رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

بيرم ابن حارة »السيالة« السكندرية

لعبت الحارة المصرية - كما أشرت في مقام سابق - دوراً عظيماً جداً في حياة بيرم التونسي، الدور نفسه الذي لعبته في حياة نجيب محفوظ. وقد اطلع بيرم علي المصادر الثقافية المكتوبة والمرئية في مصادرها الأساسية. قرأ التراث الشعبي المدون في ألف ليلة وليلة والسير والملاحم، وعاشه بين المغنين والمداحين والموالدية. تذوق الشعر الجاهلي والمتنبي والمعري وأبا تمام والبحتري وأبا نواس، ونثر التوحيدي والجاحظ وإخوان الصفا وخلان الوفا. تمعن في تاريخ المقريزي وابن تغري بردي وابن عبدالحكم وابن إياس والجبرتي. وشرب من مقامات بديع الزمان الهمزان والحريري. ونهل من علوم القرآن والتفسير والحديث النبوي ما نهل. وسافر إلي باريس حاضرة العالم وأم الثقافات الحديثة، فاحتك بها احتكاكاً مباشراً عنيفاً وأليماً ومن القاع، تلطم في الموانئ والمحطات ونام علي الأرصفة، داخ في المطارات منزوع الهوية، تلفظه السفائن والمركبات، وتتلقفه ظهور الدواب.. خبرات من كل الأنواع والألوان حين انسابت في عروقه التهمها طمي النيل المبثوث في دمائه فاستوعبها وطبخها في بوتقة المزاج المصري.

كل هذا »كوم«، والحارة المصرية وحدها »كوم« آخر. هذه الحارة احتضنت طفولته، أرضعته لبنها، سبخته بسمادها المخصب، صارت أرضاً تتلقف أي بذور ثقافية جديدة فتنبتها نباتاً مصرياً فارعاً مزهراً.

حارة السيالة الإسكندرانية حارة مصرية عتيقة في مصريتها، أشبه بفسحة كبيرة علي البحر تتربع فيها النسوان بحلل المحشي وأناجر فتة العدس وكيزان الذرة المشوي وعربات الترمس والبطاطا السخنة، وبنات بحري يخطرن كالإوز تحرسهن نظرات شبان مجدع فتوات. النفوس عامرة والقلوب قبل البطون شبعانة قانعة راضية. فخير الله دافق بغير شباك، بأنواع لا حصر لها من البلطي والبوري والشباروالكابوريا والجمبري والسبيط وما لا اسم له بعد، الأقة بتعريفة، ينقلب الصفاء إلي معارك دامية إذا اصطادت عين غريبة رمش فتاة من بنات الحي، لكن سرعان ما يعود الصفاء من جديد كأن شيئاً لم يكن، حتي المضروب ينصرف راضياً مجبور الخاطر. المعارك المصرية دائماً أبداً سبب لقيام صداقات جديدة ومعارف جديدة، وربما نشأت قصص حب تؤدي إلي زواج وتبات ونبات خلفة صبيان وبنات، ما محبة إلا بعد عداوة، هكذا يعتقدون وهكذا يعيشون.

في حارة السيالة تلك رتع طفل شقي اسمه بيرم، يتيم لطيم، أمه تزوجت رجلاً من أصل مغربي كان يعمل نجاراً، ويعمل في الوقت نفسه في تجبير عظام المكسورين، دكانه ورشة وعيادة في آن معاً، يستقبل فيه المرضي.. هات يا بيرم قطعة شاش، إعجن هذا الجبس، خذ هذه الخشبة سوها، رح يا بيرم، تعال يا بيرم. هذا النجار المغربي فنان بالسليقة، هكذا يكتشف الصبي بيرم، فيعجب به، يتخذه صديقاً لا زوج أم، يتعلم منه ما لا تعلمه المدارس والكتب، الرجل يصنع كل شيء لنفسه بيديه، يصلح ساعته، يغسل ثيابه، يتسوق، يحضر الجير والمونة ليدهن الورشة، يصنع العدد ما ثقل منها وما خف، يقرأ في الكتب المفتوحة، الناس كتب، هجائية أخري، لها فقهها ورموزها وأغوارها البعيدة، للعوام لغة السيم، يعني الكلام المغطي، ابن البلد فصيح بهلوان غاية في الذكاء والألمعية لديه قاموس لا ينفد من الأغطية الشفافة يستربها الكلمات الفاضحة ويجمل وجه الكلمات القبيحة يجعلها بريداً برقياً لرسائل الحب والغزل ينقل بها أدق المعلومات في أحرج اللحظات.

النجار المغربي »المجبراتي«، زوج الأم، كان هو المعلم الأول لبيرم، وحارة السيالة هي المدرسة والمعهد والجامعة، يشهد بيرم نفسه بلسانه عند عودته من المنفي إذ يقول: »هذا الرجل لقنني درس الحياة الأول ولذلك فإذا انسد أمامي باب انزلقت من الكوة، وإذا استعصي علي الاثنان انزلقت من تحت عقب الباب«.

ما أعمق هذا القول وما أبعد دلالته، حقاً لقد فعل بيرم هكذا طوال حياته الحافلة بالنحوس والمفاجآت كأنها ميلودراما مصنوعة خصيصاً له لكي تمرمطه في تراب الحياة وتسقيه من الشقاء والعوز والاضطهاد والنفي والفاقة وما لا حصر له من المآسي والأثقال، ليشرب كل ذلك فيحوله إلي فن جميل عذب، يحوله إلي منابع للحكمة ومصادر للخير والنبل والحضارة. لقد خرج من الحياة ظافراً منتصراً شريفاً طاهراً. فلقد كانت في جوفه بوتقة نار مشتعلة علي الدوام تنظف روحه وجسده من كل ما تتركه فيه التجارب المريرة من رواسب وميكروبات ضارة، كل شيء في الحياة كان يتحداه بتفتيت صبره وتبديد طاقة احتماله في إصرار قدري علي تحويله إلي شريد يعيث في الدنيا فساداً من أجل يبقي - فحسب - علي قيد الحياة.. فلا يلفت نظره من كل ذلك سوي الظواهر الإنسانية التي يري أنها تشكل خطراً علي مستقبل الوطن، هذه وحدها هي التي تبقي في نفسه لكي ينازلها بالفن ويناهضها.

فقيه الكتاب وحده كان جديراً بأن يزرع في نفسه كراهية العلم والهجاء وكل ما هو مكتوب مقروء، نظام التعليم نفسه، طريقة تحفيظ القرآن للصبي بالهلفطة والتنغيم المحطوط الملتوي الداخل في بعضه دون تمييز لجرس حتي لتضخم الكلمات وتنبهم المعاني. لكن الصبي الذي نشأ في كنف رجل مغربي متفرعن متفنن ليس يعترف بالمستحيل، استطاع أن يتحدي الفقيه ونظامه وأسلوبه المتخلف، وأن بينه وبين عالم المعرفة الساحرة، فتعلم بنفسه كيف يفض بكارة الكلمات ويقبض علي أسرار الكتب الثمينة، لكن سخطه علي الفقيه يبقي في نفسه أبد الدهر يلهمه الصور الفنية البديعة التي تجسد عيوب المجتمع وتشخصها.

لقد هجر الكتاب والمدرسة الابتدائية وافتتح لنفسه مدرسة خاصة هي مدرسة الحياة والحارة وما تحفل به من ثقافة وفنون. ذلك أن عادات الناس في هذه الحارة وتقاليدهم وأغنياتهم وأفراحهم وألعابهم ومآتهم ومحافلهم وأقوالهم المأثورة إن هي إلا تجسيد لحضارات قديمة رائجة وقيم اجتماعية وأخلاقية توارثوها وحافظوا علي بقائها بكل عنف وإصرار وخشونة. الحارة فيها الفقيه وفيها المعلم وفيها الفيلسوف والحرفي وفيها التاجر والموظف والبلطجي، وفيها الفقر والغني

متجاوران متكافآن في ود عجيب وفيها - وهذا هو الأهم - خميرة الحياة. أي خبز تريد أن تعجنه خارج الحارة لابد أن تأخذ خميرة من الحارة.

كان أبوه - أب بيرم - قد ترك مصنعاً صغيراً للحرير، وكان الانفتاح علي أوروبا يغرق الأسواق بأشباه الحرير الصناعي وغيره من المنسوجات الخلابة، وليس للصبي قدرة علي مجابهة السوق وإدارة المصنع، فكان أن تم بيع المصنع، وافتتح الصبي بدلاً منه محلاً للزيانة، لا أقول الحلاقة لأن لغة الحارة الجميلة الساحرة قد زينت الاسم وأعطت صاحبه أبعاداً شاعرية ألحقته بطائفة الفنانين وليس الحرفيين، حين أطلقت علي الحلاق اسم »المزين«، أي الذي يقوم بتزيين الناس وتجميلهم، وهكذا راح دكان الزيانة يفرز في عقل الصبي ألواناً شتي من البشر والسحن والوجوه والأنماط واللهجات. إنه »ملقف« صور ومشاهد لا تنتهي من صبيحة ربنا حتي الهزيع الأخير من الليل. دكان يؤمه الصياد والأفندي والفتوة والشيخ والنجار والحداد والبناء والحانوتي والفقيه والبلطجي والخباز والكناس والفوال والقماش.. كل هؤلاء وأولئك يصبون قواميس مهنهم ومشاكلهم وطرائفهم في الدكان أثناء انتظارهم أدوارهم في الحلاقة.. فلا يترسب في أعماق الصبي إلا ما كان مصدراً للجمال وما هو جميل بالفعل أو قابل للتجميل. ذلك أن روح البحر كانت في الصبي والبحر واحد، والسمك ألوان، هكذا غنت الأغنية الشعبية العريقة، فخاطبت في الصبي المرهف الحس نفس الشعور.

الفتي بيرم منذ نعومة أظفاره مفتون بفن الزجل، مصدر الفتنة كان الأغنية الشعبية بوجه عام، التي لا تهدأ في الحارة: للمولود تغني، ولحفل السبوع، وللمهد، وللتهنين عند النوم، ولاستعجال قيامه، ولاستنهاض فتوته، ثم لرسائل حبه، للخطوبة، للزفاف، للصباحية المباركة، للخلفة الميمونة، للرقية من عين الحسود، لتشييع المتوفي إلي مثواه الأخير بالعدودات والبكائيات التي تعدد محاسنه وأفضاله.

بقدر ما للأغنية الشعبية من لطف العبارة وشاعرية المنزع ونبل الغرض، فيها حدة اللسان وشيطانية الخيال أحياناً، الخيال الساخر المقاتل الفضاح الرداح، لا عجب فالأغنية الشعبية في ذلك الزمان كانت لغة تعامل يومية بين البشر في كل من الريف والحضر علي السواء.

مكتبة البلدية في شارع أبي الدرداء حينذاك، ما أقرب الوصول إليها كل يوم، ففيها مجلات كثيرة تعني بنشر الأزجال لعمالقة أفذاذ في نظم الزجل: »حمارة سيني« و»الأرغول« و»التنكيت والتبكيت« لعبدالله نديم ومحمد عثمان جلال وغيرهما. أزجال بعيدة المرمي نبيلة الهدف، تحلم بإلحاق الأمة المصرية بالعصر المتقدم من حواليها، تستنهض هممها، تحرضها علي دحر المحتل الأجنبي، تفضح ألاعيبه وحيله وأذنابه في البلاد.

من أجل خاطر عيون فن الزجل انفتح الفتي علي عالم الشعر الكلاسيكي فطاف بأرجائه، وتعمقت صلاته برفاقه من طلبة المعهد الديني، فصار يمضي في تثقيف نفسه بجناحين خافقين أحدهما تراث قديم والآخر حديث ومعاصر. ولقد أحب مجتمع المجاورين واستطرفه، فراح يتفرج عليه باستمتاع حتي غاص في نخاعه واستلهمه أزجالاً ساخرة موجعة.

شهر رمضان في حي السيالة مهرجان ضخم حافل بأضواء الكلوبات. وجدان الحارة ساهر حتي الصباح يملأ الأفق فناً وغناء ومرحاً ونورانية، ذكر وقرآن وموالدية، مسحراتية، شعراء الرباب، الحواة، المهرجون، القراقوز، خيال الظل، فرق المخبطين وفرق المداحين، قهوة بلبل من أشهر مقاهي حي بحري يؤمها لفيف من الظرفاء وأهل النكتة وأصحاب الصدور الواسعة والباحثين عن المرح البريء، والمجاورين. كل روادها ملطوشون بلطشة الفن بشكل أو بآخر. الجرسون هو الآخر ملطوش بفن الزجل سريع البديهة قادر علي الارتجال الفوري يروي الزجال الشهير ميلاد واصف قائلاً عن ذلك الجرسون إنه كان يهتف بالطلبات زجلاً موزوناً متقناً.

في مسجد أبي العباس المرسي كانت تقام ندوات الزجل بعد صلاة العشاء حتي موعد السحور يحضرها أرهاط من الناس يتطارحون الأزجال في جميع الأمور وحول أعباء الحياة.

لا عجب إذن أن ظلت الحارة هي مصدر الإلهام الخصيب لبيرم التونسي بعد أن شكلت وعيه وأسست بنيانه الفني المتين.