رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

بريد الوفد..جريمة من ربع قرن

أبدأ لك به هذا الخطاب، وهو خطاب مغاير لما اعتاد عليه بابك بريد الوفد، فخطابى مجموعة من رسالات صوتية مسجلة، بدأتها لك بجملة اأنا معاقب، كى تتلمس لى العذر ولتتحمل معى قدر ما وددت أن أشركك فيه وأقصه لك،  ففى عالمنا، نحن المعاقين، نملك من الخصوصية التى لا يعرفها الكثير، حتى إن أوهموك أن الجميع يعلم عنا كل شيء فهم مخطئون، ولعلك تسألنى الآن لما ابتدأت معك رسالتى بجملتى الصادمة اأنا معاقب لأننى لا أملك القدرة على تحريك يدى أو قدمى، فإعاقتى قد شملت يدى وقدمى، ولدت بهذا الأمر، إذا تعرفت على أو سألت عنى سيخبرونك مَن هم فى محيط عائلتى أننى وجه ضاحك فقط، سيخبرونك بأننى أحمد السباعى صاحب الضحكة والدم الخفيف، هم للحق محقون فى هذا، لأنى أخفى عنهم ما يتبدى بداخلى من ألم.

 

جريمة من ربع قرن

 

ما الذي دفع هذا المشهد لأن يطفو حاليًا على سطح ذاكرتي، ملغز أمر ذاكرتنا الإنسانية، ملغز ومحير وفي كثير من الأحيان يدعو إلى تساؤلات لا يمكن للعقل الإجابة عنها، حتى إنني أيها الكاتب الذي يقرأ رسالتي الآن لا أعلم مدى استجابتك لما ستقرأه عينك من أمري، تخيل أنه فات على ما سأقصه لك وعليك ربع قرن من الزمن، تتشكل أمام عيني الواقعة بكل تفاصيلها، حيث المكان والزمن والشخوص، والمرحلة، لنتوقف هنا عند تلك المرحلة الزمنية المقتطعة والماضية من عمري، مرحلة التكوين والاختمار والطموح والحلم الأنثوي بكل براءته.

إنني ترددت قبل ممارسة فعل الكتابة إليك أيها الرجل، أخشى أن تنظر إلي كوني امرأة فقدت عقلها، أو إنني امرأة مصابة بمرض نفسي، أو ربما تنعتني بإني سيدة الآن تمر بأقصى مراحل النستولوجيا والحنين للماضي. لكنني مصرة على القدوم في السرد والحكي والحديث إليك أيها الكاتب الذي يقبع خلف جهازه الرقمي، وينظر إلى رسالتي الآن.

برأيك أيها الرجل عن أي جريمة سأحدثك، وأين كانت الواقعة بمكانها وزمانها، سأغمض عيني الآن، عائدة بزمني إلى الربع قرن الذي مضى، حيث كانت هي، ولتسمح لي أن أذكر لك اسم المجني عليها في الواقعة صراحة راجية منك أن تنشره كما هو، «........».

المكان مدرسة نهطاي الثانوية بمدينتي الأليفة والصغيرة والهادئة، زفتى، نعم كانت هي المدينة الشاهدة على الواقعة وداخل سور هذه المدرسة كانت الأحداث.

لم أكن في مرحلتي الثانوية داخل المدرسة المشتركة سوى فتاة، تصل بإيمانها الذاتي لمرحلة ترى نفسها تسير سابحة فوق السحب.

بينما هي كانت وديعة رقيقة صامتة في أغلب الوقت، متفوقة وكنا نشترك في هذه الصفة، بينما يختلف كلتانا في هوية الحراك، أنا تلك الفتاة التي تتقافز وتشارك في الأنشطة المدرسية وتتصدر المشهد الإذاعي متباهية ببراعتي في إلقاء شعر جويدة ونزار ومقتطفات من وحي القلم للرافعي، وهي تلك الساكنة داخل الصف في الفناء في الطابور المدرسي. أنا وهي.

تحضرني تفاصيل ذلك اليوم، حيث قدمتني معلمة الأحياء داخل الصف الدراسي كطالبة مستحقة لهدية كوني تميزت في اختبار الشهر، أخرج في زهو أمام طلاب وطالبات الفصل، استلم هديتي ثم يدق الجرس معلنًا عن فسحة مؤقتة تتخلل الحصص، اهبط الدرج منتشية بالهدية التي كانت عبارة عن دفتر دراسي مزركش بورود وفراشات، أتأمله طيلة الوقت، وقد تناسيت كيس السندوتشات المغلف والمربوط بإحكام بيد «فهيمة» أمي، حفظها الله لي. ثم يدق الجرس بعد دقائق لم أحسب لها، انتهت الفسحة وبنفس الزهو أعود صاعدة الدرج إلى أعلى، متخذة مكاني في الفصل الدراسي، فيتبدى درج مكتبي داخل الفصل مكسورًا وبداخله سكينة منزلية وقد سرقت كل محتوياته، وتركت ورقة بخط منمق «أنا الذي لا يمكن أن تعرفيني». ثرت داخل الفصل مع قدوم معلم الحصة الرابعة، أشرت بإصبعي إليها أنها هي الفاعلة، كل الإشارات تؤكد قولي، السكينة المنزلية تخصها هي لأننا رأيناها أكثر من مرة تقشر بها ثمار البرتقال، بينما هي لم يصدر عنها أي ردة فعل سوى صدمة الصمت والبكاء، لم تصرخ مثلي في وجوهنا ولا وجه المعلم، صارت هي الفاعلة، ولأننا في مدينة صغيرة ومدرسة مشتركة للفتية والفتيات، انتشر الأمر بين الفصول، تغيبت هي عن الدراسة ليومين، جاء والدها لأبي قال له لما تعمدت ابنتك اتهام ابنتي وهي لم تفعل ما اتهمتها به؟.. خرجت من غرفتي بلا أدب وصرخت في وجهه أن ابنته تغار مني لأن متفوقة عليها، وأن السكينة تخصها، قال الرجل: ابنتي لا تحمل سكينًا في المدرسة هي عثرت على السكينة في الفصل، ولكن لا يخصها هذا السكين المنزلي.. تركته وانصرفت واتهمت الرجل بالكذب.. بلا حياء مني فعلت هذا. وانتشر الأمر من المدرسة إلى القرية التي أسكن فيها، وصار حديث الأسر أن ابنة فلان سرقت محتويات الدرج المدرسي لزميلتها.. ومر على واقعتنا سنوات قاربت العشرين عامًا، ولأن العدالة الإلهية متواجدة غير أن أعيننا قاصرة وعاجزة عن إدراكها، وفي أثناء تواجدي بمدينة القاهرة لأداء بعض المهام الوظيفية الخاصة بعملي، التقيت بزميلة من أيام المرحلة الثانوية، نفس الفصل نفس المدرسة نفس العمر الزمني، وجدتها تضحك عقب معانقتي، ثم قبيل انصرافها ببضع دقائق.. ألقت في وجهي كلماتها ومضت..

- بالمناسبة.. فاكرة واقعة سرقة الدرج المدرسي الخاص بك.. واتهمتي فيها «فلانة»؟

- أيوه طبعًا فاكراها.. وقعدت تعيط ووكدنا نصدقها.

ضحكت محدثتي التي التقيتها قدرًا ومصادفة وبرد فعل فاتر أكملت وواصلت رشقي بالكلمات «تعرفي أن السكين المنزلي كان يخصني أنا.. لكن طبعًا ما قدرتش أقول لإنك عارفة هيقولوا بنت الدكتور «........» معاها سكينة، والذي أخذ السكينة «وفش» درج مكتبك كان «عبده السماك» الطالب المشاغب، أنا رأيته.

كان أثر صدمتي فيما حكته لي قد بدا على ملامحي، وقد حاولت الثبات بقدر المستطاع ثم سألتها، «ولما لم تخبريني وتشهدي بالحق؟».

- حق.. حرام عليك، ده كانت سمعتي هتلف البلد أني جايبة سكينة المدرسة، ثم ما الداعي لأن يكون هناك خلاف في بيني وبين هذا الفتى المشاغب.

- لكنك بكتمانك الشهادة ورطتيني في ظلم فتاة بريئة.

- يابنتي احنا دلوقت اتجوزنا ومعانا عيال.. انت لسا فاكرة.

ودعتها دون أن أعانقها. وصار المشهد بكل تفاصيله طاغيًا ملحًا على ذاكرتي فترة عودتي بالقطار من القاهرة إلى مدينتي المصغرة الشاهدة على الواقعة، حيث ظلمت وأصدرت حكمًا على شخص، وشمته بوشم السرقة في بلدة ريفية كبلدتي.

والآن أيها الكاتب أنا أكتب إليك مستشعرة ألمًا، من نوع مختلف، ألم البغي والجور والظلم، وسمعة الفتاة التي لفت البلد كونها سارقة وتلك الزميلة التي شهدت التفاصيل وكتمت شهادتها، اليوم وأنا أكتب إليك، كنت في زيارة

إلى قريتي للذهاب بأمي إلى مستشفى زفتى العام، وبمجرد التفاتي، كانت هي أمامي، تحمل سماعة الأطباء حول عنقها، تطوف بين المرضى، وأنا أرقبها في صمت وادة أن أذهب إليها راجية الصفح، غير أن حراكها أو الفعل القدري لم يتح لي هذا الأمر، كانت الممرضة تهرول إليها راجية منها أن تبادر إلى مريض العناية المركزة الذي لا يستطيع التنفس، هي جرت، تاهت وسط أكوام البشر من المرضي الباحثين عن راحة لألمهم، مضت وخلفتني وراءها بألم من نوع من مختلف، ألم أشبه بالوخزة التي تأتي في الصدر، ألم حاولت جاهدة البكاء لكني لم أستطع، وكأنما هي بظلمي لها قد حبست أدمعي وقيدتها فلم تمنحني فرصة التفريج عن النفس بالبكاء....

< الأستاذة="" العزيزة="" صاحبة="">

قرابة ربع قرن من الزمن، بالمفهوم المصري والعامي، «تأبيدة»، أطلقتي فيها تهمتك التي لفت ربوع قريتك بداية من الفصل ثم باقي فصول المدرسة وطلابها، ولأنك مثلما ذكرتي تنتمي إلى مدينة ريفية صغيرة، فإن الأمر انتشر بالتشهير والقذف في حق فتاة نالت منك اتهام بالسرقة، وكان الدليل هو دليل مطموس، ولكن لأننا من بني البشر فإن إشاعة بسيطة بنيت على باطل كانت قادرة أن تطوف بلدتك وتتسرب إلى كل بيت، فما كان من الفتاة أن أرسلت والدها؛ ليوقف سيل الألم الذي أصاب كبد ابنته، في حين أن الحقيقة ظلت مخفية.

وأنت لم تتوقفي عن صلفك وزاد الأمر باتهامك لابنته بأنها تغار منك لذا أقدمت على الفعلة التي هي منها براء.. فقتلتي نفسًا بغير حق. قتل من نوع مختلف. لكنه قتل خطأ، قتل لم تتعمدي فيه الإيذاء، قتل اندفاعي، لكنه قتل. وشاركك القاتل الحقيقي، تلك الفتاة الأخرى التي أخفت وكتمت الشهادة، جبنًا وحقارة منها بأن يذاع في البلد أن السكين المنزلي يخص ابنة الدكتور فلان، مهزلة عبثية، أن يوضع انسان في قالب اتهام مخافة أن ننسب لأنفسنا سكينًا منزليًا لتقشير ثمرة البرتقال.. لكن هناك قتل، اشترك فيه قاتلان أنت وزميلتك، قد يخيل الأمر للبعض كونه تفاهة فتيات في مرحلة المراهقة، لكن الأمر في حقيقته مأساة أم، تربي جيلًا، فأخالني أرى زميلتك صاحبة السكين وهي تربي طفلها الآن على مفاهيم كارثية، مفاهيم الأنانية والانتهازية والخسة والحقارة وكتمان الشهادة طالما أن الأمر لا يخصه، لكني أذكرك بميزان آخر للعدالة متواجد حتى ولم نر كفتيه.

وأنت بصحبة أمك داخل المستشفى وجدتي الطبيبة المظلومة والطالبة وقتها المجني عليها، ولو أنني مكانك ما تقهقرت لحظة أن أذهب إليها وأقبل رأسها أمام الجميع ويدها أيضا، طالبة منها الصفح على فعل القتل الذي مارسته أنت حتى لو لم يكن عمدًا، «ومن يكتمها فإنه آثم قلبه» وإن في الجسد مضغة بالتعبير النبوي إذا فسدت فسد الجسد كله، فإذا كانت زميلتك الكاتمة للشهادة قد أثم قلبها، وإذا كان القلب هو المضغة محور ولبنة فساد وصلاح الجسد فعن أي أنسان نتحدث، بالتأكيد نتحدث عن روح فاسدة وجسد فاسد، طالما أخذنا في المعادلة معطيات القول القرآني والقول النبوي. ليت الدكتور فلان استطاع تربية ابنته تربية فيها من الجسارة أن تعترف بالخطأ، لكنه رباها أن تعبد المجتمع لا تعبد الله، تخشى كلام الناس ولا تخشى قتل نفس دون أن تتورع عن نجدته.

أما بخصوص طلبك أن أذكر اسم المجني عليها الطبيبة المظلومة فهو أمر لا يمكن أن تتخذي فيه أنت قرارًا، فيكفى أنك قتلتها مرة، فالعدالة تقتضي أن تعرضي الأمر عليها، ومن ثم توافق هي أن ينشر اسمها داخل هذا الموضوع أم لا، أم أنك أيتها السيدة قد نصبتي نفسك في المرتين قاضيًا، مرة تحاكمي وتصدري قرار الإعدام المعنوي ومرة أخرى تطالبين بحسب مزاجك أن يتم إشهار الواقعة وفتح وإعادة التحقيق واستدعاء الماضي والمجني عليه.

ليس أمامك سوى خيار واحد عادل، - أنا أعتذر لأن تيمة العدل هنا ستكون قاسية- لنقل هو الأقرب إلى العدل لا العدل نفسه، أن تفتشي عن تلك الطبيبة، تسألي عن عيادتها أو منزلها، وتتوجهي إليها طالبة منها الصفح، الغفران، استعدادك لفعل أي شيء مهما يكن هذا الشيء لتفعليه، تكفيرًا عن خطيئة القتل التي ارتكبتها، شاءت الأقدار أن تجمعك أنت وأمك المريضة لتكون هذه الطبيبة هي معيار الرحمة لتسكين آلام أمك.. ولا أعلم أي درس يريد القدر أن يلقنك إياه؟!