عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

إبرة وعروس من ورق

بوابة الوفد الإلكترونية

غرست السيدة التى ذقنها موشوم بخط طولى أخضر وعدة نقاط على الجانبين إبرتها فى عين العروسة الورقية التى قصتها بيديها وفرغتها، ثم قالت بصوت مسموع انسكبت تنغيماته فى أذنى «هذا لعين الحسود رأته ولم تصل على النبى العدنان». ثم أخرجت الإبرة وغرستها ثانية فى قلب العروس الورق وتمتمت بصوت خافت تبدت نبرته واهنة «وهذى لعلة الفؤاد وجوى المحبوب، يبرأ بسر اسم الله العظيم»، انتفضت من فرشتى كأنما رعدة تملكت أوصالى، صرخت مناديا «فاااااطمة»، غرست السيدة العجوزة المتهدل جلد وجهها الإبرة ثانية فى قلب العروس وأكملت : «وأصبح فؤاد أم موسى فارغا»، انتفضت ثانية كأنما زلزال ضرب بأوصالى فرفعنى من رقادى وأعادنى بخبطة على رأسى إلى مرقدى.. ثم بكى الفتى، جاءت فاطمة تحمل واجب ضيافة المرأة، قالت السيدة التى حملت خرجها -«حقيبتها اليدوية» -على كتفها: ابنك قلبه موجوع يا فاطمة. ثم نظرت لفاطمة بعين جامدة.

- ودواه يا ست ايه؟ قالتها فاطمة للسيدة التى بدت كظل يتحرك بلا ملامح، زفرت السيدة تنهيدة احتلت غرفتى، ثم انفرجت شفتاها وقالت: «ابنك مصاب بوجع الوطن يا فاطمة...قلبه محموم بالمحبوب يا فاطمة»..

كل أربع سنوات يفد إلى قريتنا جمع غفير من رجال ونساء بعضهم وبعضهن تعرفهم القرية وأهلها وآخرون من دونهم ودونهن لا نعلمهم أو نعلمهن، تأتى وفادتهم مصحوبة بأعلام ورايات براقة تحمل صورهم وصورهن، يعلقها الصبية على جدران منازل الطين فى القرية وعند خزان المياه وعلى مقربة من محطة الكهرباء، تزدان القرية كل يوم بمصابيح النيون الملونة، أرقب الزينات وتوافد الرجال وخلفهم صبية القرية الحفاة يسيرون وراءهم ثم يهرولون حولهم مقتنصين الفرصة فى اختطاف بعض قروش تلقى لهم من نوافذ سيارات الرجال الغرباء، أرقب انحناء الصغار وأنا ممدد على السرير خلف الشباك الحديدى، أرقبهم دون حديث أو قدرة على الحراك أو الابتسام.

ذات مساء أقام الرجال الصوان على مقربة من الشباك الذى أرقب العالم من خلفه، صعد رجل ببدلة أنيقة ورابطة عنق، وخلفه صورة مكبرة له وهو يرفع يده كأنما يحارب بها أعداء الوطن ويتعهد بملاحقتهم، على زوايا الصوان المربع نصبت أعلام الوطن، تحدث الرجل عن الفقراء فى الوطن وأنه سيلبى نداءهم ومطلبهم، وانه أتى خصيصاً للبلدة كى يستمع لشكاوى من ليست لهم الحيلة عند أولى الأمر، قال إنه سينوب عنهم، وإنه يتألم لحالهم، وإنه يعاهدهم على قضاء حوائج العباد إذا اجتاز المنافسة، وصرخ بأنه سيحمل مظالم العباد تحت قبة برلمان الوطن... فى كل مرة من سنوات الكون الزمنى، يأتى إلينا مثل هذا الرجل وآخرين على شاكلته، يظل يصرخ ويهلل، ثم سرعان ما تتبخر أحرفه وكلماته ولا نراه قادما إلا فى الأعياد وربما خلف موعده ولا يأتى.

أتت فاطمة بالطشت النحاسى الأصفر، وضعت سبع حبات من اللبان الدكر وسبعاً من أوراق الغار، وقرأت فاتحة الكتاب، بكت فنزلت دمعاتها داخل الطست مختلطة بورق الغار وماء الورد، فقط أرقبها ولا قدرة لى على الحراك أو الحديث، ثم أقدمت بخطوتها تلك السيدة مرة أخرى، نما بعض الزغب القليل فى وجهها، ولا يزال الوشم على ذقنها، وضعت خرجها القماشى لجوارها، ثم أخرجت العروس الورق مرة ثانية، لكنها أعادتها بحزن لكومتها القماشية، قالت: «الضنى عليل يا فاطمة... وجعه مكمنه القلب، ومجمعة فؤاده بعيدة المنال، وجع وطنه أعياه، دعا الفتى يا فاطمة ينعم بأيام هادئة قبل سفره وترحاله»...ضربت فاطمة بيدها على صدرها: «الواد هيروح منى يا ست فرحانة».

الرجال فى بدلالتهم الرسمية وربطات العنق يطوفون أرجاء بلدتنا، سيارات تسبقهم بمكبرات للصوت، تمنى الفقراء بغد أفضل وأصحاب المظالم برجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، امتلأت المساجد بالرجال الغرباء، قال أحد الرجال المارين بجوار نافذتى على العالم... «الراجل أبوعيون ملونة جاى يوزع فلوس» فتبعه جمع من الرجال والنسوة، أضحت صور الرجال تبطن جدران الطين داخل بلدتنا، فكأنما كانت طلاء بوجوه هؤلاء الذين لا نعرفهم.

أذّن فجر مسجد العارف بالله والذى يتوسط قريتنا، شعر الفتى بأن ماء انسكب على وجهه، قال المؤذن «الله أكبر الله أكبر» سرحت يد لجسم من نور على صدرى وصوت يصلنى «يس»، استشعر الفتى أن سريانا من نور تدفق لشغاف قلبه البشرى، سرحت اليد إلى صدرى قال الرجل الذى ملامحه من نور «إنا نحن نحيى الموتى ونكتب ما قدموا»، سرت فى الجسد الممدد حركة لم يألفها الفتى لسنوات، استشعر برودة أصابع قدمه اليمنى، تحركت اليد إلى رأس الفتى «سلام قولاً من رب رحيم».. فتح الفتى عينيه، استشعر أنه قد خبأ وطنه بداخل قلبه، خلع نعليه، قاصداً البراح.