذموم، وأن كل إنسان يعامل بسبب ذلك فالحياة تمنح للمسالم «الذي يحب السلام» ويحيق الموت بالمجرم «الذي يحمل الجريمة» علي أنه مما يلفت النظر جدا أن أولئك المفكرين القدامي لم يستعملوا في هذا المقام الكلمتين «طيب»، «خبيث» فالمسالم في نظرهم هو الذي يفعل ما هو محبوب والمجرم هو الذي يفعل ما هو مكروه، وهاتان العبارتان هما حكمان اجتماعيان يحددان ما هو ممدوح «محبوب» وما هو مذموم «مكروه» وفي هذين التعبيرين ـ ما هو محبوب وما هو مذموم ـ نجد أقدم برهان عرف علي مقدرة الإنسان علي التمييز بين الخلق الحسن والخلق السيئ لأنها ذكراها هنا لأول مرة في تاريخ البشر، ولها تاريخ طويل فيمايلي ذلك من الزمن وظل استعمالها مستمرا قرونا طويلة عديدة، لم يحل محلها كلمتا «الحق» و«الباطل» إلا بعد ذلك بزمن طويل.

لقد تركت الطبيعة أثرها تدريجيا في عقول أقدم سكان وادي النيل، فكان نور الشمس والخضرة النباتية مظهرين طبيعيين بارزين أثرا باستمرار علي أفكار أقدم مصري وحياته، وكان علي كل من هذين المظهرين أن يدخل مع زميله في علاقات كثيرة كان لها انعكاسها علي الدين والمجتمع فصارت الدنيا التي أصبحنا مندمجين فيها معا دنيا جديدة عظيمة، فتحول صياد عصر ما قبل التاريخ ذو البلطجة الحجرية، انتقل بعد خمسين جيلا من التقدم الاجتماعي الي مهندس ملكي يستخدم جماعات عظيمة من أصحاب الحرف المنظمين في محاجر ضفاف النيل تعتبر أعظم مقابر أقامتها يد الإنسان قاطبة.

ويقول بريستيد إن تلك الدنيا الجديدة التي ظهرت في مصر

باتحاد الشمس والخضرة لم يقتصر تغيرها العظيم علي مظهرها الخارجي ومجرد أساليبها المادية التي تدل علي تقدم أنظمتها الاجتماعية والحكومية، بل تعدي رقيها الي نمو حياة الإنسان الباطنة، فإن هذه الحياة كانت تسير بلا ريب بخطي متساوية مع تلك الحقائق الظاهرة التي لم تدون، وظهور أقدم بناء عرف من الحجر وأول مبني ذي عمد، لا يعد فحسب برهانا علي تقدم حياة الجماعة الإنسانية المنظمة، بل يعد كذلك دليلا علي ظهور أفق جديد للشعور البشري يزداد اتساعه باطراد

فكان بناء هذا العصر أول شعراء إذ مدوا أيديهم بين خمائل النخيل ومستنقعات النيل وقطفوا منها أزهار البشتين والبردي وسعف النخيل ونسقوا بها أروقة ذات عمد علي طول مساحات المعابد، فهم بذلك يعدون أول الفنانين الي ردهات المعابد شيئا مقتبسا من جمال العالم الخارجي المنير اليانع، وبذلك صارت المعابد تجمع بين نور الشمس والخضرة لتجميل أشكالها من الخارج. كما أثرت هاتان القوتان في عقائد ذلك العصر الدينية من الداخل.

لقد بدأت الحياة الخلقية ــ يقول بريستيد ــ تتطور عند قدماء المصرين ابتداء من عهد الاتحاد الثاني أي في الفترة التي وصلت فيها مدنية الدولة القديمة الي أوج عظمتها بعد سنة 3000 ق.م وقد لاحظنا فيما تقدم أنه منذ عهد الاتحاد الأول أي في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد كان موضوع الخلق الإنساني تحت محك البحث، ولم يوجد شعب آخر في بقاع العالم القديم نال من السيطرة علي عالم المادة بحالة واضحة للعيان تنطق بها آثاره الباقية للآن مثل ما ناله المصريون الأقدمون في وادي النيل فقد بني المصريون القدماء بنشاطهم الجم صرحا من المدنية المادية يظهر أن الزمن يعجز عن محوه محوا تاما، وأما الأخلاق فهي اتجاه جوهر الحياة الممنوع، الذي لا يدرك باللمس، واللون من العادات والتقاليد والصفات الشخصية المشكلة بتأثير القوي الاجتماعية والاقتصادية والحكومية التي تعمل باستمرار في مناهج الحياة اليومية.

وكل الوثائق والنقوش، التي جمعها بريستيد خاصة من عصر الأهرام ليست مدهشة في كثرتها فحسب، بل مدهشة أكثر في أنها كلها تصور لنا الحياة في الأسرة عند قدماء المصريين بصورة لا تدع مجالا للشك في أنها هي العامل الأول في ظهور الأفكار الخلقية ونموها، فقد كان المصري في عصر الأهرام يشعر بوجود جو من الوازع الخلقي يزعه حتي إن فنون الأهرام قد أظهرت لنا الآن ذلك الوازع مطلا علي ما قد مضي من تلك العصور التي لم تكن تعرف معني للخطيئة والشجار بين أفراد تلك الجماعة الأول من طائفة الأبرياء الذين ولدوا قبل أن يوجد «الشجار»، و«الموت»، و«السب»، و«النزاع»، أو «التشويه المروع»، الذي ارتكبه كل من «حور»، و«ست» ضد الآخر علي أن الاعتقاد بوجود عصر للمثال الأعلي أو علي وجود عصر للعدالة والسلام يجب أن نربط بينه وبين ذلك العصر الذي يشار اليه في فنون الأهرام بأنه العصر الذي «قبل أن يظهر فيه الموت».

في ذلك العصر المبكر ـ يعلق بريستيد ـ لأقدم جماعة بشرية وصلت الينا أخبارها، ساد الاعتقاد بأن حق كل فرد في التحلي بالأخلاق الفاضلة يمكن أن يقوم علي أساس النهج والسلوك اللذين يعامل بهما أفراد أسرته وهم والده ووالدته، وإخوته وأخواته، وهذه الحقيقة تعتبر ذات قيمة بالغة ومكانة عظيمة في ذلك البحث الجليل، وقد أكدها لنا أحد أشراف رجال الوجه القبلي الذي كان يعيش في القرن السابع والعشرين قبل الميلاد، إذ قال في نقوش قبره بعد أن عدد لنا كثيرا من أعماله الطيبة: «إني لا أقول كذبا لأني كنت إنسانا محبوبا من والده، ممدوحا من والدته حسن السلوك مع أخيه ودودا لأخته». كنا نجد بعد فترة من تاريخ هذا النقش أن أحد المقربين من الملك من الصعيد الأقصي يؤكد أيضا «إن الملك مدحني، وترك والدي وصية لمصلحتي لأني كنت طيبا.. وإنسانا محبوبا من والده ممدوحا من والدته ويحبه كل اخوته»،وكثيرا ما نري الأشراف في عهد الأهرام يجمعون صفاتهم الحسنة في العبارة الآتية: «كنت إنسانا محبوبا من والده وممدوحا من والدته ومن إخوته وأخواته».

للحديث بقية