عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

بريد الوفد..الطريق الى السيدة

بوابة الوفد الإلكترونية

وسط القاهرة، ليلة لم أنم فيها وإن حاولت بكل الجهد, بيد أن النوم عزيز وبخاصة فى اليوم الذى يكون باكره قرارًا أو لقاء به بعض الاختيار بين حياتين، يكون العقل فى هذه الليلة أشبه بماكينة طحين لا تكف لا عن الحراك ولا الأزيز، ثم ينتهى المطاف بشروق الصبح متنفسًا ليوم جديد، أرقبه على مهل من أضلع شرفة حجرتى.

قرار السفر، أو شئت أن تسميه الاغتراب، بينما أنا أسميه بين نفسى الاعتقال مقابل حفنة من الأموال تتبدل بعملة الوطن مضاعفة، بلغة الأرقام مضاعفة لكنها بلغة المحتوى مضاعفة فى الربح والخسارة، أنت لا تعدو سوى بضاعة يفرزها صاحب العمل ومسماه بلغة ديارهم الكفيل، يفرزها على مهل لينتقى أجود ما فى أوطاننا من بضاعة. ثم يبدأ فى التفاوض على سعر جهدك وأراها بقلبى سعر روحك.. «وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين».

أطفأت محرك السيارة، تخنقنى رابطة العنق، هيأت نفسى للقاء، شطبت من دفتر عقلى كل ما قرأت حول الهوية، هويتى كرجل يمتهن هندسة الماكينة، المقابلة هى لمهندس ميكانيكا باور ينقب فى أعطال الأجسام الجامدة لعلها تعود للدوار مرة أخرى.. حسمت الأمر كونى بضاعة تملك لسانًا، يلتقيك رجل يرتدى عقالًا وجلبابًا، سيتحدث معك فى كل شىء، ثم يفاوضك فى الثمن.. ثمن روحك.

نزلت من السيارة مستسلمًا لشاب يبدو من لغته الرقى، استلم منى السيارة باحثًا عن مكان فى نطاقه ليضعها صفًا بعيدًا عن شرطة المرور، بينما أنا أتتبع الفتى مخافة أن يختفى بركوبتى، وما إن عاد تنفست منتشيًا، مستلمًا مفاتيح سيارتى، محاولًا تنظيم حراك الشهيق والزفير، متأهبًا للعرض فى فاترينة الفارين من الوطن للمنفى الاختيارى، وإذ بصوت من الخلف ينادى.. يا بشمهندس.. يا بشمهندس.

التفت، محاولًا تجميع المشهد، بينما حفنة الأوراق تكاد تتناثر من قبضة يدى، لم تغيره سنوات قاربت العشر، ازداد نحافة ووسامة، التقانى، معانقًا روحى، كأنما بثنى المكان القريب والواقع فى حرم دائرة أم العواجز والحيارى السيدة زينب ألفة ورحمة ورأفة بالوافد، جذبنى من يدى وأجلسنى على مائدته فى المقهى الذى كان جالسًا فيه، سارع بطلب قهوة لى، بدا فى الحديث حميمية، وأنا مندهش لأدبه الجم رغم سوء أدبى معه فى حوارات شتى من قبل حول الوطن والهوية وأولى الأمر، خجلت من نفسى وهو يبادلنى ذلك الترحاب الصادق والألفة التى كنت فى أمس الحاجة إليها.

وجدتنى أضحك بشكل ملحوظ وهو يسألنى سبب الضحك، قلت بصوت مرتفع: «الكاتب الكبير شريف مهران يلتقى غريبًا مثلى فى القاهرة ويضيفه».

قال بنبرة فيها تراحم: وهل هذا ما يضحكك؟

أجبت: فى الحقيقة لا.. لكن غرابة تصاريف وخطوط القدر، هل تذكر لقاءنا فى وسط القاهرة منذ عشرة أعوام.. كنت أجالسك وأستفسر منك عن رأيك فى عرض سفر قدمته لى أحد المصانع فى الخليج؟.. أتذكر إجابتك لى؟

قال: ياااه.. فاكر وأخبرتك أنك لا تصلح للخليج، وأن معاناتك ستكون أكبر بكثير مما ستحصل عليه من ريالات.

قلت: وأنا الآن فى موعد مع السفر مرة أخرى رغم إنى ذهبت لتلك البلاد لثلاث مرات وفى كل مرة كنت أصرخ بالفكاك.

رغبت الاعتذار عما بدر منى فى مناقشات ماضية، لكنه كان رحيمًا بى، لم يمهلنى لحظة الاعتذار، بادرنى هو: «كنا نختلف حول الوطن وسفينته ومرساه، وكنت قاسيًا فى ردودك»، لغته لا تزال متمسكة بأصوله، بورسعيد والسمسمية.

شريف مهران، التجربة العملية الناجحة، الكاتب الذى عاد مصرًا على النجاح، منتقلًا بين كل التلال محاولًا الصمود، كنت أتأمله، بعينى مستمعًا لكلامه ويود لسانى أن ينطق بسؤالى الذى عاودته من قبل: «هل التقيت بسلامك النفسى وصافحته؟!

يتحدث كاتبنا كإنما التقى رفيقًا من زمن مضى، رفيقًا شاركه الحلم والثورة والأمل فى وطن نتملكه, غير أن الرفيق اليوم التقاه مصادفة ليعلن له نيته فى عرض نفسه بضاعة بغرض الرحيل.

قبض على يدى بحرارة، طلب منى فى رقة إنسانية يصحبنى إلى مقر الجريدة التى تبعد خطوات عن مقهى جلوسنا، ربما استشعر حاجة مسافر مثلى من مدينة إلى العاصمة إلى مكان يغتسل فيه ويمس رأسه بالماء، ربما أراد أن يعيد هويتى المطموسة مرة أخرى، كمعادل الطبيب النفسى مع مريض فقد الذاكرة، التنقل بين صفوف المحررين، صرخات مدير التحرير للحاق بالطبعة الأولى، هرولة محررة بترجمة خبر من القسم الخارجى ليحتل الصفحة الأولى، كنت بين الصراع والمواجهة، مواجهة الهوية وتعمد قتلها مع سبق الإصرار والترصد، كنت أجهد فى سحب يدى، الصراخ فيه كونى منحت نفسى حقنة للتخدير، هيأت نفسى كونى بضاعة بلسان تعرض نفسها.

استقبلنى موظف استقبال مكتب السفريات، وجه بارد، جمل محفوظة غير منمقة، مؤلم ذلك المشهد، العديد من الأسئلة تدور وأنا التقى تلك الوجوه المعذبة والتى تحمل نفس هويتى، رجال من أعمار جاوزت الخمسين، نفس السؤال القديم.. هل فى العمر بقية لطموح مادى؟.. الوجوه يكسوها عرق الترحال، أغلبهم وافدون من محافظات شتى، رحلة البيع البشرى تبدأ من هنا، سلة القمامة مليئة بورق المناديل، الكل يتهيأ للدخول بوجه خال من العرق، يؤلمنى مشهد العرض، بينما التساؤلات فى سبب الرحيل تستفز عقلى، وسؤال يستقر بذهنى حول هويتنا والجانى لاغتراب هؤلاء عن أفراخهم وصغارهم وبناتهم، قاسية هى الغربة، وقاتل فعل الابتعاد.

لعلنى فى تلك البلاد أجدنى متوازيًا ومتشابهًا مع

هوزيه ميندوزا بطل رواية ساق البامبو للكاتب الكويتى سعود السنعوسى، هوزيه الشاب النصف فلبينى والنصف كويتى، خطيئته الكبرى أن ملامحه آسيوية بعين مسحوبة، يحيا فى ديار أبيه بأوراق هوية تنتمى للأرض، بينما فى داخله يكمن اغتراب كبير وعذابات شتى، ابن الخادمة، أنا أيضًا أحيا فى هذه الديار كونى ابن الخادمة، بين هويتى العربية التى تحمل هوية أهل الديار وبين الكفيل رب العمل ورب المال ورب الرضا، حيث لا يمكن لك أن تأتى بزوجتك إلا بورقة ممهورة بتوقيعه ولا أن ترى عيالك إلا بذلك التوقيع، والهوية واحدة، حيث يجمعنا مسجد واحد متساويين فى الصفوف فقط أمام الله لا أمام أنفسنا، فجميعنا فى هذه الأوطان نلقب بلقب واحد «محمد» البنغالى يناديه من يرتدى عقالًا بمحمد، المصرى محمد، الفلبينى محمد السورى محمد والفلسطينى أيضًا محمد، كإنما استنطقوا مدلول هذا الاسم ليجعلوه سمة وصفة ولقبًا للعبيد الذين لا يحملون هوية تلك الأوطان، والأغرب فى تلك الديار أنهم يطلقون على أنفسهم حماة التوحيد والمدافعين عن الإسلام والمسلمين.

وجدتنى أسير متثاقلًا باحثًا عن مقعد لمراقبة الوجوه وتأمل تلك الملامح الفارة من وطن يحملون هويته، لكنه- الوطن- غير قادر على استيعاب آمالهم وتستير البنات، بضع ساعات وألتقى كفيلى، بضاعة تتحدث لمشتريها، تحاوره عن سر النهوض بالتعليم، لا شىء يدعو للثبات فقط يدعو للسخرية من داخلك، عليك أن تصدق نفسك، تشارك فى الملهاة بدور الأستاذ الجامعى الذى سيقدم لوطننا العربى نهضة على مبارك ورفاعة الطهطاوى، فقط تأدية الدور ببراعة، بينما فى التجربة الفعلية عليك أن تتناسى كل ما قلته، ستكون صبيًا صغيرًا، مهارتك الأولى هى التكيف والتلاؤم والموائمة، مصطلحات جان بياجيه، اللعين الذى لو علم أن كلماته التى تكمن فى متن النظرية ستكون سمًا لتسميم نفسك ما رحب بترجمتها للعربية، حيث حرفنا المصطلح عن مدلوله، فيكون التكييف وفق مناهج أشقائنا أن تكون مطيعًا فى الصواب والخطأ وتعمل ما يطلب منك سواء سيفيد أم سيكون مصيره حفنة أوراق مكدسة ومؤرشفة، والتلاؤم أن تسير وفق التيار والأفضل أن تكون شبيهًا بزيهم وشكل عقيدتهم التى يرون فيها العقيدة الوحيدة الصائبة وما دونهم شركيات تخرجنا من الملة، من الأفضل أن تتلاءم فتترك لحيتك وتحف شاربك وحبئا لو ارتيدت شماخًا «غطاء الرأس نسميه بالمصرى شالًا خليجيًا» وثوبًا «جلبابًا أبيض»، وإذا ذكر أمامك الحسين لا تترضى عنه، خوفًا أن تتهم أنك من عبّاد القبور، والمواءمة أن تصير بلا لون ولا طعم.

ينادى الشاب على الأنفار، عفوًا المتقدمين لعقد المقابلة، البعض يسترق نفسه خلسة ليشعل سيجارة فى نهاية الممر بعيدًا عن الأعين، نسيت أن أقول لكم: إن مواطنى هذه الديار ينظرون للمدخن نظرة أشبه بالزانى، لذا من الكبائر أن يعرف أحد أنك تمارس خطيئة التدخين.

أخرج سيجارة من علبتى وأشعلها ولا أعلم سر فعلتى لعلها رغبة فى ثورة سلمية عن طمس هويتى، يدق الهاتف، مرة أخرى يعيدنى إلى هويتى، الكاتب المرموق شريف مهران.. يضحك فى الهاتف ضحكة جهورية، يقول لى: «وأنا أقلب فى هاتفى ومعرض الصور وجدت صورتك محمولًا على الأعناق وتهتف ونحن وراءك».

ابتسمت فى نفسى، وجدتنى أغادر المكان، يصرخ شاب الاستقبال: «يا بشمهندس مقابلتك بعد 10 دقائق».

أقول له: «اشتقت لزيارة ستنا السيدة زينب سأذهب للصلاة هناك وربما لا أعود».

ترقبنى الأعين التى تتباهى بطول لحيتها وحف شاربها، اسمع مصمصة بعض الشفاة.. أترجل السلم باحثًا عن أقرب طريق لرئيسة الديوان، حيث الطريق إلى السيدة.