رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

بريد الوفد..الطبيب الانسان

بوابة الوفد الإلكترونية

ما أذكره أننى نمت فى ساعة غير متأخرة من هذه الليلة. وهذا على غير عادتى. انتابتنى حالة من القلق على والدتى وهو أمر استبد بى فى ضرورة السؤال عليها بشكل ملح والاطمئنان على صحتها. حتى بدا الأمر مريبا بعض الشىء.

- مالك يا بنى فيك حاجة مخبيها؟

- لا يا أمى جاى أقعد معاكى شوية.

كنت أعمد الفرار من عينيها بانشغالى فى العبث بأزرار الهاتف الجوال. وبعض الوقت أجدنى أهبط على قدمى وأقبل يديها. تلك الأم التى خلقت فقط لأجل الحزن. طافت بذاكرتى صورة وجهها. وهى تجلس بجوارى وأنا نائم على سريرى الذى لا تزال تحتفظ به. كانت تبكى وتحادث نفسها وكنت اسمعها رغما عنى وأنا طفل السنوات العشر. أحيانا كنت أتبرم من هذا العويل المستمر رغبة فى استكمال نوم طفولى حالم. ثم صرت آلفه. وصار منسوجا بلوحة نومى. فلما إن وصلت المرحلة الإعدادية كنت أستمع إليها تبكى فأستشعر أنها بعد دقائق ليست بالقليلة ستفيق لتكمل نوبة التجوال والاستمرار فى دوامة أبى. وعادة أمى هى الحديث للأموات. تحادثهم وهى مستيقظة وتحادثهم وهى نائمة كأنما باتوا أرواحاً ترونهم ويرونها هم. ونزهة أمى عزيزى القارئ هى الذهاب للمقابر والجلوس بجوار مرقد أمها. تتحدث إليها وتناجيها حتى لتأخذ هذه المناجاة وقتاً ليس بالقصير. فكم من مرة نهرها الدفانة وأصحاب مهن دفن الموتى كونها سيدة بصحبة طفل صغير وتجلس كل هذا الوقت مع الأموات. «المكان له حراس يا ستى قومى خدى العيل وتوكلى على الله».

فى هذه الليلة استيقظت مبكرا. كان صوت صديق الطفولة السيد السعيد أو كما نلقبه فى منطقتنا بشارع سيدى مرزوق بالشيخ سيد. مشروخا. جافاً آتياً من عمق مجهول لا أعرفه داخل الروح.

- رامى... أمى ماتت.

تسمرت على الهاتف. فازا من يقظتى التى انتابتنى قبيل مجىء الخبر. كأن الروح بفطرتها بداخلها جهاز التقاط أنباء واردة تحمل حالة الطوارئ. لبست ثيابى ونسيت محفظة نقودى لكنى لم أنس علبة التبغ التى التقطت منها واحدة على عجل. وركضت حيث بيت الشيخ سيد. والذى يواجه عمدة حارتنا وشارعنا سيدى مرزوق غازى. ولى الله الذى ينعم هادئا فى مسجده بينما ضريحه مزركش باللون الأخضر. غير أن الشيخ سيد متحفظ فى علاقته بأولياء الله. ومشايخه الذين يستمع إليهم يرون أن فى الصلاة بالمساجد التى بها أضرحة شرك عظيم. لذا هو يصلى فى مكان آخر رغم أنه والحق أقول لا يتوانى فى أى خدمة تطلب منه أو يطلبها منه الحاج خميس المحروق مؤذن الفجر لإعمار مسجد سيدى مرزوق. فكم من مرة أجده قابضاً على المقشة أو الممسحة ينظف أمام مدخل المسجد كأنما هناك نوع من الحب لا يجاهر به.

على عجل ذهبت إلى السيد. وما إن صعدت البناية التى يسكنها حتى كان صوت الصراخ محموماً. وعلى عجل صعدت درج السلم فكان السيد ملقى على الأرض وذراعه مجروحة بجرح عميق. جرح أفزعنى مشهده. فصرخت: «فى إيه.. إيه اللى حصل» ردت كنزى ابنة أخته «الحق ياعمو رامى... خالو أغمى عليه وزجاج الشباك وقع على إيده» حملنا سيد وتوجهنا مسرعين إلى مستشفى طنطا الجامعى. كانت الطبيبة الشابة تبذل كل الجهد لتضميد جروح لآدميين عدة. وكأنها تخيط ثياباً ملونة بألوان مختلفة. رأت الطبيبة جرح السيد قالت بصوت فزع: «لازم عمليات فوراً».. لكن اليوم هو يوم الجمعة. الأطباء ربما لن يأتوا إلا بعد الصلاة. صعدنا للدور الرابع. وجدنا حارس الأمن على عينه بقايا من نوم يلتقطه بصعوبة. حدثته عن الطبيب فأشار لى أنه يتوجب أولا الدخول إلى العنبر والاستلقاء وحجز مكان حتى يأتى الطبيب ولا يعلم متى سيأتى. ثم ترجانى بعينه أن أذهب كى يكمل بقايا نومه.

كان الشيخ سيد يروح منا فى لحظات إغماءة متقطعة. وبدأت شفتاه فى الذبول وتلونت بلون أزرق. صرخت فى السيد الذى أسير بجواره ومعنا قريب له.

- «سيد أنت فايق»

- دراعى مش حاسس بيه. حاسه هيقع منى.

أمسكت هاتفى محاولاً البحث عن سبيل لإنقاذ صديق الطفولة. جال فى خاطرى محادثة الدكتور محمد حشيش الجراح صاحب الشهرة

الواسعة فى مدينتى طنطا. قلت فى نفسى ربما أوقظه فلا تزال الساعة السابعة من صباح إجازته الجمعة. لكنى ضغطت على رقمه فجاءنى رده مثلما رسمت شخصيته بداخلى فى لقائى الأول به. صوت طفولى ناعس. وصفت له الحالة. فأخبرنى بأنه سينزل إلى المستشفى الذى يديره. وينتظرنى لمحاولة إنقاذ الموقف مخافة أن يفقد المريض كمية كبيرة من الدم فتتدهور الحالة. ثم يعاين هل القطع أصاب الأوردة والشرايين أم لا؟

قلت لسيد سنتوجه إلى طبيب أعرفه.

رد السيد: رامى إحنا مش حمل دكاترة ومستشفيات خاصة.. ثم راحت عينه فى إغماءه بسيطة. جعلتنى أحمله عنوة وأتوجه به حيث ينتظرنى الدكتور محمد حشيش.

استقبلنا الرجل بترحاب دمس رغم عدم وجود صلة عميقة تسمح بهذا الوصل الإنسانى. بل الحق إننى كنت أخشى دوماً زيارته بعدما عرفنى عليه صديقى شريف أنور. كنت أستشعر أن هذا الرجل له عالمه الذى لا يلتقى مع عالمى. لكن شاءت الأقدار أن تجمعنى فى المرة الأولى بهذا الرجل مضمدا جراح أستاذى الراحل محمد الوصيف رحمه الله. والآن يقف لينقذ ذراع سيد التى تدلت من كتفه.

كشف الرجل عن الجرح الذى أفزع الجميع. أفزعنى وأفزع أخيه لعمقه. ثم سرعان ما أصدر أوامره لمساعده بتجهيز فورى لغرفة العمليات واستدعاء طبيب التخدير وطبيب الأوعية الدموية. شهدت فى الطبيب محمد حشيش ملمحاً آخر لم ألحظه من قبل. ملمحاً طفولياً. وهو يسعى بكل الجهد لإنقاذ روح بشرية.

- دكتور محمد لو سمحت لازم نعرف التكلفة عشان نعمل حسابنا؟

- دكتور رامى تكلفة إيه.. الراجل ايده بتضيع وممكن يدخل فى إغماء

أسرع الدكتور محمد بالاتصال بأكثر من رقم. كان يتحدث بعجل وينهى الحوار فى عجل. شدنى معه للدور الثالث. أسرعت الممرضات يرتدين القفازات. فى حين أخذت فتاة الشيخ سيد لفحص عينة الدم وعمل تحاليل ما قبل العملية الجراحية.

خرج الطبيب من غرفة العمليات. أسرعت إليه لمعرفة تكاليف الأمر. لكنه قال:معظم الأصدقاء يلوموننى كونى أطلب من المريض فيزيتا بأجر متدن. لكن ليست أمنيتى ولا طموحى أن أكون أغنى رجل فى العالم. لى زوجة أحبها وقد تملكت كل حياتى أحسبها هى الزهرة الوحيدة التى أتنسم منها رحيقى للحياة. ربما لتعاملها مع أطفال التوحد أضحت بكر الروح بريئة النفس مثلهم لكنها محرابى الذى أبتهل إلى الله فيه. ولى فتى يافع رزقنى الله به. أنعم فى ستر الله. وهذا ما أرجوه. ربما تتعامل أنت مع الحالات البشرية بمخزون الكلمات. أنا أتعامل معها كشاهد على النزف والضعف الإنسانى وانهيار الجبروت المصطنع. يا دكتور رامى أنا تطوعت بأجرى وأجر المستشفى وليس هذا إكراماً لك. بل لأن الرجل والدته متوفاة منذ سويعات. والحساب سأتقاضاه من الأستاذ محمد الوصيف رحمه الله.