رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

من تجليات أدب الجواسيس في مصر

 

اجتمعت أسباب كثيرة لإنجاح هذه الرواية الفذة، وهذه الأسباب الكثيرة قد تبلورت كلها في أسلوب المعالجة الذي كان جديداً تماماً في حينه، هذا الأسلوب يمكن تسميته بالبحث عن الحقيقة وراء هذه المجموعة من الشخصيات المركبة صعبة المراس، ووراء سلوكياتها الغريبة وتصرفاتها الشاذة، فليس للرواية راو واحد بل كل الشخصيات رواة.

 

فتخليق هذه الشخصيات، ووضعها في اطار حيوي، لتصوير عصر من العصور لم يكن الهدف الأول لمؤلفها، ولعله لم يخلقها تماما، إنما هو نجح في تشخيصها وتحضيرها إذ هي كلها - فيما يلوح لنا - شخصيات ذات وجود واقعي سابق علي الرواية، نقول شخصيات وليست مجرد مادة فنية يقوم الكاتب بطبخها وسبكها، حيث للكاتب الروائي أن يصنع شخصية واحدة من عشرات الشخصيات في الواقع اذا كانت شخصيات الواقع بالنسبة له مجرد مادة، اما بالنسبة للرواية التي نحن بصددها فإنها ذات أصول واقعية صرفة، ومحددة، التزم الكاتب ليس فحسب بتشخيصها كما هي، بل إنه يمعن في الاجتهاد في ذلك، بل ويعود فيطابقها علي أصولها في الواقع ليتأكد مما اذا كان قد نجح في نقلها بأمانة ودقة ام أن خياله الروائي قد شطح به بعيداً عنها؟ أو أن مزاجه الشخصي الخاص قد اضفي عليها ماليس فيها وحملها ما لا تحتمل؟

وحينما ينتهي من كتابتها يعرضها علي أحد اصدقائه ممن يعرفونها، الذي ما يلبث حتي ينضم هو الآخر الي الشخصيات يعرضها عليه، لا ليطلب رأيه فيها كعمل فني محبوك، بل يطلب رأيه في نقطة محددة هي ما تعنيه بالدرجة الأولي: هل نجح في التعبير عن حقيقة شعورهم - كمجموعة متقاربة متآلفة - بمدينة الاسكندرية، وهل تراه قد رأي هذه الشخصية او تلك علي حقيقتها؟

وإذ يقرأها صديقه - صديق المؤلف يعني - ويدون علي المخطوطة بعض الملاحظات الموضوعية عما يراه تقصيراً أو قصوراً من الكاتب في فهم بعض الشخصيات، يقوم الكاتب باعادة كتابة الرواية من جديد، من وجهة نظر صديقه ذاك.

ثم يتبين له أثناء ذلك أن عينه الخاصة - مهما كانت ثاقبة نافذة، ومهما كانت ملمة بالتفاصيل الدقيقة لا نستطيع نقل الحقيقة كاملة، وذلك لسبب بديهي وبسيط هو أنه لا أحد يملك الحقيقة كاملة، فاللحقيقة أكثر من وجه، واكثر من صياغة، وكل صياغة مهما التزمت جانب الدقة والأمانة والموضوعية قد تعتدي علي الحقيقة في جانب من جوانبها قدر نجاحها في تجليتها والبيان عنها في بقية الجوانب.

فالحل إذاً أن نحاول رؤية الحقيقة من جهاتها الأربع.

فهناك أربع شخصيات رئيسية في هذا العالم السكندري الحافل، الذي تعيشه الشخصيات من الجاليات الأجنبية في هذه المدينة الساحرة ذات الخصوصية المتفردة تمنحهم تألقاً وتناسقاً عجيبا رغم ما بينهم من تناقضات ومفارقات.

أربع شخصيات رئيسة ومهمة في هذا العام لم السكندري كل منها تصلح - بما لها من مميزات ذاتية خاصة ووضعية أخص - أن تكون زاوية للرؤية تنكشف من خلالها الأبعاد والدلالات.

"جوستين"، "بلتازار"، "ماونت أوليف"، "كليا"، كأنهم الجهات الأربع لهذا الكون الفني الانساني العريض.

ورغم أنهم جميعا يجمعهم عالم واحد، هم عناوين عليه، فإن كل واحد منهم عالم قائم بذاته شديد الثراء.

جميعهم، ومن يمثلونهم بشكل أو بآخر، هم أبناء أصلاء لمدينة الاسكندرية العظيمة رغم أنهم قد ولدوا في بلدان أخري بعيدة، وحملوا جنسيات مختلفة، وانتموا الي دول متعددة.

لقد أصبحوا انعكاسا حيا لمدينة الاسكندرية امتصتهم المدينة ثم اعادة صياغتهم، في عروقهم تجري دماؤها، علي وجوههم سمتها، في طباعهم خصائصها، في مزاجهم نسيمها الرقيق الطري المنعش.. شخصياتهم صور متعددة من زوايا مختلفة لشخصية بحرها المتوسط الأزرق.

وهذا الشاعر الايرلندي الواسع الخيال "لورنس داريل" الذي هو الآخر شخصية من شخصيات الرواية وجزء من الواقع الحي السابق علي الرواية، يكتسب في هذه الرواية قدرة بحار سكندري ماهر جبار، يستطيع الغوص في الأعماق البعيدة في هذا البحر الفني المتلاطم الأمواج، لا ليصطاد، بل ليتحول الي عدسة شديدة الحساسية نري من خلالها ما تحت طبقات الزرقة الكثيفة من كنوز وأسرار وغرائب وعجائب يشيب لها الأطفال.

والمؤكد أن طبيعة عمل لورنس داريل، الداخلة في تركيبة شخصيته الفنية كشاعر في الأساس، قد خدمته كروائي، ولعلها هي التي أملت عليه هذا الاسلوب الفني بالذات، فكما نعلم كان يعمل في السلك الدبلوماسي الانجليزي في مصر خلال الحرب العالمية الثانية، كانت وظيفته خاصة بالمعلومات، يجمع التقارير عن الفئات والطوائف المعادية للانجليز، وعلي رأسها المثقفون المصريون، والمتمصرون من جنسيات مختلفة، ولا شك أن هذا العمل قد دربه علي كيفية استيفاء المعلومة واستيلائها واستقطابها وعلي تحليل المعلومات وغربلتها، واستخلاص الحقائق من بين ركامها، لقد استفاد من امكانيات ومواهب الجاسوس البارع في خلق روائي شديد البراعة في التعامل مع الظواهر واستكناه خوافيها، وهو بهذه الامكانية قد أوجد بديلاً مستحدثا وأصيلا معها، لما كان يسمي في الأدب الروائي بعملية التشويش.

ففي الرواية التقليدية نري الكاتب يدخر المعلومات الدرامية ليظهرها في الوقت المناسب، ويمهد لظهورها تمهيدات كثيرة ومتنوعة وحريفة، وذلك انه كخالق فني لهذه الشخصيات محدد لمصائرها سلفا يملك كل المعلومات الخاصة بها فيسربها وقتما يريد علي النحو الذي يشاء.

أما هنا، في رباعية الاسكندرية، فانك تري عملية كشف مستمرة للمعلومات، عملية تحقيق للمعلومات وتحليل لها، فالمعلومات هنا ليست معلومات مجردة، انما هي ناس من لحم ودم، فبعد أن كانت الناس بالنسبة له في الحياة العامة معلومات، اصبحت معلومات في الفن ناسا احياء وهو مكلف بتجليتها

لك علي النحو الأمثل.

فالرواية اذاً بأجزائها الأربعة توشك أن تكون تقريراً دراميا بارعا ومحكما وعظيما عن هذه الحياة التي قدر له أن يعيشها.

ولأنها رواية تحمل طابع التقريرات - من فرط ما تعود كاتبها علي كتابة التقارير المعلوماتية - فإنها تبعا لذلك موثقة، بل انها علي الرغم من تركيبتها الدرامية الصرفة تكاد تكون تسجيلية ايضا بكل ما تعنيه التسجيلية من تحقيق واستقصاء واحاطة واعتناء بالتفاصيل الدقيقة والأرقام والتواريخ وكل ما يشارك في رسم صورة دفينة لهيئة جغرافية واجتماعية معينة علي ضوء واقع معين في زمن بعينه.

ولئن كانت عملية التشويق في الروايات التقليدية التي يكتبها كتاب عاديون تمتع القارئ والهادي البسيط باكتشافه للمعلومة في وقتها المناسب المرسوم لها سلفا، فان الاكثر امتاعا بالنسبة للقارئ بوجه عام لاسيما القارئ الذكي المثقف هو احساسه بأنه يشارك الكاتب في استيلاء المعلومة واستقصائها وتحقيقها كما يحدث في هذه الرواية الفذة: رباعية الاسكندرية.

الكاتب هنا لا يقدم شيئا بغير اسناد، ولا معلومة الا ويطلعك بادئ ذي بدء علي مصدرها، ولا تفصيلة إلا ويريك كيف تولدت، ذروة البراعة والاقتدار انك تقرأ نفس الاحداث عن نفس الشخصيات، وتعيش وتري نفس الوقائع أربع مرات من وجهات نظر أربع، دون ان يعتريك الملل لحظة واحدة أو يفترسك السأم أو الترخيص والابتذال، او تشعر بالرغبة في قفز صفحات أو التوقف نهائيا عن القراءة، او حتي تشعر بالشبع من فرط الاحاطة بهذا الشيء أو ذاك إن الأحداث رغم كونها هي هي بنفس التفاصيل والشخصيات ذاتها فإن هذه وتلك لاتني تتجدد باستمرار كأنك - في كل جزء منها - تتعرف عليها لأول مرة. ذلك أن الاحداث في حد ذاتها ثانوية، انما الاساس هو كيفية حدوثها، ومدي ما تركته علي الشخصيات من بصمات، وعلي الحياة من ألوان وشخصيات بأعيانها وأحداث متكررة لكن الحياة تتجدد وتتطور، ليس فحسب بالتقدم الي الأمام بل بالرجوع الي الوراء في معظم الأحيان، الشخصيات التي رأيناها في الجزء الأول في زمن متقدم، تزداد عمقا وتطورا وتجلية، وأنت تراها في الاجزاء التالية في زمن سابق، وربما من خلال زمن لاحق، هي شخصيات شديدة التعقيد مع أنها قد تبدو سهلة منبسطة، ومفتوحة، مرسلة، تعيش في بؤرة الضوء تمارس حياتها بحرية وانطلاق تعبر عن نفسها بشتي الوسائل، الا انها كانفتاح البحر ووضوحه الظاهري تكاد تكون مثله بغير شطآن في المدي المنظور، والتعامل مع مثل هذا النوع من الشخصيات يحتاج الي ربان ماهر خبير بما تحت الماء من صخور وتيارات سحب تحتية خفية.

"جوستين" مثلاً، هذه السيدة اليهودية المنطلقة تعب من الحياة والمتع بغير حدود بغير نظام بغير ارادة، هي الآن علي سريرك وفي نفس اللحظة علي سرير رجل آخر، هي كالمرآة، يرمي الكثيرون أنفسهم فيها، بينما هي لا تري نفسها في احد، تمثال متحرك للجنس البوهيمي، حوشية وإن ناعمة الملمس، لكن اعماقها مليئة بالأشواك، مثلما حياتها مليئة بالخطايا، وحتي الخطايا ليست في نظرها خطايا من يراها يتصورها عاهرة داعرة لاخلاق لها ولا مشاعر ولا انسانية.

والواقع أنها ككل انسان لها من كل ذلك نصيب، وما يبدو أنه لا مبرر له من سلوكها العجيب المعقد والواضح معا، هو في نظرها مبرر ومنطقي وله أسبابه المقنعة.

انها نموذج حي دقيق لشخصية اليهودي التائه الذي يعيش في كهف خاص برغم اندماجه في الآخرين منحتها مدينة الاسكندرية - مثلما منحت غيرها - كل شيء يمكن ان تحلم به: الوطن والحرية الشخصية والأمن والرفاهية المطلقة، ومع ذلك هي تجسيد حي لمعني القلق، كتلة من الأعصاب العارية المكهربة. "يتبع".