رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

إلي الباحثين عن الرؤي في أرض العجائب

 

يعتبر أرسكين كالدويل من أبرع كتاب الجنوب الأمريكي، الذين يشكلون بدورهم أبرز ملامح الأدب الأمريكي.

وربما كان كالدويل من الكتاب القلائل الذين حققوا شهرة عالمية واسعة، مبنية علي تقدير وحب من جميع قرائه، كما تشهد بذلك الدراسات والمقالات التي كتبت عنه في جميع أنحاء العالم.

لقد ارتبط به قراؤه ارتباطاً وثيقاً، فتابعوا أعماله الروائية بشغف كأنه واحد منهم كأنه ينوب عنهم في التعبير عن معاناتهم وشظفهم وإنسانيتهم.. وتلك هي سمة الكُتاب العظماء، يتخطون أسوار المحلية إلي العالمية بإيغالهم في البيئة المحلية والغوص فيها حتي النخاع، حتي الوصول إلي الإنسانية الخالصة، التي يشترك فيها كل بني الإنسان في جميع أنحاء الأرض، فتجيء أعمال أولئك الكتاب برغم محليتها تلخيصاً للوضع البشري برمته.

قرأت له رواية »طريق التبغ« في وقت مبكر جداً، فبهرتني، نقلتني من قريتي البعيدة في شمال الدلتا إلي بيئة إنسانية أشد بعداً، حيث تعيش طائفة من الفلاحين المعدمين يعيشون في فقر مدقع، تحت مستوي الكفاف بكثير، أذكر أنني دهشت بالغ الدهشة من تشابه الفلاحين وحياتهم في كل مكان، رغم اختلاف المظهر واللون والمكان.. فالمشاكل واحدة والفقر واحد والظروف واحدة، وأساس ذلك ــ طبعاً ــ أن الإنسانية واحدة.

كانت هذه الرواية هي الخيط الذي شدني للبحث عن كل أعماله التي نقلت إلي اللغة العربية، ومن حسن الحظ أنها نقلت كلها في ترجمات بعضها جيد بالفعل: »أرض المآسي« و»الرحالة« و»جرتيا« وغيرها، وأذكر أن هذه القصة الأخيرة »جرتيا« كانت ولاتزال أجمل قصة طويلة قرأتها في حياتي، ومن أشدها تأثيراً في نفسي، إنها قصة فتاة عزيزة بريئة متطلعة للحياة بشرف وكرامة، يوقعها سوء الحظ بين براثن ذئب بشري ناعم وخادع وبلا ضمير، استدرجها إلي الوقوع في الخطيئة، وتلك حدوتة مكرورة وشائعة في الحياة وفي الأدب والسينما العالميين، لكن الممتع فيها هو كالدويل نفسه، وكيف ـ بموهبته ـ الفذة ـ رصد سلوك تلك الفتاة التعسة وهي تتحول شيئاً فشيئاً إلي بغية محترفة، نري من خلالها مجتمعاً آلياً شديد القسوة مفرغاً من الضمير الإنساني لأنه يغتال أبناءه أو يحولهم إلي مسوخ شائهة تنطوي أعطافها علي وحوش ضارية.

كاتب مبدع كهذا يجعلني أتلهف علي قراءة ذلك الكتاب الذي ألفه بعنوان »كيف أصبحت روائياً« وترجمه إلي العربية الكاتب الفلسطيني الراحل أحمد عمر شاهين، ونشر منذ وقت طويل مضي في سلسلة »كتاب الهلال« ورغم أنني قرأته فور صدوره فإن ذكري الكاتب الفلسطيني المبدع الذي أحببته من كل قلبي، بالإضافة إلي الحنين إلي هذا الكتاب جعلاني أعيد قراءته وأشرككم في هذه القراءة.

الكتاب ليس سيرة ذاتية للكاتب رغم أنه يعرض فيه لبعض وقائع حياته الحافلة، إنما الكتاب يدور حول خط واحد يعتبر الخط الرئيسي في حياته، ذلك هو خط الكاتب والكتابة، علي وجه التحديد قصته مع الكتابة الروائية، ولهذا فإن من يبحث عن الأشياء المثيرة في حياة هذا الكاتب لن يجد منها شيئاً، بل ربما لا يجد هذه الحياة أصلاً.

إنه يقدم الكتاب علي هذا النحو: »الهدف من هذا الكتاب هو عرض بعض الخبرات لمؤلف، قد تكون لها أهمية وطرافة لقارئ محب للاستطلاع، أو لكتاب في أول الطريق ممن يبحثون عن الرؤي في أرض العجائب التي يعتقد الجميع أن المؤلفين يعيشون فيها، ولم يكن هدفي أن أسرد أحداث حياتي بالتفصيل، ولكني أتناول ببعض التفصيل تلك الخبرات التي ربما أثرت علي كتاباتي وانعكست في قصصي القصيرة ورواياتي، فما يمكن أن تجده في هذا الكتاب هو جماع خبراتي كمؤلف وليس تاريخاً شخصياً خاصاً، هناك بعض الأمور تركتها عن غير قصد، والبعض حذفتها عامداً، فإني أشعر بأن عملي كسائق في مطار بلنجتون في ولاية تنلين خلال الحرب العالمية الأولي، أو كجامع قطن قصير التيلة في ولاية ألاباما في العشرينيات، أو كمسافر في طائرة ضربها البرق فوق أريزوناسة 1942، أو كسائح ربح 27 ألف فرانك في لعبة الروليت في أحد كازينوهات موناكو 1949، لا يخدم أي هدف يتعلق بخبرات، كتبت هذا الكتاب من الذاكرة والمفكرة، وحاولت أن أستدعي الأحداث والأحاديث كما وقعت قدر ما استطعت.

يقع الكتاب في نيف ومائتي صفحة من القطع الصغير، ينقسم إلي ثلاثة أقسام السنوات المبكرة.. السنوات الوسطي.. سنوات النضج.. وخاتمة يستعرض فيها بعض الأسئلة التي تصل من قرائه حول موضوع الإبداع الفني بشكل عام، ليقدم عنها إجابات مبتسرة.

ولئن كانت العادة قد جرت بأن تدخل إلي الكتاب من أوله فإننا سنخالف هذه القاعدة هذه المرة فندخل إلي الكتاب من آخره! من ذلك الحوار الطريف الذي يجري بين الكاتب ورسائل قرائه.

فالواقع أننا نحن المشتغلين بكتابة الأدب كثيراً ما نتلقي مثل هذه الطرائف، بل إنني شخصياً أتلقي الكثير من الأسئلة المشابهة التي أجد في إجابات كالدويل ما يمكن أن أرد به علي أصحابها.

من هذه الأسئلة مثلاً ـ التي يتلقاها كالدويل ـ يقول لي أصدقائي إن قصة حياتي طريفة وممتعة جداً، وأعتقد أنها كذلك، فلا يوجد ما يشبهها سواء في كتاب أو علي شاشة السينما، هل تكتبها لو زودتك بكل الحقائق؟

يجيب كالدويل: لا، يجب أن تكتب أنت حياتك الخاصة.. وهذا شكل من التعبير عن النفس له قيمة كبيرة بالنسبة إليك ويمكن أن تخرج باقتناع أكثر منها لو كتبتها بنفسك.

ويسأل سائل: يمكنني أن أخبرك بقصة أعتقد أنها ستدر كثيراً من النقود حين تكتب كرواية.. فكرت بها بنفسي ولا أحد غيري يعرف بها، هل نتعاون معاً علي أن آخذ نصف الحقوق؟

فيجيب: لا، فالعمل الإبداعي هو نتاج عواطف وعقل مفرد، وسيكون أكثر نجاحاً حين يكتبه من يتذكره.

وثمة سؤال: هل الشخصيات في قصصك ورواياتك موجودة بالفعل، هل هم أناس حقيقيون؟

يقول: لا، إنهم شخصيات خيالية، وأنا أكافح بشدة لجعل الشخصيات الخيالية كأنها واقعية من الحياة.

وسؤال: هناك شخصية في أحد كتبك تتحدث وتتصرف كعمي، هل كنت تكتب عنه فعلاً؟

يجيب: لا، ولكن أسعد دائماً حين أجد إحدي شخصياتي الخيالية لها معادل موضوعي في الحياة الفعلية.

ولعل في هذه الإجابات ما يقنع بعض قرائنا أن التشابه الذي يحدث عادة بين بعض الشخصيات الفنية في قصصنا وأفلامنا وتمثيلياتنا، وبين مثيلات لها في الواقع ليس دليلاً علي أن المؤلف اعتدي علي حياة هؤلاء، وشهر بهم في قصصه أو أفلامه أو

تمثيلياته، كما نسمع ونقرأ دائماً كلما تشابهت شخصية فنية مع نظير لها في الواقع وكأن الأدب من المفروض أن يبحث عن شخصيات من خارج الواقع المعاش، بل من خارج الحياة نفسها وهذا مستحيل طبعاً، إنما الأدب يحاكي الواقع فلابد أن يتشابه معه، ويحاكي الحياة فلابد أن يكونها.

غير أن ازدياد عدد النخب القارئة في المجتمعات المتقدمة ينشئ مناخاً أدبياً يرتفع فيه مستوي الوعي الجماهيري بحقيقة »اللعبة الأدبية« من حيث كونها لعبة فنية حضارية تخلق واقعاً فنياً افتراضياً يأخذ مادته الأولية من الواقع الحي المعاش ليعيد صياغتها طبقاً لما يجري عليه الواقع لكنها تحتفظ بمسافة بينها وبين الواقع هي مسافة الخلق الفني، اللعبة الفنية، وفي هذه المسافة الفاصلة بين الواقع المادي والواقع الفني يكون موقع التلقي، حيث يعلم القارئ سلفاً أنه يستقبل تجربة فنية تبدو وكأنها الواقع الذي يعيشه لكنها ليست هو، ومن ثم فالشخصيات الواردة في العمل الفني ليست هي أشباهها التي يعرفها في الواقع حتي إذا تطابقت هذه مع تلك في الصفات والمظاهر والمخابر، بل وربما الأسماء، في الوقت نفسه، فإن العمل الفني إن لم يكن لشخصياته أشباه ونظائر في الواقع يكون عملاً فنياً ميتاً لا يستحق أن يوصف بالفني، إذ إنه بناء علي هذه الأشباه والنظائر تتقابل مرايا العمل الفني مع مفردات الواقع وصوره فيتاح للمتلقي رؤيتها بوضوح في ضوء قوي يكشف عن وقائعها وظلالها وأبعادها، ومن ثم يفهم المتلقي حقائق الأشياء وما في الواقع من خلل.

ثم إن العمل الفني، قصة أو رواية أو فيلم سينمائي أو مسرحية أو تمثيلية، يتعامل مع الشخصيات التي يقدمها باعتبارها دورات فردية ذات أبنية اجتماعية ونفسية وثقافية وعقائدية معينة، مثلها مثل بصمات الأصابع لا تتشابه شخصية مع الأخري سواء في الواقع المادي أو الواقع الفني، اللهم إلا في الخطوط الإنسانية العامة، بمعني أن كل الناس لهم أصابع وبصمات وحتي البصمات مجرد خطوط في أصابع الجميع غير أنها تختلف في النقشة، في الشكل الهندسي لاتجاهات الخطوط وتشابكها وتقاطعاتها.. إلخ.

معني ذلك أن العمل الفني إذا قدم شخصية لمحام فاسد أو طبيب بلا ضمير أو مهندس مرتش أو أي شخصية مهنية ترتكب الموبقات وتعيث فساداً في محيطها الاجتماعي، فليس من حق نقابة المحامين أو نقابة الأطباء أو نقابة المهندسين أو أي نقابة مهنية أن ترفع دعوي قضائية علي المؤلف تتهمه فيها بالإساءة إلي أبناء مهنتها، وتسويئ سمعتهم علي الملأ.. إلي آخر مثل هذه الدعاوي، ذلك لأن هذا الأمر مردود عليه بداهة لولا قلة الوعي عندنا ــ مع الأسف الشديد ــ بحقيقة دور الأدب ناهيك عن قلة الوعي بتقنياته وأصوله الفنية.

مردود عليه بأن الشخصية الفنية إنما هي ذات مفردة، ذات ظروف اجتماعية بيئية تربوية خاصة قامت بتشكيله وبنائه علي هذا النحو أو ذاك فأدت به إلي الانحراف أو إلي جادة الصوت، فالشخصية في العمل الفني هي ـ مثلاً مثلاً ـ هذا المحامي علي وجه التحديد، هذا الصحفي بعينه، هذا الطبيب هذا المهندس، هذا الموظف، هذا العامل، كل شخصية تحمل أوزارها علي كتفها، كل خشب يحمل رائحته كما يقول شاعر الإنسانية الأعظم جلال الدين الرومي، وكل إناء ينضح بما فيه كما يقول المأثور العربي العريق.

تلك جملة اعتراضية لا نعتذر عن طولها، لبيان الفرق بين حرية الكاتب في أوروبا وأمريكا واتساع المدي أمامه بغير حدود فكأنه يحرث أرض المجتمع وأخيلته ويعرضها للشمس والهواء الطلق حتي يأتي يوم تختفي فيه أمراض المجتمع، ومن ثم فالأدب عندهم يبلغ شأواً عالياً من الإبداع المتقدم، وبين محنة الكاتب العربي المكبل بقيود لا حصر لها، أمنية وأخلاقية وعقائدية ومعتقدات بالية متجذرة في الوجدان العام حتي النخب الذين اختاروا العلم منهجاً ومصيراً تتصادم الحقائق العلمية مع وجدانهم المعبأ بثقافات ومعارف عتيقة شائخة، ولذا فالأدب عندنا في محنة أزلية تحد من انطلاق الأخيلة واستنبات الأفكار، والكاتب يكتب بيد مرتعشة وخيال تم تحزيمه كالجالس في طائرة، ومن ثم فالأدب العربي لم يصل إلي العالمية بعد.

كل ذلك فجرته الأسئلة التي تلقاها كالدويل من قرائته، فما بالك بالجوهر الثمين الذي يضمه الكتاب؟

يتبع