عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

حفلة زار في قصر الخديو إسماعيل

ظاهرة الزار بالنسبة للمجتمع المصري والعربي بارزة ولا يمكت تجاهلها أو الاستعلاء عليها، إذ انها جزء أصيل من المكونات النفسية للشخصية القومية، يعكس محتواها العقائدي والنفسي للشخصية القومية.

والبحث في ظاهرة الزار هو في نفس الوقت بحث في مكونات هذه الشخصية بقدر ما هو تمهيد لتنقية الشخصية من الشوائب والأمراض التي تقف بها عند الحدود البدائية وتمنعها من التقدم، وقد لفتت هذه الظاهرة أنظار الفن والفنانين منذ وقت مبكر، فاستغله كثير من الفنانين في أعمال فنية متعددة، وهناك مسرحيات وأفلام سينمائية وتمثيليات هي عبارة عن حفلات زار سرعان ما ينخرط فيها المشاهدون فلا يسألون عن حبكة فنية أو شخصيات أو صراع درامي أو مغزي، إذ إنهم يصيرون جزءاً من العرض يشاركون فيه حتي وإن بقوا في مقعدهم، وليس المجتمع العربي وحده هو المفتون بحفلات الزار، بل ان جميع مجتمعات العالم تكاد تدمنه، غير أنه معروف في جميع أنحاء العالم بأسماء مختلفة، الا أن الطقوس المتبعة تكاد تكون واحدة، وكذلك الدوافع والأغراض، ومن الدراسات العلمية المهمة التي تعرضت لظاهرة الزار تلك الدراسة المتميزة المتفردة التي صدرت منذ سنوات مضت بعنوان: "الزار - دراسة نفسية وأنثروبيولوجية" للباحثة الدكتورة فاطمة المصري كانت فيما يبدو رسالة علمية للحصول علي إجازة الدكتوراة، حيث كتب بأسلوب أكاديمي الا أن الباحثة تتمتع بملكة أدبية نيرة، ما أضفي علي كتابها مسحة أدبية رصينة اللغة، فجاء الكتاب شائقا سائغا كأنه عمل فني.

ليس عندي ثمة من معلومات عن الدكتورة فاطمة المصري سوي أنها كانت استاذة بكلية التربية للبنات، وأنها زوج لواحد من أشهر أساتذة الجامعة السكندرية هو الدكتور محمد حسن ظاظا الا أنني ارتبطت بهذا الكتاب ارتباطا وجدانيا وثيقا وحميماً، لقد اشتريته حوالي ست مرات، وقرأته خمساً، وأعرته ثلاثا، وحدثت عنه كل من صادفته مهتما بالجانب الوجداني والروحي للشخصية المصرية والعربية وفي كل مرة أقرأه يبدو جديداً ومنيراً بقدر ما يحويه من معلومات وتحليلات من نظرة علمية دقيقة ومحيطة بالموضوع.

يقع الكتاب في مائتين وسبعين صفحة من القطع المتوسط، ينقسم علي ثلاثة أبواب، الباب الأول عن الزار، تاريخه وانتشاره، ووضعه في مصر، الباب الثاني دراسة أنثروبيولوجية: الزار كظاهرة ثقافية اجتماعية، الباب الثالث دراسة سيكولوجية تاريخية للأمراض النفسية في أوروبا من قبل القرن 12 إلي القرن 17 الميلاديين، والظواهر النفسية المرضية التي يتضمنها الموضوع.

وكلمة الزار في أصلها لفظ أمهري معناه عند الأحباش "شر ينزل بإنسان" ولا معني لهذه الكلمة في اللغة العربية، ولكن بعض المستشرقين مثل "زويمر" يري أن الزار سمي كذلك لأنه من الزيارة، أي أن الجن تزور الآدميين، ويمكن القول بأن الزار فعل ماض قد سُكن آخره لكثرة الاستعمال والخروج به عن أصل وضعه، ثم اطلق علي تلك الحالة التي تعتور الانسان، ولا يفهم الناس لها سببا واضحاً، ولكنهم يعتقدون أنها ناجمة عن انفصال بعض الأرواح بذلك الانسان، ولما كانت هذه الحال تأتي لمدة وجيزة في فترات متباعدة كانت أشبه شيء بالزيارة لأن الانسان حيث يزور غيره لا يفعل ذلك الا من حين لآخر، ويري البعض أن اصل الكلمة ليس سامياً ولكنها دخلت الي اللغة الأثيوبية الأمهرية عن لغة الجلا وهي قبائل وثنية تخضع للحكم الأثيوبي.

وترجح الدراسة أن الزار في البلاد العربية يرجع الي زار بلاد الحبشة نفسها.. ويعتقد المسلمون والنصاري في الحبشة أن الزار الذي يعيش بصفة خاصة في الأنهار والجداول وغيرها من المياه الجارية يمكن طرده باستخدام التمائم أو الشعائر الشائعة عند أتباع كل من هذين الديانتين.

ويستحضر الزار إبان اقامة هذه الشعائر للإصفاح عن اسمه، فتؤدي له الترضيات التي تهديء من حدته.

هذه الظاهرة الاجتماعية حاربها الأحباش بين قبائل الجلا واستنكروها عليهم، لكنها رغم ذلك انتقلت اليهم واتخذت مظهراً علاجيا سماه الأحباش "زار" أي روح شرير يصيب الفرد ويجلب له المرض.

ولئن كان الزار قد وصل الي مصر عن طريق الحبشة أو السودان او قبائل الجلا فإنه ظاهرة اجتماعية، الغرض منها علاج بدائي لكثير من الأمراض التي تتوهم الجماعة أن ارواحاً معينة سببتها للمريضة، أو ترضية للأرواح حتي لا تعرقل مصالح الناس.

وفي مصر يعتبر الزار - بالنسبة لمن يأخذون به من النساء وقلة من الرجال - علاجا بدائيا يقصد به ارضاء الأسياد واجابة مطالبهم لتخليص المرضي من آلامهم وتهيئة الشفاء لهم، وإبعاد أدي الأرواح عنه، ولعل الفكرة الأساسية في الزار هي الاعتقاد بوجود أرواح تحوم حول الأرض، هذه الأرواح ذات مقدرة علي جلب الخير أو الشر للإنسان، وهي ما تعرف بالأسياد بالنسبة للزار، ولا تعتبر شياطين، كذلك لا يقال عنها إنها طيبة او رديئة لأنها جميعاً أرواح طاهرة واجبة الاحترام والتقديس، وهي لا تعيش في جسم الانسان دوماً، ولكنها تأتيه في حالة التلبس، فتحل الأسياد بالجسم، ولذلك تكون المريضة غير مسئولة عما تأتي به من أعمال وحركات.

وهؤلاء الأسياد يفوقون البشر في قواهم، لذا فهم في مرتبة تعلم التنوير يمكن التخلص منهم، ولكن حسب مرضاهم أن يعملوا علي تهدئتهم ان كانوا غضاباً.

لذلك تقيم النساء اعتباراً كبيراً لهذه الأسياد التي يخشينها دائما ولا يتحدثن عنها الا بتوقير واحترام كبيرين فلا تقول مثلاً "العفاريت" بل الأسياد، وكلما ذكرت الكودية - رئيسة الزار -

شيئا عنهم تقول: الرضا والسماح يا أسياد.

ومن الشائع بين الدارسين الأجانب - تقول الباحثة - أن ظاهرة الزار وجدت في مصر منذ الفتح العثماني أو بعد ذلك بقليل، لأنها كانت قد انتقلت الي العثمانيين من الشعوب العربية، وظهرت في مصر بعد ذلك، ويري بعضهم أن ما يتعلق بهذه الظاهرة كان موجودا في مصر منذ الفتح العثماني وربما قبله بكثير، الا الاسم نفسه فإنه لم يظهر في هذا المعهد أو بعده حتي القرن التاسع عشر، وهذا في رأي الباحثة أقرب الي الصحة، خاصة أن جميع كتابات الرحالة الذين زاروا مصر، وعلي رأسهم علماء الحملة الفرنسية الذين لم يتركوا في مصر ظاهرة الا أحصوها، وخاصة ادوارد وليم لين، الذي كتب عن كل صغيرة وكبيرة في المعتقدات الشعبية المصرية.

ويبدو أن الزار لا يعرف بهذا الاسم في أي مكان غير بعض البلاد العربية بما فيها مصر والسودان والحبشة، ولكنه في هذه البلاد يعتبر جزءا من حياة المرأة كالطباق أو الملابس المطرزة عندهن.

والاعتقاد والثقة في الشيخة غير خاص بطبقة معينة من طبقات المجتمع، والدليل علي ذلك انه منذ زمن اقيم حفل زار لاحدي الاميرات هي ابنة الخديو اسماعيل، وكانت عجوزا مريضة، عالجها اطباء كثيرون، ولكن سيدات الحرملك أقمن لها زاراً ظل قائما لمدة اسبوعين قبل وفاتها مباشرة.

وقد روت شاهدة عيان - هي مدام رشدي باشا - أنه في المساء حضرت ثلاث نساء وجواريهن، وأخلي الصالون من كل ما به من أثاث، وأجلست الأميرة المريضة في سريرها بالغرفة المجاورة، متكئة علي الوسائد، أخذت الاستعدادات اليوم كله، وأطلق البخور في كل غرفة من القصر، بينما منعوا الزوار من الخارج، وتجمع الخدم والجواري في "الحريم"، ولم تحو الغرفة كرسياً بل حوت موقداً كبيراً كان يحرق فيه البخور.

جلست الشيخات الثلاث في ملابسن الحريرية الثقيلة ذات الألوان المختلفة وقد اشترينها خصيصا لهذه المناسبة بالذات، وعلي رؤوسهن طرابيش مغطاة بالذهب، فقد أخذن أكثر من مائة جنيه لهذه المناسبة.

قامت النسوة الثلاث بالرقص بالتناوب نيابة عن المريضة، وأخذن يضربن طبولهن ويغنين بصوت غريب غير مفهوم، وبعد وقت قصير انحنت رئيستهن علي النار وأخذت تتكلم بألفاظ غامضة في حين أن زميلتيها قربنا سرير الأميرة من النار في وسط الحجرة، ولمسن جسدها بخفة، وكذلك وجهها وذارعيها وظهرها، ثم اخذت الرئيسة تتكلم في صوت عميق مقلدة الرجال كزئير الأسد، وترجمت الكلمات من العربية الي التركية كي تفهمها الأميرة، وكانت كما يلي: "أنا زار وقد تملكت الأميرة من خمسة عشر عاما، وأنا الآن أعلن نفسي، وسأترك الاميرة حتي تعود اليها صحتها".

وانفردت سيدتان معا في الصالون المجاور تتحدثان سويا لمدة وجيزة، ثم عادتا بعدها وصوتها هادئ وطبيعي كصوت النساء، مخالف لما كان عليه في البدء ثم اعلن أن الروح قد خرجت، وهنأن الأميرة ثم خلعن ملابسهن الحريرية، وسقطن علي الأبسطة في حالة عصبية تشنجية بينما وقفت الحريم في خشوع.

وقبل أن يغادرن القصر أخذ يتبرك بهن كل الجواري ضعيفات البنية فكانت النسوة تلمسن جباههن وتدعو لهن بالخير والعافية.

وفي المساء التالي خرجت من القصر احدي صديقات الأميرة وجارتيها التي لم تخرج من الحريم منذ سنوات، ذهبتا في عربة ولم تعودا الي القصر الا في الصباح وقيل انهما ذهبتا ليحضرا ذبيحة الضحية في بيت الكودية أو في أي مكان آخر.

وفي اليوم التالي حينما حضر الطبيب لعيادة المريضة وجدها أسوأ حالا عن ذي قبل فسأل عن السبب، ولكنه لم يتلق اجابة.

"للحديث بقية".