رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

صاحب مصر ولغته الديمقراطية

في مقال عن »ڤردي« ملحن أوبرا عايدة الشهيرة يضيف زكريا الحجاوي قائلاً: هذا هو ڤردي الذي صبت في نفسه الحياة حقائقها المنغمة، وقد عاد يصبها ثانية في الموسيقي المسرحية ليلتقي الخالدان في لقاء روحي رفيع.. الموسيقي والإنسان.. وأصبحت دار الأوبرا منذ ذلك التاريخ الزاهر مهبطاً لعرائس الغناء وعبقريته من مختلف الأمم، ولم تعد القاهرة أقل حظاً من روما أو فيينا أو برلين، فإن الهارموني الساحرة المتكاملة بين الجمال والغناء والروعة وانفعالات الفكر المسرحية، لم تعد مقصورة علي إيطاليا مهبط الهارموني تنزل إليها من سماء النغم مضفرة بالعبقرية والجمال، بل لقد أصبحت القاهرة أيضاً مهبط النغم المضفر بالعبقرية والجمال.. وكان الغناء المسرحي في مصر عبارة عن صوت عذب فقط، صوت أشجي من أصوات البلابل في غير ما إلحاح للغوص في مكنونات الإحساسات البشرية وإخراجها لأصحابها في واقعهم ألحاناً، وأدرك المصريون ما في الأوبرا وألحانها العبقرية من تقارب مع الحياة، ومن اقتدار علي نقل الحياة للناس من خلال أنغام وألحان، فانكبوا حريصين علي التمتع بها كلما هبطت إلي القاهرة فرقة من فرقها.. وطارت شرارة بيضاء، تحمل في أضوائها حرارة الإيمان بموسيقيي المسرح الخفة طارت إلي الرعيل الأول من الأرواح المقدسة، في مفكري وموسيقي عصر الانفعال والخروج بمصر من خطوط التخلف، فتحدث محمد تيمور بك أديبنا المسرحي الكبير إلي سيد درويش عبقري الموسيقي المصرية، عن روائع فردي وروسيني وبوتشيني التي تضيف بالقاهرة كل عام، وأحس الأديب الكبير أن نهماو جوعاً إلي الفن باتا في عيني العبقري المصري، فأتاح له الفرصة لمشاهدة تلك المعجزات بأن ضمن له تذكرة دورية كلما مرت بالقاهرة إحدي تلك الفرق، ليشاهد باقة المسرحيات العالمية كلها، ومن هنا امتزجت اللمسات الموسيقية في واعية الفنان المصري، وتشكلت نفسه تشكلاً عبقرياً فريداً، عندما ضفر عواطفه المصرية بالإطار الإنساني المتكامل الرفيع، ومنذ ذلك ونحن نقيس التفوق في الموسيقي بالاقتراب من سيد درويش، أو بالاقتراب من ڤردي الذي امتزج في سيد درويش، فاستطعنا أن نُدخل إلي تاريخنا الموسيقي شهرزاد والعشرة الطيبة وما ينتظر أن يضاف معهما في الخلود.

هكذا كتب الحجاوي عن موسيقي ڤردي في عام 1951 بمناسبة مرور خمسين  عاماً علي وفاته.

ولعلنا لاحظنا هذه المعلومة الخاصة بمحمد تيمور بك وسيد درويش أنا شخصياً فوجئت بها، لم أكن أعلم أن محمد بك تيمور كان يضمن تذكرة لسيد درويش ثابتة لكي يشاهد الفرق المسرحية العالمية التي تجيء لتعرض أعمالها في القاهرة.

هذا السلوك المصري الأمين، الحميم، الذي قلما توفر في مجتمع آخر، يفسر جانباً كبيراً ومهماً من سر نبوغ سيد درويش في المسرح الغنائي.

فسيد درويش إذن لم يكن نبتة شيطانية نشأت من فراغ، ولم يكن معتمداً علي موهبته الفطرية وحدها مع أنها كبيرة عامرة بالإلهام، إنما صقل هذه الموهبة بالدرس الجاد والاحتكاك بالموسيقي العالمية في أرقي مستوياتها المتقدمة.

نعود إلي تلك النقطة السالفة الذكر التي تلخص وجهة نظر زكريا الحجاوي في معني مصرية الأدب والفن، باعتبارهما بطاقة الهوية التي تحقق له وللشخصية القومية مكانة مرموقة في المجتمع العالمي.

اللافت للنظر هنا أن زكريا الحجاوي كالذي بدأ حياته الإبداعية أديباً مرموقاً في حقل القصة القصيرة الواقعية الحداثية ذات الطابع المصري الصرف قبل ظهور يوسف إدريس بفترة، كان صورة مستحدثة من رائده العظيم يحيي حقي صاحب أكبر إسهام في تمصير القصة المصرية القصيرة التي كانت قبل ظهور مدرسته الحديثة محاكاة لأدب القصة الأوروبية والروسية وبخاصة جي دي موباسان الروسي وأنطوان تشيكوف الروسي، وقد تألق يحيي حقي طوال عقود الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين.

ورغم أن الحجاوي لم يصدر سوي مجموعة قصصية واحدة بعنوان نهر البنفسج نشرت في سلسلة الكتاب الذهبي التي كانت تصدر عن نادي القصة ومؤسسة روز اليوسف وكانت شهرية ولعبت دوراً عظيماً في تنشيط وتطوير فن القصة وجعلها فناً جماهيرياً، كما أسهمت في إلقاء الضوء علي كوكبة من الأدباء قدمتهم للجماهير الشعبية العريضة في طباعة فخمة بأسعار في متناول أفقر القراء، وتعتبر هي الميلاد الحقيقي لشهرة نجيب محفوظ ويحيي حقي وعبدالحليم عبدالله ومحمود تيمور والشرقاوي وأمين يوسف غراب ويوسف السباعي وإحسان عبدالقدوس وعلي أحمد باكثير وتوفيق الحكيم وطه حسين والحجاوي وتحملت مسئولية تقديم ثلاثة كُتاب جدد هم: يوسف إدريس ويوسف الشاروني ومحمود السعدني.

مجموعة »نهر البنفسج« القصصية لا تغيب عن بالي مطلقاً علي كثرة ما قرأت من قصص تفوق الحصر، ولا أظن أنها تغرب عن بال من يقرأها، ورغم مرور أكثر من ستين عاماً علي صدورها لاتزال حتي هذه اللحظة توضع في صدر المراحل المتقدمة في فن القصة القصيرة المصرية.

أقول إن اللافت للنظر هنا هو أن الأديب المبدع الذي اقتحم حقل التأليف الدرامي الغنائي الإذاعي لم يكن يسعي وراء الانتشار أو الكسب المادي، بل كان يهدف إلي تأسيس فن جديد يلتحم فيه بالجماهير الشعبية الأدبية لتوصيل رسالة تنويرية تقوم علي تعميق الإحساس بالهوية المصرية، كان يؤلف النص الدرامي للملحمة، ويؤلف أغانيها، ويقوم بتلحينها علي النسق الشعبي الذي يتغني به المصريون في جميع أنحاء مصر من أقصاها إلي أقصاها، ثم يقوم بتحفيظ الفرقة الموسيقية وتدريب الكورس، اهتم بالفنون الشعبية في جميع أنواعها وأشكالها، فأعاد بعثها وأيقظ الإحساس بها في مشاعر المثقفين والمبدعين وفي الوعي المجتمعي العام حتي أصبح في جامعاتنا كرسي للدراسات الشعبية بعد طول ترفع وإهمال، لقد اتخذ هذا الرجل لنفسه صيغة شعبية حتي ظهر عليه سمت الدراويش والمتصوفة المتيمون بعشق مصر.

إلي هذا كانت له اهتماماته الكبري بالقضايا النظرية للأدب والغناء وهل يمكن أن ننسي بحثه الرائد الفريد الذي نشره في العدد الثاني من مجلة »الغد« الغراء التي كان يصدرها كل من حسن فؤاد، الفنان التشكيلي، والشاعر القاص عبدالرحمن الشرقاوي في أوائل خمسينيات القرن العشرين، كان البحث بعنوان »اللغة الديمقراطية«، وأتمني أن يعاد نشره ليقرأ علي نطاق واسع لكي يتعلم منه المبدعون معني اللغة الفنية التي يجب أن يكتب بها الأدب القصصي، وليعرف كذلك الدارسون كيف نشأت اللهجة العامية أو ما نسميها بالعامية المصرية، وكيف يمكن أن نسردها ونجعل منها لغة فنية عالية القيمة وكيف نعيدها إلي أصولها الفصيحة ونجعلها قابلة للإعراب؟ وكيف نجعل منها لغة ديمقراطية لا فضل لمغردة علي الأخري إلا بقدر اتساعها لاحتواء المعاني وتلبية احتياج الفكر والفن وحتي البحث العلمي؟

علي أن أمامي الآن بحثاً آخر له، لا يقل أهمية عن بحث اللغة الديمقراطية صيغ في شكل محاضرة ألقاها في نادي الخريجين بدعوة من اتحاد خريجي الفنون الجميلة، في أول مايو عام 1952 بعنوان »الفن المصري المعاصر«، عثرت عليه ابنته سوزان بعد رحيله عن الفن العظيم يقول إنه يجب ألا يغرب عن بالنا أن ذلك الفن

ينطوي علي جانبين، جانب الإيمان بالحياة الإنسانية بوجه عام، وجانب البحث في الحياة والكشف عنها من خلال المجتمعات القومية للفنانين، فتجيء الأعمال الفنية عالمية من ناحية الأهداف الإنسانية جميعاً وآمالها، ومحلية من ناحية النفسية والعقلية والاصطلاحية، وليست الملامح القومية في الفن المحلي الذي هو فن عالمي مسألة اختيارية بالنسبة للفنان، وإنما هي مسألة جبرية، لأن الظروف والأسباب التي تفاعلت فكونت الفنان إنما هي أسباب محلية قومية، ولأن التناقضات التي تعوق سير الحياة الإنسانية في قومية من القوميات إنما هي تناقضات محلية صرفة، تختلف اختلافاً في طبيعتها وفي أسباب وجودها في بلد عن الآخر، فالمرأة التي لها تاريخية السفور وكسب بعض الحقوق في أي مجتمع غربي لا يمكن أن تكون المتناقضات الحادثة في ذلك المجتمع حول علاقة المرأة بالرجل، وهي المتناقضات نفسها الموجودة في مجتمع تاريخية دور المرأة فيه حدثية مثل المجتمع المصري والمجتمعات التي غيرت من الاصطلاحات المسيطرة علي أفهام الناس والمسببة لهم في لون معين من ألوان التفاعل مع الحياة، مثل الاصطلاحات التي تستخف بجمال الحياة، والحث علي النظر إليها علي أنها مرحلة تافهة، وأن جمال الأبدية أمتع وأعظم من جمال الدنيا، إن المجتمعات التي استبدلت هذه الاصطلاحات بأخري تدفع بالإيمان بالحياة واحترامها، هي المجتمعات التي بحثت جاهدة عن تنظيم علاقات الناس، وكان الفنان فيها رائداً من رواد تحقيق جمال الحياة للناس، ولا يمكن أن يقول أحد بأن المتناقضات في قومية قد خطت إلي فهم الحياة الإنسانية بضع خطوات كقومية مثل القومية المصرية التي مازالت تدب في عملية الاصطلاحات وتجحد وجوب تحقيقها للناس.

تلك هي وجهة نظر زكريا الحجاوي في الفن، ثم إنه يضيف موضحاً: فما هي المتناقضات التي اصطدم بها الفنان المصري ساعة إشرافه علي إنتاج الفن واصطدم أول الأمر بخلو الفن الذي ينتج في مصر من واقع العواطف، والمحلية القومية، وخلوه من طبيعة الظروف التي كونته والتي تحيط به فالكتاب يدبون في العواطف الإنسانية العامة، ويعبرون عنها بأسلوب العرب وتعبيراتهم، والمصورون يدبون في العواطف العامة، وهم ينقلونها نقلاً من طبائع غربية صرفة، والموسيقي والمسرح لا يعرفان سوي العواطف العامة والسطحية منها علي الأخص، كما كان الحال في مسرح وغناء الشيخ سلامة حجازي ولما كان المسرح جزءاً من واقع الحياة الإنسانية بوجه عام فقد لعب المسرح المصري أول دور في قومية الفن عندما وجد الفنان القومي سيد درويش وأنتج الألحان المصرية، وحذا حذوه الكتاب، فكتبوا المسرحية المصرية، وظلت القومية الفنية في المسرح والموسيقي دائبة علي كفاحها ونضالها مع سيطرة العواطف الإنسانية العامة، حتي استطاع الشعراء المصريون من أمثال البارودي وإسماعيل صبري يقوّمون الشعر، ويتلقفون الخطوط المصرية الأولي التي بانت في شعر البهاء زهير، ويكملونها بخطوط جديدة، حتي أبعدوا المجال الشعري المصري عن المجال الشعري العربي، فبدا في جرسهما الشعري نبرة جديدة عن حب الحياة، بالأسلوب والطابع المصريين، وكانت الملامح المصرية، العاطفية منها والاجتماعية قد أخذت تتكامل في المسرح وفي الموسيقي، وإلي الحد الذي دفع بالشاعر المصري لإبداع أشعاره بالعامية، فكان انتصاراً هائلاً للقومية المصرية، عندما غني كل الناس عواطفهم بكلماتهم، وساعد ذلك امتداد الشوط في توسيع رقعة العدسة الفنية الزجلية بمجيء الفنان الكبير بيرم التونسي، كان لا مناص من إحساس الأديب المصري بروعة الخلق الجديد، الفن المصري، فحاول الأديب المصري أول محاولة وكانت هذه المحاولة هي »الأيام« لطه حسين، ومن بعده »عودة الروح« لتوفيق الحكيم ثم »يوميات نائب في الأرياف«، وجاء بعدهما أحمد جلال، ولولا أن اختطفته السينما لكان أدب القصة المصرية القصيرة أدباً قومياً وعالمياً في الوقت نفسه!! ثم جاء محمود تيمور ومن بعده بعض الشبان.

ويقول: هل كان النحاتون المصريون والمصورون المصريون مع زملائهم الفنانين المصريين في مضمار النضال في سبيل خلق الفن المصري؟ كان مختار أول وآخر نسل في ذرية النحاتين المصريين فعلي الرغم من إنتاج الظروف المصرية لفنانين نحاتين في مصر فإنهم يطحنون أنفسهم تحت راية المذاهب الفنية، إذ أراد معظمهم أن يربط نفسه بمذهب من مذاهب الفن، ولم يدر أن المذاهب الفنية تخضع للتطور الاجتماعي الطبيعي وما يتلاحم فيه من ظروف واصطلاحات وأفكار، وراح هذا الفنان المذهبي، ولا نسمي أحداً، يثب ويتخطي مرحلة الفن الواقعي التي لم تكمل بناءها، ويضع نفسه في مجال لم تصل إليه الحياة المصرية بعد.

ذلك ما قاله زكريا الحجاوي عن الفن المصري المعاصر، ولم يكن أيامها قد تجاوز الثلاثينيات من العمر.