رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

محمدعبدالوهاب مطرب المائة عام

 

 

ليس هذا مجرد كتاب في تاريخ حياة الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب ودوره في تطوير الموسيقي العربية، إنما هو إلي ذلك بحث علمي دقيق في تاريخ وتأصيل الموسيقي المصرية ومن ثم العربية علي امتداد قرن كامل من الزمان أو أزيد قليلاً.. يضع النقاط علي الحروف ويجيب عن كل الأسئلة التي يمكن أن تنشأ في الذهن بخصوص محمد عبدالوهاب وعصره، وما سبقه وما تلاه، لم يترك قضية مثارة أو يمكن إثارتها إلا وناقشها واستصدر الحكم فيها بحيثيات بالغة الإحكام والصفاء. كذلك لم يترك شائعة مغرضة أشيعت عن عبدالوهاب إلا وردها إلي أصولها، إنه كتاب مسطور بدعم الخبرة الطويلة العميقة، مشمول بالأمانة وصحوة الضمير العلمي.

يجمع هذا الكتاب بين التأريخ والدراسة الفنية، بين العلم والتذوق، بين الحقيقة ووجوهها المختلفة، تنطلق فيه الخصوصيات من خصاصها نامية لتعانق العموميات، ليصبح عبدالوهاب نفسه بجلالة قدره - برغم حضوره الضخم في الكتاب - مجرد جزء من كل كبير، مجرد مرآة لعصر بأكمله، ومن هذا فنحن نتفهم شخصية عبدالوهاب علي حقيقتها خارج إهاب النجم، نراها من الداخل والخارج، إنساناً وفناناً، فيما نري العصر كله بنظرة شمولية تقوم علي عمد تفصيلية لجميع جوانب العصر: السياسية والاجتماعية والأدبية والفنية.

إلي كل ذلك هناك الأنس في الكتابة، المتعة التي تصاحبك أثناء القراءة فكأنك تستمتع إلي أدوار غنائية مبهجة، لكأنك في حفل من حفلات فرقة الموسيقي العربية، حيث الكاتب يتحول إلي مايسترو ينظم ويقود عزف هذه الجوقة الهائلة من المعلومات التاريخية والفنية والأدبية والسياسية والعلمية التي تتحول إلي أنغام متآلفة متضافرة متماهية تتشكل منها شخصية فنان تمثلت في قسمات وجهها ملامح قرن كامل من الزمان، فإذا بنا أمام شخصية مصر الغنائية.

لا غرو فمؤلف هذا الكتاب هو الشاعر كمال النجمي وما أدراك ما كمال النجمي في ميدان التذوق الغنائي.

الكتاب بعنوان: »محمد عبدالوهاب مطرب المائة عام«، يقع في مائتين وثلاث وعشرين صفحة من القطع الكبير، ينقسم إلي ثمانية وعشرين فصلاً، هي علي النحو التالي:الميلاد - الحارة والحي.. بداية عصر الأسطوانة.. الدور ونادي الموسيقي.. عصر الطقطوقة..مع سيد درويش.. من سيد درويش إلي شوقي.. عبدالوهاب آخر مطربي شوقي.. المونولوج والقوالب الموسيقية..أصوات العشرينيات والثلاثينيات..عصر التنافس مع أم كلثوم.. عبدالوهاب وشعراؤه بعد شوقي.. عصر الميكروفون - من الإذاعة إلي السينما.. عهد جديد.. أصوات الخمسينيات والستينيات.. عبدالوهاب وشخصيات الظل.. الشوط الأخير.. ما بعد عبدالوهاب.

هذه كما نري خريطة موضوعية عريضة، صال فيها النجمي وجال، علي صهوة جواد أصيل لا يكل ولا يمل، يجري وراء المعلومة إلي أبعد مكان وأوغل زمان.. ما يجذبه في المعلومة ليس ما تحويه من إثارة.. كلا، فما أبعد منهجه عن الإثارة وإن تحققت عرضاً وبشكل تلقائي غير مقصود.. إنما يجذبه في المعلومات ما فيها من إشعاع يلقي الضوء علي جانب مهم من جوانب شخصية عبدالوهاب أو فنه أو عصره - بصبر ودأب يرقد علي المعلومة كما ترقد الدجاجة علي بيضها، فإذا المعلومة قد أفرخت حقائق وشخصيات وألحاناً ومواقف وطنية، تلك درجة أبعد من مجرد التحليل و»التفلفس« الذي ينتهكه العاجز عن اكتشاف حقائق الأشياء بثاقب النظر وعميق التجربة واتساع الثقافة.

ها هو ذا يتقصي تاريخ ميلاد محمد عبدالوهاب، التاريخ الحقيقي الذي نجح عبدالوهاب في كتمانه، وتعددت بشأنه الأقوال والاجتهادات، يتقصي تاريخ الحي الذي ولد فيه عبدالوهاب، حي باب الشعرية، بالتحديد حارة برجوان: »وكان هذا الحي في الماضي البعيد يجمع المغاربة الوافدين إلي القاهرة، والمهاجرين إليها، والمارين بها إلي الحج، والمقيمين فيها من مهاجري الأندلس الفارين من الاضطهاد الفشتالي أو الإسباني بعد انفراط عقد الإمارات العربية هناك.. هكذا قدر لمحمد عبدالوهاب أن يولد في الحارة التي تبناها ذلك المملوك الفاطمي المحب للشعر والموسيقي والغناء، أما أبوه الشيخ محمود عبدالوهاب فقد نزح من إحدي قري محافظة الشرقية إلي القاهرة، فعمل مؤذناً بمسجد العارف بالله الشيخ عبدالوهاب الشعراني، وقد حرص النجمي علي توثيق هذه المعلومات تاركاً إياها ترد علي ما كان يشيعه عبدالوهاب عن نفسه من أنه من نسل الشعراني.

حقيقة الأمر أنه لا صلة في الحقيقة ولا نسب بين الشعراني صاحب المسجد وبين الموسيقار عبدالوهاب، إلا الصلة الروحية لعبدالوهاب بهذا المسجد الذي شهد طفولته وصباه وباكورة شبابه.

ويوم ولد عبدالوهاب في حارة برجوان لم يكن تسجيل المواليد في دفاتر رسمية قد عرف بعد لدي الفقراء المصريين في جميع أنحاء مصر، ولكن بعملية حسابية بارعة، ومضاهاتها بأقوال بعض معاصريه وزملاء طفولته وأصدقاء نجوميته من توفيق الحكيم إلي أم كلثوم ويوسف وهبي، مع استقراء بعض الأحداث الشخصية والعامة، تتطابق النتائج فتتفق علي تحديد تاريخ الميلاد الصحيح، يسوقه الكاتب بتأكيد وثقة: »لقد ولد عبدالوهاب عام 1897، أي أنه عاش أربعة وتسعين عاماً، وامتدت حياته علي القرن العشرين كله إلا قليلاً، فاستحق بعمله الفني الضخم المتواصل أن يكون مطرب القرن العشرين وملحنه أيضاً بلا منازع«.

الطريف أن محمد عبدالوهاب بقي بلا شهادة ميلاد كغيره من ملايين الأطفال في مصر، حتي اضطر الطبيب إلي تسنينه سنة 1924 لمناسبة تعيينه معلماً للأناشيد بمدرسة الخازندارالابتدائية بالقاهرة، وكان رأي الطبيب أنه من مواليد سنة 1900 تقريباً، وصار هذا تاريخ ميلاده في وزارة المعارف. وفي سنة 1927 سجل محمد عبدالوهاب هذا التاريخ في أول جواز سفر يستخرجه لمناسبة سفره إلي لبنان في صحبة أمير الشعراء أحمد شوقي بك.. »ولكن التاريخ المسجل في جوازه يزيد عشر سنوات كاملة في استخراج بدل فاقد لهذا الجواز في الثلاثينيات، فصار عبدالوهاب بموافقة وزارة الداخلية من مواليد سنة 1960 ومضي عبدالوهاب يجدد هذا الجواز كلما حان وقت تجديده.

ويرصد الكتاب تاريخ »الدور الغنائي« الذي بلغ ذروة تقدمه إبان ظهور محمد عبدالوهاب هاوياً وللغناء، وقد لعب الحظ دوراً كبيراً جداً في أن يقف عبدالوهاب علي تراث أمته الغنائي، وعلي فن الدور بوجه خاص، ذلك أن عبدالوهاب ما كان يظهر في سوق الغناء حتي كان عصرالأسطوانة قد بدأ يفرض علي الأسماع، يختصر من المغنين حفلات كثيرة، لكنه خدم الفن وخدمهم حينما احتفظت الأسطوانة بالأدوار والموشحات والقصائد التي انضجتها الأجيال السابقة وكانت مهددة بالانقراض لولا اختراع الأسطوانة وبخمسة مليمات استطاع عبدالوهاب الصبي - لأول مرة - أن يستمع إلي الشيخ يوسف المنيلاوي ومحمد سالم العجوز وعبدالحي حلمي والسيد الصفتي ومحمد سليم وسليمان أبوداود وعلي عبدالباري وأحمدفريد عن كثب،ويتأمل بأذنيه نبرات أصواتهم بلا حاجة إلي أن يتحشم التسلل إلي سرادقات

الأفراح خفية عن أصحابها.

يقول النجمي إن الشيخ محمد عبدالرحيم المسلوب كان يمثل حضوراً حقيقياً متسعاً في عالم الغناء وفي فن الدور بالذات، فقد عاش مائة وثلاثين عاماً.. وعلي يديه تتلمذ الأساتذة الذين تتلمذ علي أيديهم محمد عبدالوهاب، وكان المسلوب ابن عصر محمد علي باعث مصر الحديثة: »وفي عصر محمد علي جمع الشيخ شهاب الدين محمد بن إسماعيل مئات الموشحات القديمة في كتابه المعروف باسم »سفينة الملك ونفيسة الفلك«.. وعكف الملحنون والمغنون كتاب الشيخ شهاب يدرسون موشحاته، وأطلقوا عليه اسم سفينة شهاب.. وفي هذا الكتاب وجد الملحنون والمغنون كنزاً نفيساً حقاً كما وصفه عنوان الكتاب، ومن هذا الينبوع استقت النهضة الغنائية وتجددت أساليب الغناء، ونجمت فيه ثورة قوية أطاحت بطرائق العصر العثماني القائمة علي الجهل والجمود، فبدأ الناس يستمعون إلي غناء عربي الأساليب يختلف عن الغناء الذي كان يسمعه أسلافهم خلال العصور الطويلة الماضية التي استعجمت فيها الأمة العربية فناً وأدباً وذوقاً«.

عصر محمد علي - إذن - كان عصراً غنائياً شديد الأهمية ويقدم النجمي تقييماً لعصر محمد علي الغنائي ذاك فيكتب: »كانت ثورة مشايخ الغناء المصري علي طريقة العصر العثماني في الغناء أشبه بثورة محمود سامي الباردوي باشا في الشعر. فقد رفض طريقة شعراء العصر العثماني ورد الشعر إلي طريقته في العصور العربية الصميمة، واكتملت بتحرير الغناء العربي من الرطانة العثمانية، وتحرير الشعر العربي أيضاً، ثورة مزدوجة لهذين الفنين العربيين العريقين: الشعر والغناء، ردت إليهما وجهها العربي، وعند ظهور الأسطوانة كان الغناء المصري قد تخطي العصر المملوكي العثماني وعصرمحمد علي ولكن صلته بالغناء التركي لم تنقطع لأن أساسهما المقامي والإيقاعي واحد وان اختلفت طرائق التناول الفني، وتميزت اللهجات الغنائية بعضها علي بعض، وساعد علي استمرار الصلة بين المصريين والأتراك في الغناء تبعية مصر للدولة العثمانية أيامئذ من الناحية الرسمية الشكلية، وإن كانت تبعيتها الواقعية للدولة البريطانية، وفي هذا العصر بدأ محمد علي خطواته الأولي في الطريق الممتد من العقد الأول إلي العقد العاشر من القرن العشرين.

ولكن، كيف نشأت الطقطوقة الغنائية! هذا الشكل الذي لم يكن له وجود من قبل في طرائق الغناء العربي ثم أصبح اليوم سيد الأشكال الغنائية وأروجها؟ إن نشأة الطقطوقة حكاية تستحق أن تحكي، خاصة أن ميلاد عبدالوهاب قد واكب ظهورها، فحوالي سنة 1910 كان الأسطي أو الأستاذ محمد علي لعبة عازف العود وضارب الرق يلعب ويلهو بالألحان والأوزان والإيقاعات تمهيداً لتلحين دور لأحد المطربين، وفجأة انبثقت من بين يديه بلا قصد منه أغنية صغيرة رشيقة سريعة خفيفة الظل، تتآلف من مذهب وبضعة أغصان، في جملة لحنية واحدة تتكرر في كل غصن من أول الأغنية إلي آخرها، كانت هذه الأغنية تشبه الدور قبل أن يأخذ في التطور علي يد الشيخ المسلوب ثم علي أيدي محمد عثمان والحامولي وتلك الطبقة من كبار الملحنين والمطربين.. فالمذهب يتردد بأصوات المذهبية، وهم مجموعة من المنشدين أوالكورس. أما بقية اللحن فيتكفل به صوت المطرب أو المطربة، مكرراً اللحن، مع اختلاف الكلام من كوبليه إلي آخر، لم يفطن محمد علي لعبة في البداية إلي أنه قد صاغ قالباً غنائياً خاصة ليس بالدور ولا الموال ولا الموشح، ولكنه شكل آخر للأغنية يتسم بالرشاقة وخفة الحركة وسرعة الوصول إلي أسماع الجماهير، ولما سمعت منيرة المهدية أغنيته هذه قالت له بإعجاب: إيه القطقوقة الحلوة دي يا سي محمد!!..ومنذ تلك اللحظة صار اسم هذا القالب الغنائي الجديد قطقوقة.. ثم دخل عليه التحريف بعد قليل فتحول إلي طقطوقة.. وانفجر هذا الشكل الغنائي الجديد كالقنبلة في عالم الغناء، واجتمعت حوله أسماع الملايين.

إن أردنا نموذجاً للطقطوقة هدرت في أسماعنا وصدورنا طقطوقة هي الأشهر والأقدم وهي من تلحين نفس الرائد والملحن محمد علي لعبه:

البحر بيضحك ليه... وأنا نازلة أدلع أملا القلل

طلعت فوق الشجراية... قطفت خوخة وعنباية

يا ريت حبيبي ويايا.. وأنا نازلة أدلع أملا القلل

ذلك اللحن الجميل المسلسل البسيط العميق بها، وبما تحتويه من صورة شعرية نابضة بالحس والحيوية وصدق المخيلة الشخصية.

من مميزات هذا الكتاب الفخم أنه كشف عن ثراء الحقل الغنائي المصري في أواسط القرن العشرين، وكثرة عدد المطربين والملحنين الأفذاذ، الذي كان عبدالوهاب قد هضمهم جميعاً، فبات فريداً في عصره، ومرآة له أيضاً.