رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

بنيتى "ج"

الحلقة الأخيرة
الحلقة الأخيرة

اليوم هو اليوم الثالث للخروج من المستشفى، هذه القاهرة بدت خلال الساعات الماضية غير تلك القاهرة التى أعرفها وأهابها وأخشى من أناسها، هى أليفة الآن دافئة الجو غير ما أحسست فيما مضى من أيام وبخاصة أيامى الأولى فيها ترك لى الدكتور مراد حرية اختيار المكان الذى أدعوه فيه على فنجان القهوة بعدما ينتهى من الذهاب لعيادته التى يجب أن يشرف عليها بعد غياب طال لأيام أخبرنى بأنه سيمر على معمل الأسنان لإحضار ما تم إنهاؤه لحالات مرضية ارتبط معاها بتسليم طاقم الأسنان لها فى موعد محدد يبدو من ضبط وقته أنه محب لعمله ناجح فيه وقد قرر أمس مكافأتى بفحص أسنانى وأراح الألم الذى داوم معى لسنوات يفتك برأسى بين الحين والآخر وأقتلع ضرس العقل من جذوره أطباء مدينتى فى الجنوب أخبرونى بضرورة إجراء جراحة لأن تاج السن قد تهشم بينما كل ما فعله الدكتور مراد هو شكة بسيطة استشعرت بها من إبرة البنج ولم استشعر بشىء سوى ضحكته وهو يناولنى الضرس ويقول لى مازحاً: «ابقى اعملى عليه شوربة».  

اقتلع الرجل الذى جمعنى القدر به ضرسى وكأنما اقتلع أشياء أخرى من داخلى الجذور المغروسة فى اللثة بتقيح شكل الضرس ولون الجذور أشبه بذلك القيح الذى تسرب لروحى بينما الحفرة الغائرة من اقتلاع الضرس ذكرتنى بنفسى حين ارتحلت إلى القاهرة فى مرتى الأولى متأملة وراغبة فى لقب الأستاذة التى ستنال ليسانس الحقوق لتعود مرة أخرى إلى بلدتها الجنوبية وربما لن يلحق أبوها الافتخار بها ربما يموت يوماً أو تخبرنى أمى باتصال تليفونى أنه لاقى ربه. درته الوحيدة التى خرج بها من الدنيا كانت أنا وأنا الآن تلك البعيدة عنه ربما يحلم فى غيبوبته أننى أكد فى دراستى ولا يعلم انقطاعى ذلك العام أملاً فى توفير ما أرسله لأمى بحجة التدريب داخل مكتب محام كبير... سرقنى التفكير أو بالأحرى سرق الفكر الوقت حين تأملت الساعة وقد قاربت على الثالثة عصراً فات على الميعاد قرابة الساعة أين أنت أيها الطبيب الذى هجره أولاده وزوجته...؟!!.. هذه هى المرة الثالثة لمحاولة الاتصال به... لا يرد يغلق الخط بعد الرنة الثالثة وكأن أمراً ما يشغله... معى خمسون جنيهاً تكفى للحساب على مشروب الليمون الذى طلبته لا داعى لطلب فنجان للقهوة.

كاد يتصبب عرقاً رغم برودة أواخر فبراير قادماً كأنما انتهى من معركة من يراه الآن لا يظن أن هذا الرجل كان راقداً منذ أيام قليلة بغرفة العناية المركزة بابتسامته المعهودة وضحكته بادرنى: «أكيد قلتى خلع وهيدبسنى فى الحساب؟»

< الحمد="" لله="" معى="" خمسون="" جنيهاً..="" لا="" أعتقد="" أن="" ثمن="" العصير="" سيتكلف="" أكثر="" من="">

< طيب="" يا="" ستى="" أطلبى="" بقى="" قهوة="" عشان="" تركزى="" فيما="" أود="">

< خير="">

مد الطبيب يده فى جيبه أخرج إيصالات لونها وردى وايصالات صفراء وايصال ورقى كبير ثم استطرد: دى مصاريف السنوات المتأخرة قمت بسدادها لك وهذا إيصال كتب التيرم الجامعى الحالى وقدمت التماساً لإعادة قيدك بالكلية وطمأنى مدير شئون الطلاب أن الأمر بسيط وبخاصة لو أحضرنا التقرير الطبى للوالد ربنا يعافيه...

كل المشاعر والانفعالات بداخلى تداخلت. رجل يعيد لى ولأبى الراقد فى غيبوبته حلم استكمال مؤهلى العلمى يعيدنى إلى نواة ثباتى داخل القاهرة لم أعد تائهة بعد هذه الإيصالات عدت إلى مسار الحلم القديم ابتسمت ثم بكيت ثم صرخت بحرقة ثم أمسكت بيده ووجدتنى اصرخ فى دعائى له: «ربنا يسترك يا دكتور مراد ويفرحك ويفرح قلبك». شددت على يده بقوة ثم قمت من المنضدة وعانقته وهو جالس أمام الجميع وأنا أبكى بحرقة وحينما تأملت وجهه كان هو الآخر قد بكى ثم أخرجنى من الموقف بجملته الفكاهية: «إحنا هنبتديها ندب بأقولك أيه أنا كاوى القميص ما تكسرهوليش». النادل الذى أتى بالقهوة لى قال: ربنا يحفظ بنتك ويخليها لك يا بيه..

«اعملى حسابك حاجزين ديزل 12 نص الليل نكون فى أسيوط على 5 صباحاً بإذن الله ثم نتوجه إلى مركز أبوتيج أود زيارة أبيك... والحقيقة ليس فقط الزيارة من أجل أبيك هناك سبب أساسى لزيارتى دعينى أحتفظ به لنفسى حتى نصل».  

- الموضوع ليس بالسهولة دى يا دكتور..

- أنا رجل فى سن أبيك لن يقولوا عريس... ثم ختم كلامه بضحكه المعتاد ومزاحه الذى يقتل به رتابة الزمن والوحدة.

فكرت أن اتجاهل رده على الهاتف أتركه لحال سبيله اكتفى منه بما صنع معى هو لا يعلم مكان سكنى الذى أسكن فيه وكذلك لم يسألنى باقى ساعة على موعد قطار العودة للوطن الصغير اتصاله الرابع أتجاهله، طاقة بداخل تمنعنى من المواجهة ولكن سأواجه من؟!... أبى الراقد فى غيبوبته؟.. أم أمى التى كانت تستقبل حوالتى البريدية وتدعو الله لى فى الهاتف أن يكمل ستره على ابنتها التى أوحت لها أنها تعمل فى مكتب للمحاماة؟!...

بلا تفكير قررت الارتحال بثوبى الذى أرتديه من أول اليوم خرجت من باب غرفتى متوجهة للباب الرئيسى للسكن ثم سيارة أجرة إلى محطة رمسيس بعدها قررت الاتصال عليه... «دكتور مراد أنا فى طريقى لمحطة القطار نتلاقى على رصيف 9 رصيف الصعيد».  

 ******

الليل والطريق وأزيز عجلات القطار على القضبان مقصات شريط السكة الحديد والخطوط المتوازية والمتقاطعة عيون ناعسة نمر عليها تبدو من داخل عربات المكيف كأنها أرواح بشرية بعيون فقط عيون لأطفال ونساء وشباب وعجائز عيون ترقب وعيون تجرى وعيون تتأهب وعيون تنتظر...

وصل القطار لأسيوط ومنها ارتحلنا عبر ركوبة لمركز «أبوتيج»، اليوم فى بدايته الأولى للشروق

لا تزال الشمس حانية خارجة من مخدعها للتو عبر فناء بيتنا ومنه إلى باب البيت الذى لا أعلم من فيه ومع الدقة الأولى كانت «عزيزة» منتصبة أمامى بدا أنها مستيقظة منذ ساعات لم تصدق وجودى صرخت زينب بنتى ثم ضمتنى فى عناق طويل ولمحت الضيف الذى يقف خلفى أهلا وسهلا... وأنا أقدم لها الدكتور مراد فتقول أمى ده دكتور جايباه يكشف على أبيك ويفحص حالته؟!.. فأجدنى أقول لها ودون تردد أيوه طبعا... فترد أمى: أصيلة يا زينب يا بنت بطنى أهلاً وسهلاً أهلاً وسهلاً..

دخل الضيف لغرفة والدى، رائحة الغرفة حلوة أبى فى نومته هادئا يقف الدكتور مراد على مقربة من أبى الذى لا أعرف هل هو فى طور الإفاقة أم فى طور غيبوبته المتقطعة يصحو ويفتح عينه لا ينطق بكلمة لى فقط يبتسم أمد له يدى لألتقط يده فيقبلها ثم أهوى على الأرض أقبل يده فيبتسم ويبكى فى نفس الوقت. ثم تخرجنى أمى عزيزة من جرأة المشهد والتقاء عين البنت بالأب وتنادى على لإكرام الضيف أترك الدكتور مراد مع أبى.

يقول الدكتور مراد للرجل الذى بين الإفاقة والصحو: «تقوم لنا بالسلامة يا حاج وتبقى زى الفل».  

يشير الرجل للدكتور مراد كى يغلق الباب فيفعل ما أمره صاحب المرض ونومة الفراش. يقترب منه الدكتور مراد يمسك الرجل بيده يهمس له بصوت متقطع: «كتر خيرك على اللى عملته مع زينب».  

يقول الدكتور مراد: «أنا ما عملتش حاجة.. حاجة إيه اللى عملتها؟ يا راجل يا طيب».

- يقول الرجل المسجى بالجسد على فراش المرض: «الذى أخذ بيدك من على الجسر هو من أخبرنى بما فعلته مع ابنتى».

يتحول وجه طبيب الأسنان إلى كومة متوردة من الدم يخرج من الغرفة ثم إلى باب المنزل قاصداً الخارج تخرج زينب تحاول تفهم الأمر يخبرها بأنه سيعود لا داعى للقلق يشير إلى توكتوك قادم جهة الحارة المقابلة يركب داخل التوكتوك: «أوصلنى السلطان الفرغل وسأعطيك 50 جنيهاً»...

 ******

متوقف أمام ضريحك النحاسى الآن هذه هى زيارتى الأولى لك ما حكايتك وما قصتك أيها الولى؟، ولمَ فعلت معى كل هذا؟.. أنا لا أعرف فى قوانينكم وأعترف بجهلى لكن أقر بما رأيته وسمعته ما رأيته فى غيبوبة السكر التى كادت أن تقصف عمرى ثم أتيت أنت لتأخذ بيدى وتعبر معى الجسر الواصل بين منطقتين أننى فى حاجة ماسة للبكاء أيها الولى الطيب الذى جاء لنجدتى وتجلى لنموذج الرحمة الإلهية للرب العظيم أنت أحد جنوده وأحد أسبابه وأحد أوليائه وأصفيائه أخبرتنى فى غيبوبتى أن ثمة مهمة على أن أقضيها وأنت تعلم أنى ذلك الموجود والوحيد الذى استغنى عنه أولاده وزوجته كيف لى أن أضمد جراح أحد بينما أنا من ينزف أيها الولى الذى أتى بى من آخر الدنيا ولم أتخيل نفسى يوماً أننى أزورك أو أحادثك وبداخلى يقين أنك تسمعنى...

«واضح أنك حبيب السلطان الفرغل». . قالها رجل تأملت ملامحه بينما دموعى قد حجبت كل الرؤيا تأملته وأنا أمسح عينى من أسفل نظارتى الطبية لكنى أحسست أننى أعرفه وأن ثمة عشرة طويلة تجمعنى بذلك الرجل الذى يرتدى الثوب الصعيدى والعمامة. ربت الرجل على كتفى وقال بنبرة حانية: «تأدب مع الأقدار يا مولانا... واللى راح سيبه لله يروح الكريم عايزك لوحدك جردك من العزوة والعيال لأجل تتفرغ له....».

كانت زينب تنادى بصوتها الطفولى المتكسر وجدتها خلفى: «حسيت أنك هنا.. جرتنى وراك الله يسامحك يا دكتور مراد». .. التفتت عينى إلى الرجل فى جلبابه الصعيدى صاحب الوجه الطيب والمريح أمسك سبحته بيده قال بصوت مرتفع سمعته: «كمل مهمتك مع البنية على خير يا طبيب...».