رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

وطني وصباي وأحلامي

لا أجد وثيقة غنائية وطنية أعبر بها عن انتمائي الحقيقي الأصيل للوطن الحبيب مصر قدر ما أجده في أغنية »وطني وصباي وأحلامي«. إنها أغنية عالية المقام حقاً، كلاماً ولحناً وأداء. تغيب عن الآذان كثيراً لأننا بكل أسف - كمسئولين عن الإذاعة - نصنفها باعتبارها »أغنية وطنية« لا تذاع إلا في المناسبات التي تحتاج إلي تعبئة، أو في الأعياد الوطنية، في حين هي أغنية عاطفية بالدرجة الأولي، ولذا فهي وطنية بالدرجة الأولي، وشعبية راقية، وتعلو فوق المناسبات المؤقتة والأحداث العابرة التي يمر بها الوطن، يهدر لحنها في الصدور فيرددها اللسان في شعور بالصفاء يشف عن الإحساس الحقيقي الصادق بمعني الوطن، خاصة حين تكون بعيداً عن أرض الوطن ويهتاجك الشوق إلي جمال مصر ونيلها وصفاء أهلها، إذ هي - برغم ندرة إذاعتها - قد استقرت في الوجدان لا تبرحه علي الإطلاق. إنها أغنية تضاعف من حبك للوطن، تثير فيك الشعور بالواجب تجاهه، والرغبة في بذل ما لديك من طاقة في سبيل أن يستمر الصفاء سائداً بين أهله باعتبارهم أقباساً من جمال هذا الوطن.

»وطني وصباي وأحلامي« أغنية لم تكتب لمناسبة بعينها، أي أنها ليست أغنية »إعلامية«، إنما كتبت للغزل في حب الوطن، أو لعلها صلوات من أجل الوطن. كتبها الشاعر مأمون الشناوي، ولحنها الموسيقار العظيم محمود الشريف، وغناها كل من نجاة الصغيرة في »دويتو« مع مطرب ناشيء مثل نجاة في ذلك الوقت من أوائل خمسينيات القرن الماضي اسمه عبدالرؤوف إسماعيل.

إن الوطن الذي تكرس له الأغنية هذه، هو ذلك الدفء الذي تمنحه لك شمس بعينها، وسماء بعينها، وأرض بعينها، وناس بأعينهم هم علي وجه التحديد أهلك وأجدادك وأبناؤك.

وإذا كانت هذه الأغنية تشهد بعظمة كل من شاعرها وملحنها فإنها شهدت كذلك بمولد مطرب كان يعد بمستقبل باهر في الغناء المصري، ذلك هو المطرب عبدالرؤوف إسماعيل صاحب الأغنية الواحدة!.. لا أحد يعرف كيف ظهر ولا أين ذهب ولا كيف اختفي تماماً من عالم الغناء، تاركاً فيه بصمة واحدة لا مراء في أصالتها وفي أن صاحبها امتلك قدرة هائلة علي الأداء المؤثر الحساس المرهف لم تتوفر لدي أي مطرب مصري قبله ولا بعده. إنه صوت تعشقه الأذن فتحتفظ بتردداته تحتضنها فيبقي علي طول الزمان متميزاً محدد الملامح، رغم أنه لم ينفرد وحده بالأغنية بل شاركته نجاة الصغيرة التي واصلت دورها في الغناء حتي أصبحت من أساطينه فيما انسحب هو، قيل إنه سافر إلي الكويت للعمل في وظيفة في إحدي شركات البترول، أما لماذا انسحب في أول المشوار، فإن ذلك يبقي إلي اليوم لغزاً غير مفهوم، اللهم إلا أن يكون المهيمنون علي الإذاعة في ذلك الوقت قد تحيزوا لموهبة شاب آخر ظهر في نفس تلك الفترة هو عبدالحليم حافظ الذي كان - من يومه - ترسانة علاقات عامة وخاصة تستقطب المشجعين والأنصار.

أحببت هذه الأغنية لأنها لفتت انتباهي منذ وقت مبكر إلي معني الوطن من ناحية، وإلي قيمة أن يكون الوطن موضوع أغنية. ورغم أنها عوملت في الإذاعة كأغنية تذاع في المناسبات فحسب فإنها بقيت في وجداني كمقياس يرشدني إلي الصدق في مسار الأغنيات التي سميت فيما بعد بالأغاني الوطنية، علي هديها تكشفت النماذج الشعرية الغنائية الفريدة التي أنتجتها الإذاعة، حيث كانت هي الجهة الوحيدة المنتجة للأغاني.

فمع بداية ثورة يوليو في العام الثاني والخمسين من القرن الماضي بدأ الراديو ينتج طوفاً من الأغنيات الإعلامية، بهدف بث الحماسة وروح الوطنية في أفئدة الجماهير المصرية والعربية. نسبة كبيرة من هذه الأغنيات كانت مجرد شعارات مباشرة وجمل خطابية ساذجة تلعب بالألفاظ وبالجناس وما إلي ذلك، إلا أنها لقيت من الجماهير ترحيباً واستحساناً بسبب جمال الموسيقي وحلاوة الأصوات المؤدية، بل كان الجمهور يرددها في مناسباته وأفراحه، مثل أغنية محمد قنديل: »ع الدوار ع الدوار.. راديو بلدنا فيه أخبار«، مما جعل جمهور المستعمين يعتاد استقبال هذا اللون من الغناء بصدر رحب.

علي هذه الأرضية نشأت نماذج فريدة من الأغنيات المسماة بالوطنية والأحري بها أن تذاع بغير هذا التوصيف، فحقيقة الأمر أنه ليس هناك أغنية وطنية وأخري غير وطنية، إنما التسمية هذه نشأت ضمن تسميات كثيرة خاطئة لا ندري كيف شاعت واستقرت، من قبيل أن هذه أغنية شعبية وهذه عاطفية وهذه حماسية وما إلي ذلك، والرأي عندي أن كل هذه التصانيف يمكن أن تتوافر علي أكمل وجه في الأغنية الواحدة، هي علي وجه التحديد الأغنية الناجحة التي حينما يكتبها الشاعر ويغنيها الملحن ويشدو بها المؤدي يكون مصدر الانفعال فيها نابعاً من الشخصية القومية للناس وللبلاد، حتي وإن كانت أغنيات ذات طابع انتقادي كبعض أغنيات بديع خيري وسيد درويش في أوائل القرن العشرين، وأغنيات أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام في أواخره، وهذه وتلك لاتزال حية مؤثرة في حياتنا إلي اليوم.

ولابد أن تفرق بين الأغنية وبين النشيد، فالأغنية تعبير عن مشاعر ذاتية تجد استجابة لدي ذوات الآخرين ابتداءً من المشاركين في تلحينها وعزف

موسيقاها ومغنيها وصولاً إلي نسبة من الجماهير تكبر أو تصغر حسب ثراء أو فقر المشاعر التي تعبر عنها الأغنية لكنها في كل الأحوال تضاف إلي الرصيد الشعوري للمستمع وتصبح بعض مثيراته العاطفية والنفسية والمزاجية، أما النشيد فإنه ترجمان لشعور جماهيري عام تجاه موقف قومي ما، يعبئ الجماهير بالحماسة والحرارة، وربما كان الفيصل في نجاح نشيد عن الآخر هو اقتراب النشيد الناجح من طبيعة الأغنية ولو بقدر يسير، أن يكون النشيد مطعماً بأصداف من مشاعر ذاتية ذات مصداقية شعورية إنسانية، وفي طفولتنا كنا نردد كثيراً من الأناشيد المقررة علينا في المدارس ولكن شيئاً منها لم يبق في أذهاننا أو يعلق بوجداننا، إنما بقي وسيبقي نشيد »بلادي بلادي« لسيد درويش لأنه زواج بين ذاتية الأغنية وموضوعية النشيد، وقد نجح صلاح جاهين وكمال الطويل في تحقيق هذه المزاوجة في نشيد - أغنية: »ثوار ولآخر مدي ثوار.. مطرح ما نمشي يفتح النوار«، علي أننا نري النشيد يذوب تماماً في الأغنية ذوبان العسل في أحشاء الكنافة عن شاعر مصر الكبير فؤاد حداد. إن كل أغنياته تصلح أناشيد وكل أناشيده أغنيات في نسيج واحد.

وهناك أغنيات من طراز »وطني وصباي وأحلامي« خلدت في الوجدان المصري لأنها تكرس لمعني الوطن دون أن تذكر كلمة الوطن. لعل من أهمها أغنيات لنجاة الصغيرة ومحمد عبدالوهاب، الأولي هي أغنية: »يا نيل يا اسمراني« تأليف مرسي جميل عزيز وتلحين محمود الشريف: »عطشان يا اسمراني محبة.. عطشان يا اسمراني.. إملالي الأناني محبة.. املالي الأناني يا نيل يا اسمراني«، والثانية هي أغنية »النهر الخالد« لمحمد عبدالوهاب من أشعار محمود حسن إسماعيل، في هاتين الأغنيتين يستشعر المستمع جمال مصر ونيلها العملاق، فيزداد ارتباطه بها عمقاً وأصالة. تهزني كذلك أغنية »يا حمام البر سقف طير وهفهف علي كتف الحر واقف والقط الغلة« تأليف صلاح جاهين وتلحين محمود الشريف.

وبهذه المناسبة فقد نجح صلاح جاهين في الارتقاء بالأغنية الإعلامية من أغنية دعائية موقوتة إلي قصيد غنائي وطني يصلح في كل آن، فأغنيات: »صورة« و»يا أهلاً بالمعارك« و»بالأحضان« و»ريسنا ملاح«.. وغيرها كانت في حقيقة أمرها أغنيات لثورة خضراء يحلم بها الشاعر وما الأغنية إلا تميمة أو تعزية أو رقياً لاستجلاء الثورة لعلها تتحقق فعلياً علي أرض الواقع، وريسنا الملاح ليس بالضرورة هو جمال عبدالناصر إنما هو الرئيس الحلم الذي تتوفر فيه هذه المقومات، والثورة ليست بالضرورة هي ثورة يوليو إنما هي كثورة الحلم التي ستظل علي الدوام نرقبها، ولقد أصابتني النشوة وأنا استمع إليها في ميدان التحرير بين ثوارنا الشباب الأفذاذ.

كذلك أغنيات أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام بطابعها الانتقادي الساخر بل الهازل أحياناً، صارت وقوداً يشعل حماس الثوار في ميدان التحرير وكانت جسراً حقيقياً يربط بينهم وبين أهاليهم الجالسين أمام التلفاز بأنفاس لاهثة.

الواقع أن لدينا ثروة ضخمة من الأغنيات التي تكرس لعشق الوطن، والتي تكرس للثورة علي الطغيان وتحض علي التحرر، وقد لاحظت أن الأغاني الحديثة للمطربين الجدد التي تغنت بمصر والمصريين لم يكن لها وجود يذكر في الميدان لأنها غير نابعة من تجربة شعورية صادقة وليس فيها ثمة رؤية فنية للواقع كما أن أبنيتها اللحنية هشة وأنغامها مكرورة لا أصالة فيها، إن هي إلا سلعة استهلاكية كمناديل الكلينيكس الورقية ما لها إلي سلة المهملات.