رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

زاهي حواس : أبكي رحيل أبي كلما حصلت على جائزة أو تكريم

بوابة الوفد الإلكترونية

«يا زاهى..مالك يا ابنى النهاردة»؟ هكذا سأل طفل صغير عمره لم يتجاوز الـ12 عاما، صديقه الطفل زاهى صاحب الـ13 عاما، فرد قائلا: «متضايق شوية.. ابويا راح يتعالج فى مصر- يقصد القاهرة - وقلبى وجعنى عليه، وخايف النهاردة مش عارف ليه؟

دار هذا الحوار فى قرية العبيدة - مركز فارسكور - بمحافظة دمياط، وبالتحديد فى ملعب المدرسة الابتدائى، حيث كان أطفال القرية يستعدون للعب مباراة فى كرة القدم، بعد دقائق أطلق شاب يكبرهم فى السن إشارة بدء  المباراة، وما هى إلا دقائق مرت حتى سمع الطفل «زاهى» نساء القرية وهن يصرخن فى هستيرية شديدة فتوقف الجميع عن اللعب.

وانتحى «زاهى» جنبا ثم خرج بتمهل وقدماه ترفضان حمله.. ثم ابتعد عن زملاء الملعب، واقترب أكثر من رجال القرية ونسائها الذين بدأوا يتوافدون للوقوف على كوبرى القرية فى انتظار طائر الموت الذى سيأتى من بعيد حاملا فوقه نعش ميت.

وكلما اقترب أكثر.. شعر بأن أباه هو الميت الذى تنتظره القرية بكل من فيها.. الوقت يمر بصعوبة، والحزن يخيم على المشهد وأصوات النحيب والصراخ والبكاء تلف أجواء القرية وأطرافها، دقائق واقتربت منه إحدى سيدات القرية، انحنت عليه وضمته إلى حضنها وقالت له: «حبيبى يا زاهى.. الغالى مات يا ابن الغالى»، وانهمرت السيدة فى نوبة بكاء لم تتوقف، هنا عرف الطفل أن صوت صافرة عربة الإسعاف الذى يصرخ من بعيد، كان يعلن عن وصول جثمان أبيه «عباس عبدالوهاب زاهى» فنزلت من دموعه ولم تتوقف منذ لحظة وصوله حتى الانتهاء من دفنه، وربما الى هذا اليوم!

وإلى نص الحوار:

< د.="" زاهى="" قلت="" إنك="" مازلت="" حتى="" هذا="" اليوم="" تبكى="" أبيك="" كلما="">

- نعم..مازلت حتى اليوم أبكى رحيله، وأتذكر اللحظات القاسية التى مرت علىّ وأنا أقف على أبواب قريتنا ذات مساء فى انتظار عودته من رحلته للقاهرة من أجل الشفاء حيث كان يعانى من مرض الكبد، كم كان يوما عصيبا مريرا، قاسيا الى أبعد حد، فليس أقسى من أن تفقد أباك أو أمك. لكن بالنسبة لى فقد كنت متعلقا أكثر بوالدى رحمة الله عليه.

< رحل="" وكنت="" فى="" سن="" صغيرة..="" فهل="" استطعت="" -="" رغم="" قصر="" المدة="" -="" أن="" تتعلم="" منه="">

- بالطبع كان أبى وأنا طفل صغير، يأخذنى الى كل مكان يذهب إليه وكان فى ذلك - من وجه نظره - تعليم مباشر وغير مباشر منه لى، مثلا كان لدينا مساحة من الأراضى الزراعية وكنت أذهب إليه أحمل فى يدى كتب المدرسة للمذاكرة على أطراف الأرض، فكان يأتى من بعيد عندما يرانى ويقول لى عد إلى البيت ولا تأت إلى هنا مرة أخرى؟

< ولماذا="" كان="" يفعل="" ذلك="">

- كان يخاف علىّ أن أنخرط فى شغل الأرض، فقد كان يرفض أن أكون فلاحا يزرع ويشقى ويعمل تحت نار الشمس وبرد الشتاء، كان يقول: عايزك تبقى حاجة كبيرة «وشغل الفلاحة ده سيبه ليه؟» ثم يصمت د. زاهى قليلا ويشرد ببصره بعيدا وتغالبه دموعه حتى لا تتساقط أمامى ثم يتنهد ويقول: «أقول يا سيدى عندك إيه تانى».

< قلت="" عندى="" سؤال="" من="" وحى="" ما="" أراه="">

- اتفضل.. ما سؤالك؟

< ما="" اللحظات="" التى="" إذا="" ما="" مرت="" أمام="" عينيك="" تذكرت="">

- لحظات التكريم.. الحقيقة فى هذه اللحظات التى أقف فيها أمام الجمهور فى حفلات التكريم أجد نفسى متلبسا بحالة من الدموع تنساب منى دون توقف.

< هل="" هذا="" معناه="" أنك="" فى="" تلك="" اللحظات="" تقول="" بينك="" وبين="" نفسك="" كم="" كنت="" أنا="" ترانى="" يا="" أبى="" وأنا="" فى="" هذه="">

- بالفعل ممكن يكون هذا هو السبب، أو هو المحرك لدموعي، انت تعلم أن الكل يتمنى أن يراه أبوه وهو إنسان ناجح ومتفوق، فما بالك عندما يصل هذا النجاح والتفوق اللى حد التكريم، طبعا كنت أتمنى أن يرانى أبى وأنا إنسان ناجح ومتفوق فى عملى.

< هل="" كان="" يريد="" لك="" أن="" تكون="" عالما="" فى="">

- الحقيقة تقدر تقول «هو ملحقش» لم يمهله القدر، لكن هو إذا لم يكن يريد لى أن أكون عالم آثار على وجه التحديد، فإنه كان يريد لى أن أكون ناجحا فى أى مجال أتجه إليه، وبالمناسبة دى دعنى أقول لك إن أبى أثر فى تكوينى الذى نشأت عليه بصورة أفادتنى فى مجالى الذى اتجهت إليه.

<>

- وأنا طفل صغير كنت أخاف السير فى «الضلمة»، وأتذكر أننى إذا أرسلنى أبى لشراء أى شىء من خارج المنزل كنت أخاف وأعود للبيت بسرعة، فكان يضحك ويرسل معى شقيقى الأصغر محمود، وبعدما نعود كان ينادى علىّ ويقول: «يا زاهى.. أكتر حاجة مزعلانى منك إنك بتخاف من الضلمة»، ثم كان ينهى كلامه قائلا: خليك راجل وماتخفش لا من ضلمة ولا من أى حاجة تانية.

< هل="" اعتبرت="" هذا="" الدرس="" بداية="" لمفاهيم="" زرعها="" الوالد="" فى="" شخصك="" وأنت="" طفل="">

- بالفعل هو كذلك فعندما كبرت وتعلمت واشتغلت وسافرت وعدت فى كل هذه المشاوير كنت دائما أتذكر حديث أبى لى، وتحذيره بألا أخاف.. صحيح هو كان يتحدث عن الخوف من الظلام لكن تستطيع أن تقول

إننى توقفت كثيرا فى حياتى أمام معنى «الخوف».

< ومن="" المؤكد="" أن="" ذلك="" ساعدك="" وأنت="" تقتحم="" العالم="" الآخر="" داخل="" المقابر="">

- نعم، هذا ما حدث.. أنت تعلم أن الناس أحيانا كانت تخاف من دخول مقابر الفراعنة، وهناك من كيان يخاف دخول الهرم الأكبر مثلا، لكن أنا منذ بداياتى اقتحمت ظلام هذه الأماكن، ولم أخشها يوما، وكنت عندما أدخل مقبرة مثلا وأجد نفسى وجها لوجه مع الظلام، كنت أتذكر نصيحة أبى التى قدمها لى وأنا طفل لم يتجاوز عمره الأعوام القليلة، والتى كان يؤكد دوما لى ففيها ضرورة تحدى الظلام وقهر الخوف الذى يختبئ وراء ستائره.

< هل="" كنت="" تخاف="">

- بالعكس.. لم أشعر أمامه بالخوف لكن كنت أرى فى عينيه رغبة فى أن أكون قويا، وأن أعتمد على ذاتى، وأن أفعل ما أفعله بثقة وصدق وأمانة، وبعد ذلك لا يعنينى أى شىء آخر، وأظن أن درس الأمانة هذا كان قد قدمه أبى لى ولإخواتى، لى أخ أكبر وأخ أصغر، عندما وجد شقيقى الأصغر حافظة نقود فى طرقات القرية، فجاء بها الى أبى فقال له: اذهب مع أخيك الأكبر الى مسجد القرية الكبير، وأعلن فى الميكروفون

عن وجود حافظة النقود.. وبالفعل قبل خروجنا من المسجد وجدنا صاحب الحافظة، على باب الجامع وتسلم منا الأمانة، وأصر أن يعود معنا إلى البيت ليشكر أبى.

< أظن="" أن="" هذا="" كان="" درسا="" عمليا="">

- هذا صحيح.. ومنذ ذلك اليوم تعلمت ألا أخاف، وأن أكون أمينا، وألا أمد يدى لبشر.. والأهم من ذلك أن أساعد المحتاج وهذه أيضا تعلمتها من أبى.

< قلت="" فى="" بداية="" الكلام="" إنك="" حصلت="" على="" جوائز="" مؤخرا="" وبكيت="" لحظة="" استلامها،="" أليس="">

- كانت جوائز وتكريمات فى محافل دولية، فلقد حصلت على الدكتوراه الفخرية من جامعة بلغاريا، والجائزة الذهبية كشخصية العام من جامعة «براغ» فى إيطاليا، وتم تكريمى أيضا من قبل جمعية أمريكية اسمها مغامرات فى العقل»، حيث تختار الجمعية مجموعة من الشخصيات على مستوى العالم، ويتم تقديمهم للطلاب محاولين أن يجعلوا من تلك النماذج شخصيات تكون قدوة لهؤلاء الطلاب، حتى يصلوا الى ما وصلوا إليه من علم.

< بمناسبة="" الكلام="" عن="" العلم="" والعلماء..="" دعنى="" أعود="" معك="" الى="" التاريخ="" القديم..="" ونعرف="" كيف="" كان="" المصرى="" القديم="" يتعامل="" مع="">

- كان يتعامل معه بالتقدير والاحترام، رغم الفارق الزمنى، ورغم التقدم الذى نراه اليوم من تطور فى حياة المصريين ودخول الدين فى تكوين البشر، فإن المصرى القديم كان يراه امتداده وبالتالى أن يعلمه معنى الحياة، ومعنى العمل والأمانة والرجولة والقوة، دعنا نتفق أن الأبوة كما هى لم تتغير بتغير الثقافات والحضارات.

< فى="" نهاية="" الحوار..="" ماذا="" تذكر="">

- أذكر شموخه وقوته وحبه للحياة والناس، كان أبى فى قريتنا لديه «مهرة» فكان يركبها ويتجول بها عصر كل يوم، وكان أهل القرية يستقبلونه بالترحاب والتهليل، وهو لم يكن يفعل ذلك متعاليا عليهم، لكنه كان يفعل ذلك من حبه فى الفروسية، فقد كان يتحلى بصفات الفارس، يساعد أهل القرية ويزرع الخير مثلما يزرع الأرض، ويعطى للمحتاج منهم وأنا تعلمت منه ذلك فلا أذكر -ومازلت- أساعد الناس عملا بنصيحة أبى التى كان يقول فيها: «اعمل الخير وارميه البحر»، وتأكد أنك تساهم بعملك هذا فى إسعاد غيرك، وما أجمل الحياة إذا شعرت فيها إنك تسعد غيرك.. بهذا تصبح الحياة حياة.