رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

إنقاذ المصير الإنساني من سطوة الشرور

.. وهذه شخصية "نسيم"، القبطي المليونير، رجل الأعمال الناجح وهو شاب في مقتبل العمر لكنه ملئ بالحكمة والذكاء إلا أنه مع ذلك ملئ بالحيرة والقلق، والغموض، أحب "جوستين" حبا يفوق كل تصور، فتزوجها، يعلم أنها كانت متزوجة من شخص آخر أجنبي، وأن زواجها قد فشل بعد أن تركت في زوجها ذاك ندوبا وجروحا غير قابلة للشفاء، لدرجة أنه ألف عنها كتابا فضائحيا يوضح فيه أعماق شخصيتها الغريبة الشاذة وقد نجح هذا الكتاب وذاع بين كل من يعرفونها، بل أصبح من الكتب التي يقرأها الشباب للاستثارة الجنسية.

وكان "نسيم" فوق ذلك يعلم أنها تخونه مع بعض الأصدقاء ومنهم "داريل" نفسه مؤلف هذه الرواية الذي أعطي نفسه في الرواية اسم "دارك"، يعلم "نسيم" ايضا ان لها مغامراتها التي لا تنتهي، ومع ذلك يتمسك بها، يترك لها الحبل علي الغارب، فضلاً عن أنه لا يبخل عليها بأي شيء مهما غلا، وأغلب الظن أنه كان متعاطفا مع بني جنسها، ليس حبا في هذه الطائفة، بل يدافع عن عدائه القوي للانجليز، انه يعمل بالسياسة من جانب خفي، قد تشرب من أبيه كرهه الشديد للاستعمار الانجليزي، هو يعلم، كما علم أبوه من قبله، أن الانجليز هم السبب القوي في زعزعة الارض من تحتهم، فلقد كانت مصر طوال تاريخها لم تعرف الفتن الطائفية.

ومنذ الفتح الاسلامي لمصر والأقباط أخوة اعزاء للمسلمين كما أن المسلمين إخوة اعزاء لهم، الود والتعاون والتضافر والاخاء كل ذلك قائم بينهم طوال فترات التاريخ، لكن الاستعمار الانجليزي هو الذي زرع بذور الفتنة بين الأشقاء، وراح يغذيها باستمرار ويشعل جذوتها كلما خمدت نيرانها وذلك عملاً بمبدأ: فرق تسد. الانجليز يوهمون الأقباط بأنهم لا مستقبل لهم بين المسلمين، ويوعزون للمسلمين بأن الأقباط يعملون علي الاستقلال، ثم يساعدون هؤلاء واولئك علي اذكاء نار العداوة بتقديم العون المادي والامداد بالأسلحة لكل من الطرفين.

ولما كان العمل ضد الانجليز في مصر يعرض صاحبه للخطر، خاصة اذا كان من عناصر بارزة كنسيم، لذا فقد لجأ نسيم الي محاولة للالتفاف حول أعداء بلاده، بأن يساعد اليهود في فلسطين في حركاتهم الفدائية ضد الانجليز! فيرسل لهم الأسلحة وبعض المساعدات.

"بلتازار" هو الآخر يهودي الديانة مثل "جوستين" إلا أنه مصري الجنسية هو طبيب متميز، مثقف، خفيف الظل، يشارك في تأسيس جماعة سرية تحوم حولها الشبهات، ويهتم الانجليز بالبحث عما وراءها، اسمها جماعة "القابال"، تتبني الدعوة لمبادئ هدامة، تدعو للحرية الفردية والخروج علي كل التقاليد والاعراف، ويبدو أنها تهدف الي انتزاع الانسان من جذوره القومية وخلق مواطن عالمي النزعة يمكن أن يعيش في أي مكان تحت أي ظروف.

وهناك شخصية "بورسواردن"، الكاتب الانجليزي الموهوب، الذي جيء به للعمل في السلك الدبلوماسي في مصر، وكان مكلفاً بكتابة التقارير، يرفعها لبلاده حول نشاط الجماعات المعادية، يعيش حياته طولاً وعرضاً، يكتب الروايات الناجحة، تقوم بينه وبين أخته الوحيدة علاقة عشق حقيقية، هي ضريرة لكنها علي درجة كبيرة من الجمال، له عالمه الخاص ولكنه في نفس الوقت جزء لا يتجزأ من العالم السكندري، تنشأ بينه وبين نسيم علاقة صداقة شخصية، يتمتع خلالها بخبرات نسيم، وبجسد ستين، وحينما يتضح له أن نسيم يعمل في الخفاء ضد بلاده، وأن العدو الذي كان من المفروض ان يسلمه لبلاده هو صديقه الشخصي يشعر بالعار فينتحر!

هناك أيضا شخصية "ماونت أوليف"، شاب انجليزي تعده بلاده لاحتلال منصب مهم في السفارة الانجليزية بالقاهرة، ولابد تبعا لذلك أن يكون ملما باللغة العربية إلماما كافيا، بل وبالعامية المصرية ايضا، وعن طريق أصدقاء نسيم يذهب "ماونت اوليف" بتوصية خاصة الي  الضيعة التي يقيم فيها أهل نسيم في مريوط، ليمكث بينهم بعض الأيام يتدرب فيها علي التعامل مع الحديث اليومي.

ولنسيم أب كسيح عجوز، يتحرك بدراجة، ولأنه ثري كبير فانه متزوج امرأة مثقفة، هي ليلي، تجيد اللغتين الانجليزية والفرنسية، تقرأ بهما وتتابع وتفهم جيداً في أدب هاتين اللغتين، فالقراءة هي الملاذ الوحيد بالنسبة لها في هذه الضيعة الشاسعة مترامية الاطراف، وفي ظل زوج كسيح ليس يملأ حياتها، ولقد انجبت لهذا الزوج الكسيح ولدين هما "نسيم"، و"ناروز"، فأما نسيم فقد أصبح كما أسلفنا رجل أعمال كبيراً، له مكتب وادارة مهيبة في مدينة الاسكندرية، وله خدم وسكرتارية وأبهة، أما "ناروز" فانه عكس اخيه تماما، اذ يعمل بالفلاحة في أراض زراعية، وهو شرس حاد الطبع، قاسي القلب، مغرم بتعذيب الخدم والعبيد، مغرم كذلك بالصيد، وتربية الدواجن، مشقوق الشفة  العليا، ما يعطي شكله طرافة تضفي عليه خفة ظل وغرابة، هو مع ذلك ينطوي علي قلب عاشق حتي النخاع، يحب احدي صديقات أخيه، تلك هي "كليا" التي لا تبادله الحب ولا تشعر أصلاً بوجوده بل لا تأبه له ولا تفكر فيه، علي أن حبه يظل كامنا في نفسه يعذبه حتي آخر لحظة في حياته حينما تعرض للاغتيال في حادث غامض، اذ يطلب رؤية "كليا" ويلح في طلبها ويظل يصرخ في طلبها الي أن لفظ أنفاسه الأخيرة.

أمه ليلي كان تعاني من فراغ قاتل، لم تستطع القراءة ان تملأ حياتها، لأن حياتها في الواقع تعاني من نقص فادح في أشياء جوهرية، انها لم تستمتع جيداً بشبابها في ظل زوجها الكسيح، ورغم أنها أنجبت رجلين كبيرين فإنها لاتزال شابة فتية كأنها لم تعرف الانجاب بعد، كأنها لاتزال في سن العشرين، وحينما يتم استقبال "ماونت أوليف" في بيتهم بالضيعة، ويقرأ الزوج خطاب التوصية لا يجد بأسا من الموافقة علي استضافة احد اصدقاء ابنه لبضعة أيام في منزله، وإن علي مضض، فإنه يكره الانجليز كراهية شديدة، ويعي جيداً الدور الذي يلعبه الاستعمار الانجليزي في بث روح

الفتنة والعداوة بينهم وبين أشقائهم المسلمين، لكنه يظل محتفظاً برأيه هذا لنفسه، الي أن يزلف لسان "ماونت أوليف" بتعبير خاطئ غير مقصود علي مائدة الغداء، فلا يستطيع الرجل السكوت، ينبري فيعطي لـ "ماونت أوليف" درساً في حقيقة العلاقة بين المسلمين والمسيحيين "الأقباط" في مصر، موضحاً له جريمة بلاده في حق مصر والمصريين.

علي أن "ماونت أوليف" يكون قد وقع في غرام ليلي، لقد استحوذت عليه شخصيتها الرقيقة البديعة، بهرته بثقافتها، هي الأخري وقعت في غرامه، فبعدكل هذه السنوات الطويلة من الجفاف والحرمان العاطفي جاءها اخيراً من يستطيع أن يملأ حياتها لقد وجدت فيه ضالتها المنشودة.

كل شخصية من هذه الشخصيات كانت مرآة نفسها، ومرآة للآخرين، وهم جميعاً كانوا مرايا متعددة لمدينة الاسكندرية المصرية الصميمة، التي وسع قلبها كل هذه الطوائف والجنسيات من جميع انحاء العالم، فكانت بالنسبة لهم هي الوطن البديل والملاذ الآمن ولقد حولتهم الاسكندرية الي مصريين أقحاح، لولا أن للقدر تصاريف وللأزمنة احكامها التي لابد ان يقع تحت طائلتها البشر.

يكتب "بلتازار" في ملاحظاته علي الجزء الأول "جوستين" بعد أن قرأ مخطوطته، وهي الملاحظات التي تكونت منها أحداث الجزء الثاني الذي يحمل عنوانه اسم "بلتازار" فيقول إن تداخل الحقائق هو الطريقة الوحيدة كي تكون أمينا مع الزمن إذ إن الزمن حاشد في كل لحظة باحتمالات لا نهائية التكاثر، والحياة تتوقف علي فعل الاختيار، أبدية الدينونة وأبدية الانتقاء.

فيعقب الكاتب لورنس داريل بقوله انني اري بعينين جديدتين من هذا الموقع المتميز لهذه الجزيرة، كل الأشياء في ثنائيتها، من تداخل الحقيقة بالوهم تنتابني الدهشة، وأنا أعيد قراءة الحقيقة واعادة صياغتها في ضوء كل ما أعرفه الآن.. إن مشاعري ذاتها قد تبدلت ونمت، بل وعمقت إذن، ربما كان تدمير اسكندريتي ضروريا. إن العمل الفني الأصيل لا يبدي أبداً وجها مستويا، وربما طمرت بذرة الحقيقة ومادتها فرفدت هناك في باطن كل هذا كحق من حقوق الزمن وهي وإن استطعت ان اتوافق معها ستقودني قليلاً الي ما هو حق بحثا عن ذاتي كما يجب ان تكون، ولسوف نري.

لهذا العمل إذن معطيات اجتماعية وتاريخية وفلسفية وفنية، فمن القضايا الأساس التي تناقشها الرواية ضمن ما ناقشته من قضايا عديدة، مدي قدرة النفس البشرية ودور الفن والفنان في تعديل الوضع البشري، وإنقاذ المصير الانساني من سطوة الشرور الانسانية المبررة بآلاف الحجج والأسانيد الممنطقة، وفرز هذه الحجج وكشف الزائف منها، واعادة النظر في كل المقولات السائدة والمعتقدات الراسخة، والتأكيد علي أنه لا كلمة نهائية في أي أمر من الأمور، وأن تحقيق العدالة المطلقة، وإن كان هدفا يبدو مستحيلاً فانه يظل الهدف الأكبر والحافز الأعظم علي الابداع الانساني، ولئن قدمت الرواية وجوها متعددة للحقيقة، ولم تزعم مع ذلك انها قدمت الحقيقة كاملة فإنها استخدمت في ذلك جوهر الفن، فأنت تري الفن والحياة في مجربين متجادلين بحثا عن حقيقة ذات شقين، الحقيقة الاجتماعية والحقيقة الفنية، هل هذه الاحداث التي عاشها هؤلاء الناس تمثل حقيقتهم؟ وهل هذا الاسلوب الفني المستحدث استطاع أن يعكس هذه الغاية؟

ومهمة التوثيق في هذه الرواية كانت تتم علي مستويين، توثيق للأحداث بنسبة كل شيء الي اصله ومصدره، وارجاع كل رؤية الي كيفية حدوثها، فالشيء الذي يحدث دون أن يراه الراوي او يمارسه لبعد المكان أو داخل نفس اخري، فان الكاتب يطلعنا دائما علي كيفية وصول هذا الشيء أو ذاك اليه، كيف علم به؟ وكيف ألم بكل هذه التفاصيل، وكأنه محقق بوليسي يستوفي محضرا رسميا، ثم هنالك توثيق الفن، بأن يدعم الكاتب اسلوبه هذا المستحدث بآراء ونظريات من علم الجمال، بعضها مطروح علي الساحة الثقافية سلفا، وبعضها الآخر مستخلص من التجربة الذاتية للكاتب، وبعضها مستلهم في هذه التجربة الروائية نفسها علي وجه التحديد.