رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

محاولة لتحديث فجر الضمير المصري

صدق عالم المصريات الأمريكي »هنري بريستد«، حين قال إن أعظم ظاهرة أساسية في تقدم حياة الإنسان هي نشوء المبادئ الخلقية وظهور عنصر الأخلاق.

نعم هذا صحيح، فبهذا النشوء يحدث تحول في حياة الإنسان.

ولكن أين حدث هذا التحول لأول مرة في التاريخ؟

وأين نشأت المبادئ الخلقية وظهر عنصر الأخلاق لأول مرة في التاريخ؟

وأين سطع فجر الضمير لأول مرة في التاريخ علي ظهر الكوكب الأرضي، حيث كانت الطوائف البشرية في عصور ما قبل التاريخ تعيش طريدة جبال الجليد الزاحفة، عيش الوحوش علي الصيد والافتراس؟

الجواب الحاسم الذي توصل إليه هنري بريستد هو: لقد ولد فجر الضمير وسطع فوق أرض مصر، وما لبث حتي خرج نوره إلي جميع البقاع علي الكوكب الأرضي، ليشعر الإنسان علي ضوئه، لأول مرة في التاريخ، بمعني إنسانيته، معني كونه إنساناً ينتمي إلي جنس من المخلوقات ينبغي تكريمه ينهض بأعظم مهمة، هي تعمير هذا الكوكب وتنويره.

وهذا ما دفع العالم الأمريكي الكبير هنري بريستد لأن يقدم ذلك الفجر القريب إلي عصرنا الراهن لعل عصرنا يرتدع ويأخذ له من ذلك التاريخ عبرة، وذلك في واحدة من أهم وأخطر ما كتبه جميع علماء المصريات الأجانب عن مصر وتاريخها، علي الإطلاق، أعني كتابه الشهير »فجر الضمير« الذي نشره عام أربعة وثلاثين وتسعمائة وألف، وترجمه إلي العربية عميد علماء المصريات المصريين العالم الكبير الدكتور سليم حسن وراجعه كل من الأستاذ عمر الإسكندي والأستاذ علي أدهم، ونشرته سلسلة الألف كتاب الأولي عام ستة وخمسين وتسعمائة وألف، في حوالي خمسمائة صفحة من القطع الكبيرة محلاة بالصور التوثيقية ثم أعيد نشره في مكتبة الأسرة منذ بضع سنوات، ومع ذلك لايزال القطاع الأعرض من عموم القراء ينتظرون إعادة نشره علي نطاق واسع.

يهدف هنري بريستد بكتابه إلي مغزي خطير بفلسفة بعيدة المدي، وبرؤية تاريخية عميقة الجذور سوف نقف عنده وعندها بعد قليل.

دعونا أولاً نعرف شيئاً عن هنري بريستد مؤلف أهم كتاب عن فجر الضمير المصري يقول عنه الدكتور سليم حسن بنبرة غاية في التقدير والعرفان والتواضع: كتاب فجر الضمير هو في الواقع مؤلف يدلل علي أن مصر أصل الحضارة ومهدها الأول، بل في مصر شعر الإنسان لأول مرة بنداء الضمير، فنشأ الضمير الإنساني بمصر وترعرع، وبها تكونت الأخلاق النقية وقد أخذ الأستاذ بريستد يعالج تطور هذا الموضوع منذ أقدم العهود الإنسانية، إلي أن انطفأ قبس الحضارة في مصر حوالي عام 525 قبل الميلاد، فمصر في نظره حسب الوثائق التاريخية التي وصلتنا عن العالم القديم إلي الآن، هي مهد حضارة العالم، وعن هذه الحضارة أخذ العبرانيون، ونقل الأوروبيون عن العبرانيين حضارتهم، وبذلك يكون الأستاذ بريستد قد هدم بكتابه الخالد هذه النظريات الراسخة في أذهان الكثيرين القائلة إن الحضارة الأوروبية أخذت عن العبرانيين، علي أن هذا الرأي لايزال يقنع بعض من لم يقرأ كتاب بريستد إلي الآن، وكأن هذا الأثري العظيم بكتابه هذا قد أظهر للعالم أجمع بأن المصدر الأصلي لكل حضارات الإنسانية هي مصرنا العزيزة.. لذلك يقول الدكتور سليم حسن: يخيل إلي أن مصطفي كامل حينما قال: لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون مصرياً كان يحس في أعماق قلبه وفي دمه، ما يظهره الأستاذ بريستد للعالم عما كان لمصر من السيادة المطلقة والقدم والسابقة، وفي تكوين ثقافة العالم وفي وضع أسس الأخلاق وانبثاق فجر الضمير الذي يشع علي جميع العالم.

ويقول إن هنري بريستد بكتابه فجر الضمير قضي علي الخرافات والترهات التي كانت تائهة بين السواد الأعظم من علماء التاريخ القديم والحديث قضاء مبرماً، ففريق منهم ظن أن الصين والهند ثم بلاد اليونان كانت مهد الحضارة العالمية وعنها أخذ العالم الحديث، والواقع أن مصر هي التي أخذ عنها العالم حضارته عن طريق فلسطين التي ليس لها فضل في ذلك سوي أنها كانت نقطة الاتصال بين الحضارة الأوروبية والحضارة المصرية علي أن العبرانيين قد نقلوا الحضارة المصرية إلي أوروبا مشوهة بعض الشيء ثم صقلها الأوروبيون بطورهم حسب أمزجتهم وألبسوها ثوباً جديداً كل نسجه من خيوط المدنية المصرية فما نراه الآن من روائع المؤلفات اليونانية القديمة، وما نسج علي منواله الكُتاب الأوروبيون قديماً وحديثاً يرجع في عنصره إلي أصل مصري قديم، كل ذلك يقول سليم حسن قد شرحه بريست شرحاً فياضاً مستفيضاً تدعمه الوثائق الأصلية القديمة ما لا يترك مجالاً لأي ناقد يفهم الحقائق علي وجهها الصحيح ولا يتعصب إلي فريق دون فريق.

نعود الآن للغرض الذي سعي إليه بريستد من إصدار كتابه، وإنه لغرض شديد العمق والنفاذ، وإنه لفخار عظيم لنا نحن المصريين، وجدير بالذكر أن بريستد أصدر كتابه هذا في فترة حرجة جداً من القرن العشرين، حيث كانت الحرب العالمية الأولي قد وضعت أوزارها ليحبل ضمير العالم بحرب ثانية وشيكة الوقوع يصفي بها حساباته علي أكمل وجه كانت آثار الحرب هائلة وحجم الدمار كان مخيفاً، وحجم ما ينتظر العالم من دمار قادم أكثر إثارة للفزع، أمام ذلك السباق المجنون في ابتكار الأسلحة الفتاكة، حتي لقد انحصر الإبداع الإنساني كله والطاقة البشرية الخلاقة كلها في تطوير هذا الغرض وحده والوصول به إلي أعلي ذري الجنون، جنون الفتك والدمار وتربص الإنسان بأخيه الإنسان لأي سبب من الأسباب، من هنا بات لزاماً أن تنشأ دعوة السلام، ليفيق العالم من هذه الغيبوبة ومن هذا السباق المجنون، وينبذ الطبيعة الحيوانية المتوحشة ويتذكر أن ثمة قوانين أخلاقية حضارية إنسانية يجب أن تحكم البشر والحروب مهما تجددت اللافتات التي تدور في ظلها وتنوعت تظل من الأعمال المضادة للأخلاق والحضارة، وإذ يشعر هنري بريستد بأن العالم في حاجة إلي دستور أخلاقي يحكمه فإنه يلجأ إلي التراث الإنساني يستفتيه في الأمر فيجد أننا في عصرنا الراهن علينا أن نتمثل عصر الأخلاق الذي شع فجره في أرض مصر منذ ما يزيد علي خمسة آلاف سنة قبل الميلاد.

يقول هنري بريستد: هذه الأذهان لفكرة كتابه: »لقد أصبح من الآراء العامة المؤسفة الشائعة بين أبناء الجيل الذي أعقب الحرب العالمية، أن الإنسان لم يتورع يوماً عن استعمال قوته الآلية المتزايدة في الفتك بأبناء جنسه، وقد برهنت الحرب العالمية علي إمكان وصول قدرة الإنسان الميكانيكية الهائلة علي القيام بأعمال التخريب إلي حد مريع، فليست هناك إذن إلا قوة واحدة في استطاعتها أن تقف في وجه هذا التدمير، هي الضمير الإنساني وهو شيء اعتاد نشء الجيل الحديث أن يعده مجموعة من الوساوس البالية، إذ كل فرد يعلم أن قوة الإنسان الآلية المدهشة ليست الإنتاج تطور طويل ولكن لسنا كلنا ندرك أن هذه الحقيقة نفسها تطبق كذلك علي القوة الاجتماعية التي نسميها الضمير، مع التسليم بفارق واحد مهم بينهما وهو أن الإنسان بصفته أقدم المخلوقات صنعاً للآلات، كان مجداً في صنع أسلحة فتاكة منذ نحو مليون سنة، في حين أن الضمير لم يبرز في شكل قوة اجتماعية إلا منذ مدة لا تزيد علي خمسة آلاف سنة، أي أن أحد التطوريين قد سبق الآخر بشوط بعيد، فأحدهما عتيق، والآخر وليد، عهد قريب لايزال أمامه ممكنات لا حصر لها، أليس في مقدورنا أن نعمل بجد لإنماء هذا الضمير حديث الميلاد، حتي يصير مظهراً من مظاهر حسن النية، ويصبح من القوة بحيث يخمد أنفاس القوة الوحشية الباقية في نفوسنا، إن القيام بهذا الواجب يكون بالطبع أقل صعوبة بكثير مما عاناه أجدادنا المتوحشون في هذا المضمار لأنهم خلقوا ضميراً في عالم لم يكن فيه أول الأمر أي شعور بالضمير«.

وأولئك الأجداد الذين يقول إنهم خلقوا ضميراً في عالم لم يكن فيه أول الأمر أي شعور بالضمير، أجداده هؤلاء هم ـ ولنا أن نفخر ـ المصريون القدماء، ثم إنه يدخل إلي غرضه مباشرة فيقول: »وقد يكون من الخير أن نعيد الإشادة بتلك القيم القديمة التي أصبحت في رواية الإهمال لاستخفافنا بها، وبخاصة في هذا الوقت الذي أصبح فيه الجيل الحديث ينبذ الأخلاق الموروثة، ولكي تتمثل صورة حقه لقيمة الأخلاق الفاضلة وتأثيرها

في الحياة الإنسانية، يجب أن نجتهد في الكشف عن الطريقة التي وصل بها الإنسان للمرة الأولي إلي إدراك الأخلاق وتقدير قيمتها، فحينما نلقي بنظرنا إلي الوراء في بداية وجود بني البشر يتكشف لنا في الحال أن الإنسان قد بدأ حياته متوحشاً مجرداً من الأخلاق، فكيف أصبح في وقت ما صاحب وازع خلقي؟ وكيف خضع في النهاية الوازع الخلقي عندما أحس به وتلقي وحيه؟ وكيف ينهض عالم خال من أي تصور للأخلاق إلي التمسك بالمثل الاجتماعية ويتعلم أن يستمع باحترام إلي الأصوات الباطنة المنبعثة من قرارة نفسه، وكيف أنه رغم الفوائد الظاهرة الملموسة التي تقيدها الفتوح المادية ظهر الجيل الأول من الناس مدركين القيم الباطنة التي لا تري، ولماذا لا يكون من واجب شباب اليوم رجالاً ونساء أن ينبذوا المبادئ الأخلاقية الموروثة من الماضي، باعتبارها مبادئ، تلك المبادئ التي لا نعرف أي شيء عن أصلها؟ فالوثائق القديمة التي تمدنا بالجواب عن هذه الأسئلة، وتكشف لنا عن أصول مثلنا الوراثية، قد عرضناها في هذا الكتاب مترجمة ومصحوبة بتعليقات وشروح تجعلها سهلة الفهم إلي حد لا بأس به، والواقع أن هذه الوثائق تكشف لنا عن فجر الضمير ونشوء أقدم مُثل للسلوك وما نتج عن ذلك من ظهور عصر الأخلاق، وهو تطور لا تنحصر أهميته في كونه خلايا لمن يتتبعه خطوة فخطوة، بل لأنه يعد فضلاً عن ذلك رؤيا جديدة للأمل في مثل زماننا هذا«.

إذا تأملنا دعوة بريستد هذه نجد أن أول سؤال يطرأ علي أذهاننا هو: ألسنا مطالبين اليوم بأن ندعو الدعوة نفسها؟ ألسنا ـ والفجر فجرنا في القديم القريب ـ مطالبين بمحاولة إعادة بعث هذا الفجر علي مستوي العالم كله؟

إن هذا الفجر لايزال كامناً في ضمير الأمة المصرية، فالضمير هو ضميرها وفجره قابل للإشراق فهل ثمة عقبات تعطل انبلاجه؟.. أم أن أمماً أخري وعلي رأسها الأمم التي ينتمي إليها بريستد مؤلف هذا الكتاب كرسالة موجهة إليها تخنق هذا الفجر باستمرار وتخفيه تحت سحب كثيفة من الهموم والضربات التي توجهها لنا لصالح ربيبتها إسرائيل، كي نبقي دائماً ضعفاء وتبقي هي القوية المستبدة! ولربما كانت نكسة مصر وتخلفها وروزحها تحت الاحتلالات المتواصلة سببها كمون الضمير والأخلاق في تربتها وفي جينات الشخصية المصرية حتي وإن كانت أمية لا تعرف القراءة ولا الكتابة، إن سر بلاء مصر في الواقع هو تسلحها بالأخلاق علي رصيد من الضمير المتأصل فيها، في مواجهة عصور انعدمت فيها الأخلاق علي طبيعة بربرية متوحشة  ويشهد بريستد نفسه بذلك ضمناً في كتابه، بل إن مجرد وضعه لهذا الكتاب لهو اعتراف مباشر بأن أوروبا المتوحشة التي استنارت في عصور نهضتها بإشعاع قادم من مصر أرض الكنانة قد عادت إلي وحشيتها القديمة واغتالت فجر الضمير وقد آن لها وللعالم أن تعمل علي بعثه من جديد ويقول: »وقد كان أعظم كشف جاوز حد المألوف هو أننا عرفنا أن حكمة (أمينحوبي) التي حفظت لنا في ورقة مصرية بالمتحف البريطاني قد ترجمت إلي العبرية في الأزمان الغابرة، وأنه بذيوعها في فلسطين صارت مصدراً استقي منه جزء بأكمله من كتاب الأمثال في التوراة، فكم من قس حديث طلب إليه أن يعظ جماعة من رجال الأعمال قد قوَّي موعظته اقتباسه العبارة التالية من كتاب الأمثال: هل تري رجلاً جاداً في التجارة أنه سيحظي بالمثول أمام الملوك؟ علي أنه ليس من المحتمل أن أي قس من هؤلاء قد مهد لعظته بملاحظة تدل علي أن ما اقتبسه قد نقله تأثر الأمثال العبرية عن كتاب مصري في الحكمة الخلقية أقدم من التوراة بكثير. لقد أضاف هذا الكشف أهمية بعيدة المدي إلي الحقيقة القائلة بأن التقدم الحضاري في الممالك التي تحيط بفلسطين كان أقدم بعدة آلاف من السنين من التقدم العبري، ولقد أصبح الآن من الواضح الجلي أن التقدم الاجتماعي والخلقي الناضج الذي أحرزه البشر في وادي النيل الذي يعد أقدم من التقدم العبري بثلاثة آلاف سنة، قد ساهم مساهمة فعلية في تكوين الأدب العبري الذي نسميه نحن التوراة، وعلي ذلك فإن إرثنا الخلقي مشتق من ماض إنساني واسع المدي أقدم بدرجة عظيمة من ماضي العبرانيين، وأن هذا الإرث لم ينحدر إلينا من العبرانيين بل جاء عن طريقهم، والواقع أن نهوض الإنسان إلي المثل الاجتماعية قد حدث منذ زمن طويل، وأن هذا النهوض نتيجة للخبرة الاجتماعية التي مارسها الإنسان نفسه، ولم يزج إلي هذا العالم من الخارج، إن الحقيقة القائلة بأن أفكار الإنسان الأول الخلقية أتت نتيجة لخبرته الاجتماعية الشخصية تعد من أعمق المعاني لرجال الفكر في عصرنا، فالإنسان قد نهض إلي مرئيات الأخلاق من وحشية عصر ما قبل التاريخ علي أساس تجاربه الشخصية، فإن ذلك العمل العظيم الذي أوجد علي كرتنا الأرضية تلك الحياة المستقرة الرقي، سواء كان ذلك في حياة الإنسان أم في حياة الحيوان، كان عمل انتقال من عالم يجهل الأخلاق إلي دنيا ذات قيم باطنة تسمو علي المادة، أي إلي دنيا تشعر لأول مرة بمثل تلك القيم، ولأول مرة نحس بالأخلاق ونسعي للوصول إليها، وبهذا العمل العظيم وصل الإنسان إلي الكشف عن مملكة جديدة لم يرد مجاهلها بعد، علي أن الكشف عنها في حد ذاته كان أصعب مثالاً بالنسبة إلي ارتياد مجاهلها المقبل«.

للحديث بقية..