رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

حداد علم النفس

بوابة الوفد الإلكترونية

هل أرضيت اكتشافك؟.. ربما.. لا يوجد مبرر واضح تستطيع أن تواجه به الآخرين، أو سبب لما أقدمت عليه، أنت اخترت أن تبدأ السلم من أوله مرة أخرى وقد اجتزت عتبته الأخيرة، ظننت بهذا الأمر التفرد فيما أقدمت عليه، وبدت الحقيقة غير ذلك.

ظلت النفس البشرية باكتشافها هى السرداب الأصعب فى الولوج والاقتحام، طيلة سنوات من العمر أنقب لمحاولة سبر أغوار هذه التركيبة النارية الملغزة، بلا جواب شافٍ أو دال، وكان قرارى الذى كنت أخجل منه هو دراسة علم النفس الإكلينكى كمحاولة لفهم هذه التركيبة المحيرة، عارضنى بعض الأصدقاء فى المهنة بدافع أن رجلا يحمل درجة علمية بقيمة الدكتوراة فما الذى يدفعه لدراسة مجال جديد من مجالات العلوم الإنسانية، وقال أحدهم ربما تعتمد على التعلم الذاتى أفضل من اعتمادك على المقررات، وكنت أرى فى قرار العودة لتصفح كتاب وترقب الاختبار هو إعادة نفخة للحياة ربما تمدها المعلومة الجديدة لروحى إلى جوار مهنتى فى الكتابة، وقد أقنعت نفسى أن الكتابة للناس هى مزيج يستحق دوما الإضافة، وأن الكاتب ينبغى له أن ينوع الأرحقة التى يستقيها ويرشفها ليفرز ما يكتب للقارئ بيانا مختلفا ألوانه وربما كان فيه شفاء للأرواح، لكنى وبرغم كل ما سقت من براهين لنفسى تدفعنى لمواصلة ما أقدمت عليه، فإننى أعترف بالجبن من المواجهة، حتى اننى كنت أتخفى من لقاء من أعرفهم وأتلاشى النظر لطلاب فى مثل أبنائى أجلس بينهم، وصارت نرجسية الكاتب والمحاضر الأكاديمى تغزونى كل حين تسألنى :«ما جدوى أن تجلس طالبا الآن ثم تقوم من مجلسك ينتظرك رواد لندوة أو محاضرة يترقبك فيها راغبون لسماعك؟....كنت أتضجر من مواجهة ذاتى، أصبر نفسى بالتدعيم المعنوى كون طلب العلم فريضة وهو أمر محثوث عليه من المهد إلى اللحد. «وقل رب زدنى علما».

رغم كل ما سقت من أدلة لوقف تساؤلات هذه النفس، إلا أننى جبنت عن المواجهة، فكنت أتلاشى النظر لمن هم يجاوروننى، وبدأ الاختبار الأول، مترقبا المشهد، ومتخفيا عن الأنظار قاصدًا مقعدًا فى المقام الأخير، وإذ بسيدة بدا على ملامحها الجد ومراجعة بعض أوراق كانت معها، سألتنى هذه السيدة :هل انت تدرس معنا علم النفس؟.. أجبت خجولا: نعم. فقالت لى: ولما أنت بهذا الخجل؟.. أنا مع ابنتى، قررت أن أنضم للركب حتى لو جاوز عمرى الخمسين بقليل، وقد تأملت كلماتها كأخت تهدينى نصيحة لمحاولة كسر ما أنا فيه من حيرة. كان يومى الأول فى المدرج كطالب يحمل درجة الدكتوراة مختلفا ومفعما بأمل من نوع مختلف. كان الفضل لهذه السيدة ان تمنحه لى، هى وابنتها يدرسان معا، وتتشاركان قلق ليلة الامتحان معا، وابنتها تحلم بمستقبل لها، والأم تدفعها لهذا الحلم بمشاركتها مقعدًا لجوار الابنة.

وفى موعد الاختبار الثانى كانت السيدة «راندا على» صاحبة فضل التثبيت فى مواصلتى لهذه التجربة، تتحدث لابنتها وكنت أجاورها بحكم توزيع أرقام الجلوس فى اللجنة، أرقبها وهى تراجع مع

ابنتها قبيل لحظات من بدء الاختبار، ولا أعلم من يمد الآخر بالطاقة أو الدافعية؟.. من يبدد من الآخر رهبة ورقة الأسئلة ومرور مراقب اللجنة، هل كانت الأم تمارس دورا مضافا لدورها فى الحياة داخل لجنة اختبار قسم علم النفس؟... أم كانت البنت أو الفتاة هى من بادلت الدور ومنحت أمها سكينة نفخت فيها من روحها الصغيرة...وقد راعنى المشهد فكنت أسبح الله.

اليوم اعلن أحد أصدقائى عن وفاة طالبة منتسبة للقسم من أصحاب المؤهلات العليا، شيء فى نفسى قد قبض، ترددت فى السؤال عن صاحب النعى، قال صديقى :هى سيدة التحقت بالقسم لتكون بجوار ابنتها، زاد ألم لا أعرف مصدره، قال لى الصديق: هى سيدة طيبة تدعى «راندا على»...نزل اسمها على سمعى كطرقة أصابتنى بالدوار، إذ شعرت بالتقصير كونى تأخرت فى شكرها على صنيع الأخوة النبيلة الذى فعلته بنصحها لى، وأن دينها لم أستطع سداده، جاست فى نفسى آلام لم أدر ما مصدرها. تساءلت عن مصير الابنة التلميذة التى باتت لطيمة الأم داخل لجنة الامتحان بلا معزز ومثير للدافعية أو يد ستربت على يدها لتشعرها بانعدام القلق والخوف.. صارت لطيمة بلا أم، بعد أن ماتت الست راندا والتى أحمل دينًا فى رقبتى تجاه كلماتها معى. ومنها تعلمت قيمة أخرى لمعنى فعل الشيء دون النظر لتوجهات آخرين، معنى آخر لتضحية أم قررت أن تتشارك لحظات التركيز والاسترجاع والقراءة وقلق ليلة الاختبار بهدف مشاركة ابنتها. تعلمت معنى جديدا لفهم الأمل بمعنى ومضمون ومحتوى مختلف.

.. رحم الله هذه السيدة وألهم ابنتها صبرا تستطيع به تحمل فراق الأم ورفيقة الرحلة ولجنة الامتحان، ولعلنى بما أكتب أهديك أيتها السيدة، قدرًا من حقك، وقدرًا من رفعة تليق بك، كطالبة علم حق عليها قول رسول الله «من سلك طريقًا يلتمس فيه علما سهل الله طريقه للجنة »...لذا أستسمحك عزيزى القارئ أن تهديها الفاتحة رحمة ونورا وهدية تصلها بمقر نومتها.