علي سالم:بقاء مبارك في شرم الشيخ.. خطأ سياسي
سُئل الأديب الفرنسي جورج ديهاميل. من هو الأديب الساخر؟ فقال: إن الإنسان الساخر عادة يكون صاحب غني نفسي داخلي. وإنه يتألم أكثر من الآخرين، لكنه يخرج ألمه في شكل سخرية.
وعندما تجلس إلي الكاتب علي سالم تجده قادراً علي التوازن النفسي. وهذا التوازن مرجعه حالة الغني النفسي بداخله. قلمه أضحكنا كثيراً، وفكره أرهقنا كثيراً. ورأيه ـ سواء اتفقنا أو اختلفنا حوله ـ صدمنا كثيراً، لكنه علي الأقل ـ ليس كغيره ـ فلقد قال ما اعتقد صوابه، ودفع الثمن، في الوقت الذي »قبض« غيره الثمن، دون أن يكون له موقف أصلاً. أو كانت »مواقفه« حسب اتجاه المصلحة الشخصية!
ذهبت إليه في شارع سوريا بالمهندسين، كان يجلس معه علي المائدة، الكاتب الصحفي محمود صلاح وبحسه الصحفي ـ أي محمود صلاح ـ أفسح المكان والمجال لي وتركنا لفترة، عاد بعدها معنا، ملتزماً الصمت، فلم ينطق إلا بكلمات الترحيب عندما وصلت وكلمات الوداع عندما نهضت وغادرت المكان.
وما بين لحظة الوصول ولحظة المغادرة، دار الحوار مع الكاتب علي سالم بصورة أشعرتني بصدق كلام ـ ديهاميل ـ فهو ـ أي علي سالم ـ يتألم أكثر منا، لكنه يخرج ألمه في شكل سخرية.
وإلي نص الحوار
ما بين موقعة الجمل وموقعة الجلابية.. إلي أين نتجه؟
ـ أولاً: »الجلابية« ليست موقعة.
أُمال إيه؟
ـ في البداية من صاحب هذه التسمية، أقصد تسمية موقعة الجمل.
بعض الأقلام الصحفية سمتها بذلك في حينها؟
ـ لا أحد يعرف من مصدرها.
وهل تعرف من أطلق عليها هذه الاسم؟
ـ نعم.. مصدر هذه التسمية هو »علي سالم«.
حضرتك؟
ـ آه.. شفت بقي، في حوار لي مع أحد الأصدقاء الكتاب العرب، حيث هاتفني قائلاً »إيه حكاية الجمل هذه.. قلت والله لا أعرف يا »مشاري« نحن ينقصنا »السيدة عائشة« حتي تبقي موقعة الجمل وهو كان وقتها يجلس وسط مجموعة من الصحفيين، فانتشرت في العالم كله. ونشرها صديقنا وجيه وهبة ـ الرسام ـ من هنا بالقاهرة أيضاً.
ومن هنا جاءت التسمية؟
ـ بالضبط كده »ملحوظة«: رفض علي سالم ذكر هذا في الحوار، لكنني طلبت منه السماح بذكرها، حتي يأخذ كل ذي حق حقه!.
طيب وواقعة الجلابية أو »موقعة« كما يسميها البعض؟
ـ هذه ليست موقعة، إنما هي نوع من الشغب حدث في مباراة كرة قدم، يتسم بالانحطاط الشديد، هناك ما يسمي شغب الملاعب ومن حسن حظنا أنه لم تقع عمليات قتل. وهو يذكر المثقف المصري بكلمات نكرة استخدمها، وهي كلمة »رعاع« و»الغوغاء«.
إذن بيننا »رعاع« و»غوغاء«؟
ـ طبعاً.. والاعتراف بذلك، يعتبر خطوة أولي للمواجهة معهم. لأن هؤلاء من الممكن أن يسلكوا سلوكاً منحطاً جداً.. ولابد للتحقيق حتي نطمئن أنه لا يوجد وراءه ما وراءه..
هل من الممكن أن يكون وراء هذه الفعلة محرك؟
ـ ممكن.. التحقيق يثبت ذلك أو ينفيه.
إذا كان هناك »هوس« يصيب مشجع الكورة.. فهل هناك »هوس« يصيب الناشط والمهتم السياسي؟
ـ إذا كان هناك »غوغائيون« في ميدان الكورة، فهم موجودون أيضاً في كل الميادين.
حتي ميادين السياسية؟
ـ كل الميادين.. أن يتم الاعتداء علي قاض.. فهذه غوغائية، أن يتم علي شرطي.. هذه غوغائية. أن يتم علي لاعب.. هذه غوغائية. أن يتم علي سياسي.. هذه غوغائية.. وهكذا.
لكن البعض يقول إن البشر أقرب للنبل والسلوك المتوازن؟
ـ هذا غير حقيقي، وفهم خاطئ للسلوك البشري، النبل ليس عند كل البشر. لا شئ يغفر ـ مثلاً ـ لمجموعة من المحامين تعتدي علي قاض، تماماً مثلما لا شيء يغفر لمجموعة تشاهد مباراة كرة، ثم ينزلون الملعب للاعتداء علي اللاعبين والحكام. وكذلك لا شيء يغفر لمجموعة »ركبت« الجمل وغيره وتأتي لتعتدي علي متظاهر يعبر عن رأيه.
إذن ما الحل مع هؤلاء الغوغائيين؟
ـ نحن في حاجة إلي الحسم في مواجهة هؤلاء.. والعنف ـ وهذا من دروس التاريخ ـ العنف يرد عليه بأقسي درجات العنف. هذا هو درس التاريخ.
أليس من الأفضل أن يواجه العنف بالحوار؟
ـ لا.. من يعتقد ذلك، عليه أن يعيد النظر فيما يعرفه عن سلوك البشر، لا أحد مسموح له باستخدام العنف، ولا أحد يجب أن يفلت بعد استخدامه العنف، وهناك مشاهد ـ خلال الفترة الماضية ـ دفعتني للتشاؤم،
زي إيه؟
ـ مشاهد لسيارة تنقل مساجين لقاعة المحكمة في حراسة ضباط شرطة كبار، فوجئت بأن هناك أناساً يقفون أمام المحكمة ويضربون هؤلاء المساجين، وهؤلاء المساجين لم يحكم عليه بشيء بعد.
وما التشاؤم في ذلك؟
ـ التشاؤم.. هو أن كونك متهماً ـ ومتهماً فقط ـ فإن هذا يعطي الحق »للرعاع« بأن يضربوك في الشارع وأنت في حماية الشرطة، ألا يدعوك ذلك للتشاؤم؟ هذا المشهد »فات« علي الكل..ولم يلتفت له أحد، رغم أن دلالاته خطيرة.. عدوان حدث علينا في حماية البوليس والقانون.
هل الاعتداء هنا يعني الاعتداء علي القانون نفسه؟
ـ طبعاً.. والحقيقة ليس القانون وحده الذي يتعرض للاعتداء، الاعتداء يتم علي الدولة ذاتها.
بمعني؟
ـ رجال الشرطة اسمهم في اللغة الإنجليزية »منفذو القوانين«. إذن الاعتداء تم علي »منفذي القوانين« داخل بيت القانون، كل ذلك يعني أن الاعتداء يتم علي الدولة ذاتها، خذ مع ذلك حادثة »قطع الأذن« ستجده عدواناً غاشماً وغير مبرر ولا يجب تقبل أي فكرة وراءه. ومع ذلك من فعلوا فعلتهم لم يحاكموا. هذا أيضاً عدوان علي الدولة، لذلك علي رجال الدولة أن يكتشفوا ويعرفوا ان معظم النار من مستصغر الشرر. ورجل الدولة عليه أن يعرف »المستصغر« قبل اشتعال النار. لو أحد فكر لماذا سقط نظام مبارك سيكتشف ان النظام لا يعرف أبداً»المستصغر« حتي شبت فيه النيران.
ولماذا سقط نظام مبارك؟
ـ كانت لديه ـ كنظام ـ مجموعة من الحوادث، لو لم تقع ما وقع النظام،خذ مثلاً، حادثة الاعتداء علي خالد سعيد. ما الصعوبة في أن يحاكم من قتل خالد سعيد ومن خلفهم وقتها.
ربما إحساسه بأن المحكمة تعني محاكمة جهاز الشرطة كله؟
ـ بما أنه شعر بذلك فتقدر تسميه »أهبل« وليس رجل دولة، لأنه لم ير الحقائق كما هي. هناك مواطن تم العدوان عليه أمام الناس كلها، وهكذا. حوادث من هذه النوعية لم يتعامل معها نظام مبارك بطريقة رجل الدولة، وعلي ذلك القياس خذ تزوير الانتخابات والفساد والفاسدين وأشياء أخري كثيرة.
نعود للعنف.. كيف نواجهه في المجتمع؟
ـ العنف يرد عليه بالعنف.. لا أحد يأخذ القانون في يديه، الكل يحترم القانون.
البعض يري أن العنف والبلطجة والحرق وغيرها من الأفعال مرجعها الثورة المضادة؟
ـ علي جهات التحقيق أن تثبت ذلك أو تنفيه. وأنا سأفترض جدلاً أن وراءها ما وراءها من تحريض.
هذا معناه أن لديك مبرراً أقوي لحماية نفسك بالعنف، اذا ما اكتشفت ان هؤلاء أو غيرهم وراءهم محرضون، والمحرضين يقدمون للمحاكمة السريعة.
قد يكون جهاز الشرطة حتي الآن ليست حالته تسمح علي محاصرة المحرضين علي الشغب والفوضي في أي مجال؟
ـ لا يقدر.. والدليل علي قدرته، سرعة القبض علي الجناة في حادثة خطف ابنة عفت السادات. ولو لم ينجح جهاز الشرطة في القبض علي الجناة بهذه السرعة، لكانت لهذه الحادثة أثر شديد علي المصريين، لأن المجتمع أصبحت فيه رغبة مدمرة اسمها تحدي القانون.
ومن أين جاء للمجتمع القدرة علي تحدي القانون؟
ـ يخيل للبعض أن بسقوط مبارك يسقط معه القانون والنظام العام، ويسجن رجال النظام لا يصبح في البلد قانون، لأن هؤلاء في السجن وهؤلاء الذين كانوا يحافظون علي القانون.
والحل؟
ـ عودة الانضباط فوراً.
من الذي يحقق الانضباط حالياً؟
ـ أقوي مؤسسات الدولة وأي دولة هم »منفذو القوانين«.
تقصد الشرطة؟
ـ طبعاً.. التجسيد الحي لفكرة الدولة هو الشرطي، والشرطي في اللغة الإنجليزية يعني»منفذوي القوانين« لذلك مطلوب العناية بمؤسسة
في وسط هذا كله من فوضي واعتداء علي الدولة والقانون نجد اتجاهات تريد أن تأخذنا الي دولة دينية.. كيف تري ذلك؟
ـ دافع عن نفسك، علي رجال الدولة والنخبة ألا تترك البلد تتجه الي ما يريد هؤلاء.. ليس هناك بديل غير انك »تمشي« من البلد، لذلك يجب الدفاع عن انفسنا، لكن نحن ـ للأسف ـ مشغولون جداً بمحاكمة الناس ووضعهم في السجون، ونحاكم في التحرير أم نحاكم في شرم الشيخ، وأنا يؤلمني جداً أن قاضياً جليلاً يعقد محاكمة في الشارع، هذا أمر لا يقبله العقل. ومن غير المتوقع أن قاضياً، مسته روح الشرائع، يسير وراء الشارع ووراء الشعبوية. والهتافات، القضاء في أعلي عليين.
ربما يكون بذلك يعلن عن رأيه؟
ـ القضاء ليس له دخل فيما يحدث في الشارع، مسموح أن يكون لنا ملائكتنا وشياطيننا، إنما القضاء لا.. وأنا مندهش.. كيف يفكر انسان يعمل قاضياً في عمل محاكمة لا يتوفر فيها الهدوء اللازم للتفكير، وفي تهم موجهة لمتهم ما، هذه واقعة خطيرة، وعلي كل رجال القضاء المصري أن يتذكروا انهم قضاة. وعلي كل هواة السياسة فيهم أن يتذكروا انهم قضاة هم ليسوا معنا.
ولماذا لا يكونون معنا في الشارع؟
ـ حتي نضمن العدالة، لو نزلوا وجلسوا معنا لن نضمن العدالة، أنا سأفترض ان كل من جاء ذكره من النظام القديم علي صفحات الجرائد حوكم ودخل السجن في 24 ساعة.
نرتاح بقي ونشفي غليلنا منهم؟
ـ مينفعش، لازم تفكر ماذا ستفعل غداً، المهم الآن أنت ماذا تريد من الغد؟ البلد رايحة علي فين؟ هذه أسئلة أهم من الانشغال بالتنفيس عن الغل.
إذن ما تراه هو »غل«؟
ـ بالضبط كده أري »غل« ولا أري تفكيراً في المستقبل الذي ينتظر الدولة، والغل يشل حركة العقل في الوقت ذاته، وتسمع أناساً ينادون الشعب يريد إعدام معرفش إيه؟ هذا كلام خطير والأخطر منه أن ينساق وراءه القضاة والقاضي له مكان واحد فقط هو منصة القضاء.
هل هذا الوضع يقلقك؟
ـ لا يقلقني فقط، بل يشعرني بالخوف، أخاف من القاضي اذا نزل الشارع، وشاركني وقفات ربما تكون انفعالية أو فيها بطولة زائفة وينسحب كلامي هذا علي سيادة القاضي الذي رأيته يفعل محاكمة في ميدان التحرير.
هل هذا فقط ما يقلقك حالياً؟
ـ لا يقلقني أيضاً صدور قرار بمنع الرئيس السابق مبارك وأسرته من السفر.
وما الذي يقلق في ذلك بالعكس هذا مطلب شعبي؟
ـ بل هذا ـ في رأيي ـ خطأ سياسي.
لماذا؟
ـ لأننا بذلك لم نتمكن من طي الصفحة لم نتمكن من »قفل« المشهد.
يا أستاذ »علي« نحن لا نقدم دراما.. هذه سياسة؟
ـ طيب ما أنا عارف.. لكن في السياسة مثل الدراما، لابد لكل مشهد أن يقف عند حد معين، حتي تبدأ مشاهد أخري.
لكنه يجب أن يحاكم علي »30 سنة« فساداً؟
ـ ياسيدي اللي يقول يقول ـ لكن أنا لا أحدثك عن شخصيات ولا أنظمة، بل أحدثك في السياسة، وفي السياسة كان يجب أن يترك ممر لمبارك للخروج الآمن.
والمحاكمة؟
ـ بعدين.. أنصب محاكمة براحتك انما أنا أتحدث علي المشهد نفسه، الذي كان يجب ان يغلق، وتطوي الصفحة.
كده بسهولة؟
ـ طبعاً.. أنت لا تغلقها من أجله هو، بل تغلقها من أجلك أنت، لكن الصفحة لم تغلق، وهذا ما يشعر الجميع بالتوتر، وهذا هو الذي يغذي فكرة أن هناك ثورة مضادة.. وجود مبارك يعقد الأمور، أما إذا رحل فالمشهد خلص، لذلك أنا أقول بقاءه خطأ سياسياً انفعالياً فيه إشفاء الغليل قليلاً، انما التعقيدات القانونية والسياسية كثيرة. أنت عايز تقبض عليه وتأتي به هنا وتحاكمه.
آه.. هذا هو المطلوب؟
ـ إزاي..
نرسل له إنذاراً علي يد محضر واستدعاءه للنيابة؟
ـ هذا كله لا يجلب احتراماً للقيادة السياسية، لذلك أقول لك ان هذا كله خطأ سياسي.
طيب إذا سلمنا بأنه خطأ.. كيف نصلحه؟
ـ معرفش، إنما هو كان خطأ، المشهد كان يجب ان يغلق، حتي نكمل وننظر للمستقبل. وبالمناسبة كنت دائماً أقول أن حكاية جمال مبارك ودخوله السياسية هو ـ أيضاً ـ خطأ سياسي.
إذن أنت تري أن الخطأ السياسي صعب تصحيحه؟
ـ طبعاً.. منذ الصغر قرأت كتاباً عن »تلران« وزير خارجية شهير لفرنسا قال »إنها أكثر من جريمة.. هذا خطأ سياسي« هو يقصد ان الخطأ السياسي أكثر من جريمة، أخطر حاجة في الدنيا هو الخطأ السياسي وهذا خطأ سياسي، لابد من علاجه وإغلاق المشهد.
وهات أموالك نعم، وأبحث عن كل ما يحقق لك ما تريده،إنما دون أي خطأ سياسي.
متفائل؟
ـ أنا شغلتني أكون متفائل. أنا ربنا خلقني أري الأشياء الجميلة وأحلم بحدوث الأشياء الجميلة، أنا متفائل جداً بأن رئيس الدولة يحكم مدتين فقط، هذه النقطة فقط، ستعدل كل المقاييس، المصريون عندما وقفوا في طوابير الاستفتاء، أعادوا تذكرنا بوجودهم، فيه رغبة بالعظمة عند المصريين، وهناك ميل للتخلف أيضاً، لكن أنا دائماً واثق أن بكره أفضل.. وأنا لو توقفت عن رؤية هذا الذي أقوله ماكتبت كلمة واحدة، ونحن في طريق كله أمل.