رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

بريد الوفد.. حظر تجوال

بوابة الوفد الإلكترونية

خلا الميدان الأحمدى من كل الأشياء والأصوات باستثناء رجل مجذوب يتدثر ببطانية قديمة وقد ركن إلى سور مسجد سيدى محمد البهى، عقارب الساعة تشير إلى حدود العاشرة من الليل، متاريس حديدية وضعت أمام مطلع درب التراسين، بعض من أفراد الشرطة فى ملابس مدنية وآخر يرتدى زيا شرطيا يغطى رأسه بكوفية وقد بدا أنه يعانى من رجفة برد يقاومها. مهيب شكل الميدان الذى لم تتوقف فيه الحركة ولا الأصوات على مدار الأيام الماضية. أضواء متقطعة حمراء وزرقاء تكسو المكان عقب مرور سيارة دورية مارة تتفحص الطرقات الخالية. لا يزال المجذوب فى بطانيته متدثرا ومنكمشا، يحرك شفتيه بينما لا ينطق بصوت كأنما يناجى أحداً لم أره أنا ولا أفراد خدمة تطبيق حظر التجوال.

< انتظر="" يا="" أستاذ..="" أنت="" ماشى="" كده="" ورايح="">

< حضرتك="" أنا="" صحفى،="" أجوب="" هذه="" المدينة="" محاولا="" استلهام="" فكرة="">

< كتابة="" إيه..="" وهتكتب="" عن="" إيه="" هو="" فى="" ناس="" فى="" الشوارع="" ولا="" فى="" صريخ="" ابن="">

< يعنى..="" تقدر="" تقول="" محاولة="" استنطاق="" الصمت،="" صمت="" هذه="">

< لا..="" أنت="" بتتكلم="" كلام="" مش="" فاهمه...قدامى="" على="">

عشرات الخطوات أنا والرجل فقط، وقع أقدامنا تطرق الأسفلت فتفتت الصمت، تتبدى قبة المسجد، ولى المكان والمدينة، مظلمة القبة، الأبواب الحديدية مغلفة بالحزن، «نوبة الوباء ومخافة تفشيه» تنشر الفزع على الوجوه، الأعين تبدو للرجال من خلف الكمامات، تتساءل عن سبب قدوم هذا الرجل الذى هو أنا وترجله، فى هذه اللحظة أتوقف أمام ضابط شاب، يسألنى عن سبب سيرى، أحدثه عن مهمة عملى وهى فعل الكتابة، أبرز له هوية نقابة الصحفيين، يتأملها، يقف متحيرا، أخفف مفعول الحرج، أستأذنه فى تناول هاتفى وإجراء مكالمة تليفونية، يرد محدثى عبر الهاتف بطريقة لائقة تستدعى شكره، اللواء محمود حمزة مدير أمن المحافظة، يخبرنى أننا جميعا فى خندق واحد، وأن مهمة الصحفى والكاتب هى نقل الحقيقة وسط دوامة تناقل الأخبار على وسائل التواصل الاجتماعى، يطلب منى محادثة الضابط، ثم أعاود محادثة الرجل مرة أخرى، معتذرا له عن استقطاع مساحة زمانية من وقته، يودعنى فى لياقة لفظية، مبديا ترحابه بالاتصال فى أى وقت طالما كان الهدف هو مصلحة هذا البلد.

شارع عمر سعفان، خاليا فسيحا، لا تواجد لآدمى، أصبحت الطرقات أكثر رهبة وفزعا، واجهات بعض المحلات شح ضوؤها، بات واهنا، مثل ما تمر به هذه المدينة من حالة الوهن. قسم أول شرطة طنطا، بعض من سيارات الدورية تحيطه، مرقت سيارة إسعاف من جوارى فى اتجاه شارع المدينة الرئيسى، شارع البحر، المنفذ الوحيد لتجول الفقراء فى مدينتى.

أمامى ثلاث طرقات، ممتدة كأنما هى شقوق محفورة فى جوف المكان، ينم الظلام والصمت وانعدام الحراك فيها، عن أن أهل هذه المدينة يجاهدون من أجل إزاحة هذه الغمة، قررت اختراق شارع البورصة متوجها للشارع الرئيسى مارا بشارع درب الأثر، حيث لا أثر لأى حراك، مغلفة فرشات بعض الباعة ومكدسة على الأرصفة.

يدق هاتفى، أتخيل أنه ربما كانت مريم هى من تتصل، زوجتى التى بددت طاقتها طيلة عقد زمنى ونصف من الحياة معى، وقد أعترف أننى بددت طاقتها وروحها خلال تعقبى طيلة عملى ببلاط صاحبة الجلالة، توجسها أثناء مهام هذه المهنة، قلقها المشوب ببعض التخوف كأنما أنجبتنى للحياة من رحمها فصارت مسئولة عنى، لهفتها وقت ردى على الهاتف كأنما قد عاودت الحياة لها. لكنها لم تكن مريم.

اتصال من زميلة تمتهن الكتابة أيضاً، أرد على الهاتف، متوجسا أنا هذه المرة، ترد فى صوت به جرأة وإقدام، لم تمهلنى لمعرفة تخوفى أن تكون أزمة قلب والدتها قد عاودت وربما تطلب نوعا من الدعم، كان ردها مفاجئا لى:

- أيوه أنا قدام مستشفى الجامعة أكتب عن حادثة.

- إزيك يا أستاذة شيماء، أنا أيضاً فى الشارع.

- طيب خفف خطوتك ونلتقى أمام باب الطوارئ.

شارع البحر، بفساحته ورحابته، مسرح المدينة، أكثر من أربع سيارات للشرطة تسد الطريق، تطبيقات الحظر شديدة الصرامة، الجنود متوقفة، متأهبة، فى كامل سترتها العسكرية، الشَّدة والخوذة، والسلاح بشكل متقاطع، ذكرنى المشهد بفترة خدمتى فى الحياة العسكرية، أوقات الخدمة ما بين البرنجى والكينجى والشينجى، تقاطع السلاح وفى حال مرور قائد الوحدة، تدب بقدمك وتعطى التحية العسكرية بيدك اليمنى، متقاطعة مع السلاح، اسمه «سلام سلاح». كنت ما أخشاه فى هذا الوقت، أن تسقط نظارتى الطبية وأنا أدب بقدمى على الأرض، فتتوه نظارتى وسط رمال الجبل، وأظل طيلة الليل أبحث عنها منتظرا ضوء النهار. يقطع مشهد تأملى رنين

الهاتف مرة أخرى. الزميلة تعاود الاتصال، يبدو أنها قد تناولت مهمة الاطمئنان على، أرد على الهاتف، تخبرنى أنها أسرعت من خطوتها، وأنها الآن تنتظرنى أمام ديوان عام المحافظة، ثم تنهى مكالمتها، «أمى وصتنى عليك» أبتسم، وأجتهد فى تسريع خطوتى.

لا تزال الشوارع خالية من الأصوات والحراك، لا تواجد سوى لمخاليق أخرى غير ابن آدم، مجموعة من الكلاب الضالة تبحث عن أليف يؤنس وحشتها، يبدو أنهم اشتاقوا لمضايقة أولاد آدم وحواء، يجلسون فى صمت وحالة من التكاسل ثم سرعان ما احتفوا بتواجدى بينهم، فلم أخشَهم، كان كل منا بحاجة إلى مؤنس للآخر.

ربما فات العديد من الأعوام من لقاء زميلة المهنة، بدا بعض الكلل على ملامح الوجه، لا تزال تحتفظ بجسارتها فى التحرك، فى السير، لم تترك للزمن أن يقرر فعلها أو حراكها، أعوام كثيرة لم نلتق، أدهشتنى خفة تنقلها، بينما أنظر إليها مندهشا، وجدتها وسط مجموعة من الناس عبر هذا الصمت، أجرت اتصالا هاتفيا هى، أرقبها على مبعدة خطوات، أجدها تحادثنى كأنما استشعرت تواجدى.

< الناس="" تعبانة="" ومعاهم="" حالة="" على="" وشك="">

فجأة أتت سيارة نصف نقل تابعة للمحافظة، خرج منها رجل خمسينى العمر، بادل الزميلة السلام، ثم ابتسم ونزل من سيارته وسمح للأسرة باستخدام السيارة لنقلهم للمستشفى الجامعى.

تسألنى بجسارة: «أنت عارف مين ده؟»

- بصراحة لا

ده رئيس حى أول طنطا.. الراجل مشكورا نزل من سيارته وقدمها للحالة المرضية.

تأملتها للحظات، قالت: أحياناً يسوقنا القدر لنكتب وربما يسوقنا القدر لنجدة ملهوف، الأقدار دائما تصنع اللطف بالعباد ولا يعلم أحد من مسير لمن ومن ميسر لمن. تأملت ما ذكرته، شعرت لبعض الوقت بحكمة الزمن التى بددتها هى بحراكها. أيقنت فى هذا التوقيت أن الهرم والعجز إحساس خافت أشبه بخيط دخان ينبع من داخل الإنسان، فيكسو طباعه وحراكه وملامحه، هذا ليس له علاقة بمفهوم الحكمة الحياتية التى نكتسبها.

مرة أخرى مع رنين الهاتف، هذه المرة كان الاتصال مخالفا، الدكتور ضياء رشوان، نقيب الصحفيين بأرض المحروسة، أرد على الهاتف بتأدب واحتفاء، يحادثنى الرجل مطمئنا علىّ، يخبرنى أنه علم من الكاتب الصحفى سماح وهبة بنزولى اقتناصا لفكرة للكتابة، وأن الرجل يطمئن على أحد أفراد نقابته، حالة من البسط قد تملكتنى، فخر بانتمائى لبلاط صاحبة الجلالة، يدور الحوار فى جو من الألفة كأن الرجل يعرفنى وأعرفه وبيننا خبز وملح. يودعنى راجيا لى التوفيق مواصلا السير.

الليلة الثالثة من ليالى الحظر، طنطا هادئة حزينة، فقدت صخبها الأليف وحراك ناسها، سكون أشبه بالرقاد لكنى أراهن على عدم موت هذه المدينة، مسجد سيدى محمد خليل الخطيب، قبته الخضراء وبجوار البناية الرخامية وضع الخاتم النبوى منقوشا بحرفية «توجه حيث شئت فإنك منصور» شاعر النبى بمدينتى ينعم داخل ضريحه وسط هذا الشارع الصامت، ستتحرك السماء لنجدة هذه المدينة وهذا البلد وهذا الوطن، كرامة لهؤلاء الصالحين، دلالهم عند ربهم وحب ربهم لهم، «الناس موتى وأهل الحب أحياء.. والناس موتى وأهل الله أحياء».

دكتور رامى المنشاوى