رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عصا سحرية تحرك اللهب

‮٨١ ‬عاماً‮ ‬علي‮ ‬رحيل‮ ‬يحيي‮ ‬حقى

أرأيت إلي‮ ‬عصا الحداد تمتد إلي‮ ‬قلب الحورة الخامدة،‮ ‬فتوخزها في‮ ‬أجنابها وسويدائها فإذا الجمرات الملتهبة قد تعرت وعانقت الهواء مبتهجة مشتاقة إلي‮ ‬الوهج؛ فما تلبث الجمرات حتي‮ ‬تشعل بعضها بعضاً‮ ‬في‮ ‬أتون تزغرد في‮ ‬جوفه ألسنة اللهب؟

 

كذلك تفعل عصا‮ ‬يحيي‮ ‬حقي‮ ‬في‮ ‬قلوبنا بحذق ومهارة فنان خبير بجوهر النفس البشرية عامة والنفس المصرية علي‮ ‬وجه خاص،‮ ‬خبير هو بموضع الجمرات التي‮ ‬تختبئ داخل النفوس تحت ركام من الرماد الناتج عن محرقة الحياة اليومية‮. ‬فنحن علي‮ ‬تعاقب الأيام وترادفها وازدحامها بالهموم المؤقتة والدائمة،‮ ‬القائمة والمؤجلة،‮ ‬المعلنة والمبطنة،‮ ‬ننسي‮ ‬الكثير من المعالم والذكريات والملامح والخصائص والأشياء التي‮ ‬لا حصر لها‮. ‬وهي‮ ‬في‮ ‬معظمها أشياء جوهرية،‮ ‬هي‮ ‬متاعنا الإنساني،‮ ‬مكوناتنا الوجدانية والعقلية الذاتية والموضوعية؛ قد دخلت في‮ ‬تراكيبنا وصارت تشكل سلوكنا وتفكيرنا وكل تصرفاتنا،‮ ‬ولذا فإن نسيانها‮ ‬يكون في‮ ‬العادة مؤقتاً‮ ‬لكنه قد‮ ‬يكون طويل المدي،‮ ‬إلا أن وعينا بها ضروري‮ ‬جداً،‮ ‬علي‮ ‬الأقل لنزداد وعياً‮ ‬بشخصيتنا القومية،‮ ‬وفي‮ ‬تفاعل دائم علي‮ ‬محتواها الثمين،‮ ‬الذي‮ ‬إن وعيناه حرصنا عليه وأبقيناه جذرًا قابلاً‮ ‬للتطور والازدهار،‮ ‬نحو قيم متجددة باستمرار،‮ ‬أكثر سمواً‮ ‬وسموقاً‮ ‬وانفتاحاً‮ ‬علي‮ ‬إنسان أعلي‮ ‬وأقوي‮ ‬وأقوم‮.‬

تمتد عصا‮ ‬يحيي‮ ‬حقي‮ ‬السحرية متسللة إلي‮ ‬قلوبنا كدبيب الانتعاش،‮ ‬كأثر الدواء الشافي‮. ‬بطرفها المبصر تلمس الجمرات المختبئة تحت رماد السنين والهموم اليومية المتطفلة علي‮ ‬وجداننا العربي‮ ‬العامر بالإنسانية النقية،‮ ‬فسرعان ما تستيقظ في‮ ‬النفس قيم عظيمة وعادات حميمة ومعتقدات‮ ‬غنية بالمشاعر وخبرات ذات قوام صلب متين‮.‬

أنت تقرأ‮ ‬يحيي‮ ‬حقي‮ ‬فتشعر أنك تغتني،‮ ‬أنك أكثر أصالة،‮ ‬أكثر عمقاً‮ ‬وتحضراً،‮ ‬إذ إنه‮ ‬يبصرك بنفسك،‮ ‬يغوص بك إلي‮ ‬أعمق أعماق جذرك البعيد البعيد‮. ‬عندئذ تشعر بنشوة عالية وأنت تتذوق حليب الأرض وعصارتها المصفاة تسري‮ ‬في‮ ‬أوصالك وأصلابك نضحك في‮ ‬علو منهم بالفخر المبني‮ ‬علي‮ ‬الثقة بالنفس،‮ ‬حيث قد وضع‮ ‬يدك علي‮ ‬كثير من الأسرار لم تكن تنتبه إليها في‮ ‬سلوكك الشخصي‮ ‬أو سلوك‮ ‬غيرك من بني‮ ‬جلدتك‮.‬

وإنه لمن حسن حظنا كقراء أن كتابات‮ ‬يحيي‮ ‬حقي‮ ‬التي‮ ‬توجه بها إلي‮ ‬عامة القراء عبر صحيفتي‮ ‬المساء والتعاون لم تكن قصصاً‮ ‬فنية وإن توسلت بأدواتها وتعطرت بتلك النكهة الحكائية المصرية العميقة المؤنسة‮. ‬ذلك أن حكايتها علي‮ ‬هذا النحو المباشر‮ ‬يبعدها عن تحليقات الخيال ويقربها من الحقائق الحياتية المعاشة المؤكدة‮. ‬إنه فيها كالجواهرجي‮ ‬المحنك،‮ ‬يقلب في‮ ‬النفس الإنسانية المصرية بملقاط دقيق‮ ‬يستطيع الإمساك بالشعرة؛‮ ‬يمسك بأدق المشاعر والخلجات التي‮ ‬هي‮ ‬بمثابة اللحمة والسداة في‮ ‬نسيج الوجدان العربي‮. ‬يضع الخلجة أمامه فوق لوح زجاجي،‮ ‬يفحصها جيداً،‮ ‬يكشف عن معدنها الحقيقي،‮ ‬فإن كان ثميناً‮ ‬حقاً‮ ‬وضعها في‮ ‬علبة من القطيفة وأبرزها في‮ ‬الخانة اللافتة‮.‬

ها هوذا‮ - ‬في‮ ‬عز نضجه وفيض عطائه آنذاك‮ - ‬يحدثنا عن الأشياء البسيطة الجارية في‮ ‬نهر الحياة اليومية فإذا هذه الأشياء العادية استحالت زوارق تسبح في‮ ‬وجداننا الواسع العميق‮.‬

عن شقشقة الفجر في‮ ‬شهر رمضان‮ ‬يتحدث،‮ ‬فإذا الفجر في‮ ‬قلبه شعر خالص،‮ ‬وإذا هو قلب الفجر الشاعر،‮ ‬فلا نكاد ندري‮ ‬أينبع الفجر من قلب الكاتب أم أن قلب الكاتب قد صيغ‮ ‬من شعر الفجر الرمضاني‮ ‬المزدان بالأنس والمودة والاطمئنان حيث الكائنات كلها متآخية متعاضدة متكاملة‮. ‬والديك الذي‮ ‬يطلق صيحة الفجر قبل صوت المؤذن هو زميل طفولة للكاتب،‮ ‬بينهما كل ما بين البشر وبعضهم من علاقات إنسانية حية‮. ‬لا‮ ‬غرو أن كان الله سبحانه وتعالي‮ ‬من عشاق الفجر وليال عشر‮. ‬لا عجب وإن كان قرآن الفجر مشهوداً‮: »‬ما أعجب رعشة هذه اللحظة من الزمان،‮ ‬الآن لا أشهد شقشقة الفجر مرة إلا ردتني‮ ‬بقوة إلي‮ ‬ذكريات طفولتي،‮ ‬دنياي‮ ‬حينئذ هي‮ ‬دنيا المسموعات لا المرئيات،‮ ‬بالليل أسمع دقة نبوت الخفير علي‮ ‬الأرض فلا‮ ‬ينفع الأمن المراد لها أن توحي‮ ‬به إلا في‮ ‬إثارة مخاوفي‮ ‬من القوي‮ ‬الشريرة المبهمة التي‮ ‬تتربص بنا في‮ ‬الظلام،‮ ‬الجن والعفاريت،‮ ‬والبغلة التي‮ ‬تصطنع الوداعة والود وتستدرجك لتركبها فإذا تخاملت ونسيت المواعظ علت بك درجة حتي‮ ‬تبلغ‮ ‬عنان السماء،‮ ‬فأنت في‮ ‬خطر أن تدوخ فتهوي‮ ‬إلي‮ ‬الأرض ويندق عنقك،‮ ‬ثم‮ ‬يشق الصمت صوت مرعب‮ ‬يخفق له قلبي‮ ‬خفوتاً‮ ‬مؤلماً،‮ ‬صوت البوحة،‮ ‬أم قويق،‮ ‬ربيتُ‮ ‬علي‮ ‬أنها نذير خراب وقرب هبوط ملاك الموت علي‮ ‬الأرض،‮ ‬لا‮ ‬يعود للسماء إلا وفي‮ ‬جعبته روح إنسان‮... ‬إلخ‮«.‬

لحظة الفجر تلك تقود‮ ‬يحيي‮ ‬حقي‮ ‬إلي‮ ‬الغوص في‮ ‬وجداننا العامر بالكائنات الخرافية الدالة علي‮ ‬الغني‮ ‬الإنساني‮ ‬لهذا الوجدان الشرقي‮ ‬الفنان،‮ ‬إذا‮ ‬يتجاور مع الكون ويقيم علاقات حتي‮ ‬مع الكائنات‮ ‬غير المرئية‮. ‬إنه إدراك مبكر جداً‮ ‬لما في‮ ‬الكون من عوالم وحيوات متعددة؛ إدراك قائم علي‮ ‬أنسنة الكون‮. ‬تتعمق لحظة الفجر في‮ ‬نفوسنا من مظهر وطقس إلي‮ ‬جوهر حيوي‮. ‬هي‮ ‬لحظة ليست محطة زمنية عابرة،‮ ‬إنما هي‮ ‬حضور إنساني‮ ‬كامل،‮ ‬من بدء اقترابها،‮

‬ثم انسيابها في‮ ‬ذيل عباءة النهار المستأنف بصيرورته التاريخية‮. ‬لحظة الفجر في‮ ‬قلب طفل نجيب في‮ ‬بيت إسلامي‮ ‬عريق في‮ ‬أوائل القرن العشرين في‮ ‬أحشاء القاهرة المملوكية بين ضلوع قلعة صلاح الدين ومسجد السلطان حسين وحي‮ ‬الصليبة وشارع محمد علي‮ ‬الحافل بالأخطار الداهمة تمشي‮ ‬علي‮ ‬عجل وأقدام تملأ الدنيا صخباً‮ ‬وفزعاً‮. ‬ما أعمق الإحساس بهذه اللحظة‮: »‬إحساس‮ - ‬لفترة‮ - ‬بأن المدينة الكبيرة وحش مهول،‮ ‬كفانا نومه بالليل شرَّه‮. ‬ها هو ذا‮ ‬يهم بالصحيان،‮ ‬إنه ساذج شرس معاً،‮ ‬ولأنه ساذج فشراسته حمقاء،‮ ‬وغير مأمونة،‮ ‬وقد تثور لأوهي‮ ‬الأسباب،‮ ‬إنها أرض معركة،‮ ‬قطع الليلُ‮ ‬فيها القتال،‮ ‬وها هو ذا‮ ‬يوشك أن،‮ ‬يتجدد مع أول شعاع للشمس،‮ ‬قتال بين آلاف من الجيوش،‮ ‬وكل جيش قوامه فرد واحد،‮ ‬مدجج بالسلاح،‮ ‬يا قاتل‮ ‬يا مقتول ولا ثالث للاحتمالين،‮ ‬ولو فرضنا المستحيل وساد السلم فإنه هدنة بين معركتين‮«.‬

من صوت الديك وصوت المؤذن وتسبيحة الكروان،‮ ‬تلك الأصوات الجميلة التي‮ ‬تمشي‮ ‬بين‮ ‬يدي‮ ‬الفجر وتزف الجمال في‮ ‬مولده إلي‮ ‬أذن ذلك الطفل الواعي،‮ ‬إلي‮ ‬أصوات الرهبة‮. ‬أما هذا الجانب‮: »‬فكان‮ ‬يتكفل به‮ - ‬ولا عجب‮ - ‬صوت للحديد،‮ ‬صوت احتكاك عجلات بقضيب‮«.. »‬كانت أذني‮ ‬تبعُد بالنهار كثيراً‮ ‬وبالليل قليلاً‮ ‬عن مهبط مسجد السلطان حسن،‮ ‬حين‮ ‬يبلغه الترام القادم من شارع محمد علي‮ ‬يستدير إلي‮ ‬اليمين بقوة الزاوية القائمة ليعيد من ورائه المسجد إلي‮ ‬ميدان القلعة،‮ ‬فيكون لاحتكاك العجلات بالقضيب عند الاستعادة صوت حاد،‮ ‬لا أسمعه بالنهار ولكنه‮ ‬يطعن أذني‮ ‬مع أول ترام‮ ‬يولد مع الفجر،‮ ‬فتكاد تجزّ‮ ‬له أسناني،‮ ‬صرير معدني،‮ ‬حاد،‮ ‬فج،‮ ‬سمج،‮ ‬بلا حياء،‮ ‬كأنه شحذ سكين للذبح،‮ ‬هذا ولا ريب أول صليل السيوف وقد بدأت المعركة،‮ ‬وتحجل الترام هو اختصار الرحي‮ ‬التي‮ ‬تطحن منا اللحم والعظم‮..«.‬

بملقاطه السحري‮ ‬ينبش في‮ ‬خزائن الوجدان المصري‮ ‬العربي‮ ‬ليكشف عن مكوناته الأسطورية التي‮ ‬هي‮ ‬انعكاس لإنسانيته الشديدة‮ ‬يخلعها علي‮ ‬الكون بجميع ظواهره وبواطنه،‮ ‬مبرزاً‮ ‬هذه العلاقة الحميمة الغنية التي‮ ‬ربطتنا قديماً‮ ‬بجميع المخلوقات فإذا هي‮ ‬عالم من السحر الواقعي‮ ‬الفاتن‮: »‬أرادوا لي‮ ‬وأنا طفل أن أومن كما آمنوا فآمنت بأن هذا الطائر الذي‮ ‬نسميه بالسقساقة‮. ‬ولا أعرف حقيقته إلي‮ ‬اليوم‮ - ‬إذا زقزق وهو‮ ‬يرفرف بجناحين من وراء نافذتنا،‮ ‬فمعني‮ ‬هذا أنه‮ ‬يحمل إلينا خبراً‮ ‬علي‮ ‬غير انتظار منا،‮ ‬سيدق الباب فإذا صحنا‮: ‬من؟ رد علينا إنسان لا نتوقعه‮. ‬ولا نقول رسالة السقساقة هل سنسر لمقدمه أم لا نسر،‮ ‬هذه مسائل‮ ‬غير داخلة في‮ ‬اختصاصنا،‮ ‬لعل تصرفات البشر تبدو للسقساقة في‮ ‬غاية من البلاهة أو اللؤم،‮ ‬فتزدريها ولا تشغل نفسها بها‮. ‬وإن كأكأة الغراب‮ - ‬الطائر الوحيد الذي‮ ‬يخيل إليك من حركة رقبته إذا صاح أنه‮ ‬يتقيأ‮ - ‬تنبئ بالفراق وتشتت الأسرة،‮ ‬وأن نعيق البوم نذير بأن ملك الموت عزرائيل‮ ‬يحوم حول الحي‮ ‬كله ليخطف روحاً‮ ‬انتهي‮ ‬أجلها‮.. ‬ولكني‮ ‬لما كبرت دهشت أشد الدهشة إذ وجدت نعيق البوم موصوفاً‮ ‬في‮ ‬الشعر الأوروبي‮ ‬بأنه هتاف رقيق،‮ ‬حقاً‮ ‬إن هؤلاء الأقوام من جنس‮ ‬غير جنسنا‮..«.‬

هذه كانت بعض جواهر التقطت عشوائىاً‮ ‬من كتاب ليحيي‮ ‬حقي‮ ‬غاية في‮ ‬العمق والأصالة والجمال وعنوانه مع ذلك‮ - ‬ويا للعجب‮ - ‬كناسة الدكان‮!!‬