عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عادل المُر

بوابة الوفد الإلكترونية

اكتسب عادل لقب المُـر من معركته الأولى وهو لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره، حين اصطدم مع كوماندا البائعين في القطار ورفض عادل دفع «النولون». وصل العناد بالرجل الكوماندا لحد تصميمه على تلقين عادل علقة موت، لئلا تنكسر هيبته بين البائعين وفاجأ الصبي رواد محطة «تلا» بقلب لا يعرف الخوف وبحركة سريعة في العراك قبض عادل على جلباب الرجل وأصابه بجرح غائر في الوجه بشفرة الموسى التي كان يحتفظ بها للطوارئ.

ولأن دستور باعة القطار لا يعرف أقسام الشرطة جلس الكوماندان جلسة عرب بين كبار باعة القطار الذين توسطهم الصبي عادل في جلستهم  وكان الحكم من كبار القوم الذي ارتضى به الجميع أن يُقطع عيش الصبي من محطة قطار طنطا وخط أشمون منوفية. وهو الهلاك بطريقة غير مباشرة، إذ إن الطرق تصبح مسدودة أمام الفتى خلا خطين..خط القاهرة وخط الإسكندرية، وهما خطا الإكس الأحمر، إذ يفترض دستور القطار أن يبدأ البائع الناشئ بالتدرب على خطي: «أشمون - كفرسليم  وزفتى ـ قلين» خطوط الأقاليم وبعد سنوات من إثبات الكفاءة يتم تأهيله للالتحاق بخط الزقازيق وبورسعيد، أما خطا القاهرة والإسكندرية فهما من الخطوط الملاكي التي لا يسمح لأحد باقتحامها.

ومضت جلسة الصلح وأعقبها صباح جديد أعلن فيه عادل المُر اقتحامه لمحطة قطار طنطا وراقبته أنظار الرفاق من باعة القطار ترى تصرف المر المطرود من رحمة باعة خط اشمون. ونادت إذاعة المحطة عن وصول قطار 158 القادم من محطة الإسكندرية والمتجه للسد العالي ويقف بمحطة بنها القاهرة ويستمر باقي المحافظات للوجه القبلي.

رصدت الأعين عادل من رصيف 3 و2و4. توجهت جميع الأعين إلى رصيف 5 رصيف القاهرة تشهد الفتي وهو يجازف بطاولة البوسترات والمحافظ الجلدية على كتفه ونادى متجولا بين الأجساد المتراصة والمنطرحة بأرضية قطار الغلابة «محفظة بجنيه بجنيه يا محفظة ... بوستر لاميتاب وكولي الشيال»

واصل المُر تنقله بين العربات يعرض بضائعه لأبناء الجنوب الذين أبدوا انبهارا بالسلعة الجديدة وصل إلى نفاد ما تحويه الطاولة من محافظ جلدية. واندهش عادل عندما تقاطع مع باعة القطار داخل العربات دون أن يعترضه أحد. كانت كلها نظرات لا تعبر عن انفعال بعينه.

ثم بدأت التهدية عند مدخل محطة بنها واستعد الركاب للنزول - أمر لم يألفه عادل، إذ إن خبرته بقطار الدلتا لم تدربه على التعامل مع الزحام في محطات النزول، وذلك لعوامل عدة: أولها قرب المحطات من بعضها وثانيها:عدم التكدس نتيجة لتواجد أكثر من قطار وأكثر من وسيلة للسفر بأجر مقارب للقطار».

وجد عادل نفسه محشورا بين الركاب يحاول تلافي وقوع الطاولة من يده.غير أن نصلا مدببا غرس في جنبه وصوتا من خلفه يأمره بالنزول: «انزل يا حيلة أمك».

كانت شفرة المطواة القرن غزال على شريان يد عادل الأيمن الذي توقف  وإلى جواره طاولته بها  ما تبقى من المحافظ الجلدية.. تحوطه الباعة عند مخزن السكة الحديد بمحطة بنها.

وقف الجمع الذي تحلق دائرة واستلقت طاولات السميط والقرص وبرادات الشاي على الأرض. قدم الريس «عبده الإكس» بوجهه المنشطر جراء أكثر من ندبة..اخترق دائرة الباعة وواجه عادل وصفعه على وجهه، فاستبد الغضب بعادل الصبي فتحركت يده فانسال الدم  متفجرا من يده بعد أن نفرت عروق الوجه وكشفت عن غضب باتساع بحار الدنيا. جرت عايدة وأحضرت خرقة من بين القضبان وربطت يد الصبي الذي تسمر في مكانه وهي ترجو عبده «الرحمة يا ريس عيل صغير عضمه طري».

لم يلتفت عبده لكلام عايدة بائعة الجوارب. شدّه مشهد الصبي الذي لم يأبه بمنظر الدم متفجرا من يده .

سأله عبده: «منين داهية يا حيلة أمك؟».

«من طنطا يا ريس عبده».

شدهُ توقير الصبي له، فعدل من وقفته واخرج سيجارة ملفوفة وأشعلها.. وسأله ثانية: «كنت راكب خط إيه؟».

-خط كفر سليم أشمون يا ريس.

- تعرف الولد عادل؟

- أنا عادل يا كبير.

-انت الذي علمت على وجه ربيع؟

اعمل حسابك يا حيلتها إن هنا ليس مثل قطارات الفلاحين.

لم يخف عبده الاكس إعجابه بشجاعة الصبي وقلبه الذي لا يعرف الخوف.. فقرر أن يكرمه تحسبا للزمن. قال في نفسه «الروح التي لا تعرف الخوف لم تتعود على الغدر».

من وقتها أضحت حياة عادل الذي اكتسب لقب المر ترحالا من بلد لبلد ومن مكان لمكان.. وأحسبه قد طاف أرجاء الدنيا وليس محطات البلاد فقط.

تقول نسوة حارتنا إن عادل اعتزل البيع في القطار بعد حادث اختطف بائعة منهم.. وتقول النسوة ان عادل كان شديد الهيام ب«سكرة» بائعة العسلية والسكر النبات.. وقالوا انه احضرها أكثر من مرة للحاجة أم سيد شفيقة لتتعرف عليها ومن ثم تخطبها له.. وروت أصوات أخرى أن عادل عاشر سكرة وحملت منه في الشهر الثالث وان حملها هو الذي أصابها بالدوار فسقطت تحت عجلات قطار إسكندرية.

لم أرَ انكسارًا مثل الذي لاحظته في عين عادل المر في هذه الأثناء. كان عاكفا في بيته زاهدا إلا عن الحشيش الذي يفوح من بنايته. لم يجرؤ أحد على اقتحام عرينه إلا الحاجة أم سيد شفيقة التي كانت تحضر له الطعام في أوقات ليست منتظمة.

اقترحت عليه السيدة المسنة ان الزواج هو الحل للخروج من أزمته. فرشحت له تهاني التي مات ابوها محمود الغفير وترعى هي أمها، قالت سيدة: «تقصد أم تهاني- لن ترفض لي طلبا ... وسيرزقك الله بالذرية الصالحة بشرط أن تهتدي بنوره ورحمته».

وتوسط الحاج مأمون عند رئيس المحكمة أن يتدخل عند رئيس مباحث قسم أول ويعين عادل تبّاعا في أحد مواقف المحافظة.

ومع السنة الجديدة قدم إلى القسم رئيس مباحث جديد كان شؤما على أهل الحارة وجحيما على عادل المر الذي لم يفلت من أذيته. طلب ضابط المباحث من عادل أن يعمل مرشدا فرفض عادل، لأنه يكره أذية الخلق ولا يحب الغدر. فأسرها رئيس المباحث في نفسه وفي أول فرصة قام باتهام عادل بحيازة سلاح أبيض وورطه في قضية سرقة بالإكراه معتمدا علي صحيفته الجنائية وتسجيله بجرائم النفس.

وبعدما قضى عادل عقوبة لم يقترف إثمها تم ترحيله إلى حجز القسم تمهيدا لإخلاء سبيله. أمر الضابط نفسه بعمل فيش جنائي كعب دائر لعادل.

في صباح اليوم التالي قدم ثلاثة مخبرين يستعلمون عن أسرة عادل أو أحد الورثة لاستلام متعلقاته؛لأنه - بحد روايات المخبرين - شنق نفسه فى الحجز.