عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الأربعون

بوابة الوفد الإلكترونية

 فى البحث عن سبب!

هكذا تستشعر الآن... شيء ما بداخلك يعاد صياغته... نسيج ما تبدأ حياكته من جديد.. ثمة حاجة بداخلك تدفعك للعزلة بعض الوقت بل كل الوقت، لم تعد تتحمل الضجيج.. صوت الصبية... حديث الزوجة ممزوجًا بالشجن تارة والثرثرة تارة.. صار بداخلك حمل ومخزون كافٍ من الامتلاء فلم تعد لتستطيع سماع شيء.. صرت الأقرب لأن تكون بعيدا فقط.. تختلى بنفسك دون معرفة سبب هذه الخلوة.. فقط دعوة لتأمل ذاتك التى باتت شبه غريبة عنك.. ثم صارت الضحكة مقتضبة.

قال أحد العارفين لمريده.. صارت الأمور مقتربة من حد النضج والاستواء.. يلزمك بعض الثبات، اللغز تبدأ تفاصيله فى التبدى والظهور، لغز الاقتراب من الرقم أربعين.. نبى الله موسى صام أربعين يوما، ونبى الله محمد صلى الله عليه وسلم أتته الرسالة فى عمر الأربعين.. هنا مرحلة الاختمار أيها الرجل...

غريب على الشيخ أن ينادى مريده هذه المرة بلقب الرجل رغم أنه اعتاد أن يناديه بالفتى.... ثمة شيء أو أشياء تدفعه لأن يكون ملتزما بالصمت على غير عادته متحاشيا الناس والالتقاء برفاق جمعهم الحلم والأمل والوطن.

اندهش الرجل الذى كان منذ أيام فقط فتى.. قال له الشيخ: «حاول أن تصمد.. لن أستطيع معك هذه الفترة أن أقدم لك يد العون، الحياة محطات، هذه المحطة تستوجب منك أن تكمل السير منفردا، وكل شيء بقدر، وتعلم أن تتأدب مع أقدار الله»

الحق أن الرجل لما سمع كلام الشيخ دب حزن من نوع غير أليف لمستقر نفسه، خشى أن يتوه أثناء محطته التى هو فيها، كاد أن يتوسل للشيخ أن يبقى معه، لكنه أجابه بجملة واحدة: «لتكمل المسير وحدك... دون معين أو سند». صارت روحه بعد كلام الشيخ مغلفة بالوحدة.. وحدة زائدة على مفهوم الوحدة والوحشة التى يعرفها.. كل ما يعرفه الآن أنه صار يتيما فعليا وهو على مشارف الأربعين.

< هو="" أهداها="">

جاءته رسالة نصية على هاتفه «شكرا لانك أهديت قلبى الحزن يوم مولدى»... استشعر غصة فى نفسه، أخفى أن يداريها، قرأ الرسالة فبدت حروفها كنصال مدببة تسعى لنحر بعض جسده، بات يفكر: «ما بوسعه أن يقدمه لها فى ليلة ميلادها ؟»، كان يمتلك بداخله مساحات يانعة من الحزن، أكسبت ثمار روحه انحناءة إثر نضج المحصول، بات يتساءل «ما عساه أن يقدم لها ؟»...لعينيها حزن دافئ يتسرب إلى قلبه فيشعر بخيبة أمل وهزيمة تعادل هزيمته فى الحلم والأمل، كانت أمنيتها أن تلتقيه بثوب موشوم بأزهار وسنابل وعصافير تصدح، قالت له:«معك أود إطلاق سراح حزنى وفك أسر حدادى » لكنه لم يستطع ترجمة رغبتها فى التحليق معه صادحة خالعة ثوب حزنها، ما يدركه فقط هو عينها التى بلون العسل الجبلى، ثم ضحكتها الطفولية، ثم حزن يكسو هذه العين بدثاره، فتصبح فتاة يتيمة لم تبلغ الحلم بعد..هو ايضا خاب فى مهمته أن يهدى قلبها البسمة، فأحس بأن ثمة دينا ثقيلا فى رقبته لا يستطيع سداده، هو أيضا لم يعد يشعر بالسلام فى وجود أحد، صار محبا للصمت ومتلهفا دوما للجلوس بمفرده ومشاهدة حراك الناس دون مشاركتهم بأى شيء.

الحق أنه تسبب فى ألمها كثيرا، هو الآن ليس بحاجة إلى اعتذار مكرر، صار يستشعر فشل مهمته فى البقاء جوارها، لا يعلم شيئا سوى أنه سيحاط بحزن أكبر إذا خسر قضيته فى بقائها إلى جواره، كونها مصدر الدافعية والمدد الإنسانى لما مر به عبر سنوات مضت.. لذا هو يعترف بالفشل، محاطا بكل أصابع الاتهام أنه أهداها الحزن يوم مولدها ولم

يفلح أن يرافقها بثوبها الذى يحمل زهرات وسنابل وعصافير تحلق بأجنحتها وتصدح.

ما يذكره فقط حين عانقها على النهر فى البلد التى تقع فى شرق القارة البعيدة، كان عناقًا بين معذب وحيد وسيدة تمتلك مفاتح الأمل، ذابت الشفتان فى قبلة بطعم شهى، غاب هو عن المكان والزمان، دس وجهه باكيا مثل طفل تائه بين صدرها، هى احتضنته، قالت هامسة له: «أنا بجوارك.. لن أتخلى عنك... ثق أنى إلى جوارك» ربتت على ظهره، ثم أدارت راحة يدها جهة وجهه وقرأت آيات من كتاب الله، استشعر بخدر يسرى فى جسده، أغلقت عينه على ملامح وجهها وسكنت روحه لذلك العطر الذى كسا حضورها..فى اليوم الثانى من بقائهما فى الفندق المطل على النهر، تعارك الجسدان فى عنف، سكب فيها من وجعه، تفتحت براعم من الزهر على صدرها، استشعر فقط أنه يصب من ألم ينبع من ظهره فى مستقر جوفها، لربما كان يجأر أو يصرخ.. لكنه سكب من حزنه الموحش بداخلها، فاندهش لما أثمرت بساتين من البهجة والنشوة على وجهها.

.... هو اليوم أهداها الحزن فى يوم ميلادها... هذا ما قدمت يداه لها، لذا يستشعر الرغبة فى انسحاب مناضل مهزوم، لم يعد لديه بذور البهجة القديمة ليغرسها بروحها، مكتفيا بتموجات حزنه يحملها بمفرده... قالت وهى تودعه: «ربما كان فراقنا يوم إتمامى الأربعين».

< صديقه="">

لما ضاقت به نفسه، حادث صديقه النوبى، بشرته السمراء التى لا تكتسى زيفًا أوهجينًا، الدكتور محمد على بك، قال له ذات مرة:«أنت الكاهن النوبى» ولما سأله عن سبب تسميته، أجاب: «جميع المخطئين يلقون بأخطائهم وخطاياهم إليك، لتمنحهم صك التبرئة».... لكنه كان رحيمًا بحاله، فى الآونة الأخيرة زاد عنده ارتفاع ضغط الدم، قال له: «يا صديقى النوبى.. كف عن الاستماع لاعترافات المخطئين من البشر.. روحك تم تجريفها كثيرا واحتفظ ببعض الطاقة لنفسك وعيالك وزوجتك التى تحبها».

هو يرى فى صديقه النوبى المثال الخام لابن آدم الذى من نسل هابيل المقتول لا قابيل القاتل، كان بحاجة لأن يسكب ألمه فى حجر صديقه، لكنه أشفق عليه.

التقاه... حاول أن يخفى حزنه، يواريه، لكن النوبى صاحب القلب الأبيض استشف جراحا فى الروح، حاول أن يمده بمسارات طاقة مغايرة تبعث فى روحه طمأنة، ربت على يده، ثم سأله:«كم تبقى لك من الأيام لتكمل الأربعين يا رجل ؟!».