رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

بريد الوفد..القفل الإنجليزي

بوابة الوفد الإلكترونية

عزيزى المحرر إنما شجعنى للكتابة إليك هو الرسالة الماضية، الرسالة التى قرأتها مصادفة حين كانت الجريدة ملقاة على منضدة السفرة، وكأنما تدفعنى إليها أو شئت أن تقول أن ثمة صوتاً أشبه الأنين شدنى إلى تقليب صفحاتها لأستقر عند الموضوع صاحب الصوت والإشارة الخفية «جسر الموتى».

وجدتنى أتفحصه بنهم محاولاً توقيف سريان النهجان ودفق الدم فى جسدى وأنا أقرأ، فعلى الرغم من أن دراستى وحياتى العملية لا تجعلنى أتوقف عند الأدب أو السرد الأدبى إلا أن كانت هناك وقفة على الجسر، الخلاف القديم مع والدى، كان يجهد أن يدشن فى نواتى الأولى-بذرة التكوين- حب الأدب والخيال والقصص، وتشبثت أنا بنظريتى كون الحياة ليست إلا وقائع.

أمس اتصلت بى شخصية حاملة لذكرى قديمة الثلاثين لها رونق خاص إذا مرت على أنثى تقاوم الارتباط برجل، اتصلت بى دعاء، البندقة الصغيرة فى أيام كئيبة لم تكن لها معنى من رقم مختلف عن ذلك الرقم الذى أحفظه عن ظهر قلب، بعد عشر سنوات أو يزيد اتصلت بى، تخبرنى أنها بخير. أنها علمت بعودتى للوطن وتود الاطمئنان على، كان موضوعك الصحفى هو المحرض الأول لتحريك الشجون، ثم جاء اتصال تلك الراحلة الآتية الحالية الماضية، ليحكم الحصار على رجل مثلى هو الآخر قد خطا عتبات الأربعين، الموضوع وصاحبة الذكرى، جسر الموتى وجسر الحنين للماضى حيث القاهرة وليلها ومرورى إلى جوارها وتنسم رحيقها خلسة، ثم مس يدى ليدها دون أن يعطى المخ الإشارة لطرف الجسد بالحراك، هى البريئة والطاهرة والنقية والبتول والجسورة، هى دعاء السمنودى التى أكملت على ما تبقى لدى من ثبات عقب أيام فقط من عودتى للوطن.

ورغم اعترافى لك بأنى شخص يميل للحقائق، لا يؤمن بالخيال، ولا السرد ولا لغة الكتاب، إلا أن جسر الموتى استوقفنى ربما ود أن يبقينى على درجه الخشبى فترة، يعيد ذكرى لحلم قديم، حلم أشبه بالأمانة التى بددتها، وريثما قرأت مقالك احتقرت ذاتى ووقرت وبجلت واحترمت صاحبة الرسالة التى هى الأخرى شريكة فى حالة التيه التى تلبستنى، من أين أبدأ معك؟، هل أبدأ معك بهويتى الفكرية لرجل فى مثل سنى خطا الأربعين لكنه لم ينل الحكمة والعلم ما زال؟، رجل اهتم بدراسته العملية بكلية الهندسة جامعة القاهرة، حلم بوطن ولما كفر بالحلم ارتحل إلى بلاد بعيدة، بلاد هويتها ولغتها لغة أخرى، حيث عقد ممهور بتوقيع على أرض الوطن ومن ثم شرط أخير أن تترك نفسك لمن يتفحصوك، لا تبال بالكشف الطبى، سيتفحصك الطبيب الذى يحمل هويتك ولون الوطن بكل دقة، سيتحسس ساقيك ليرى قدرتك على الصمود والوقوف فى العمل ويكتب فى التقرير أن المذكور، المذكور بلا اسم، لا يعانى من دوالى الساقين، وقبلها اجعل نفسك مستعداً لشك ووخز الإبر تمتص من دمك لكى يحلله القوم ليتأكدوا أنك جثة بشرية صالحة.

ربما أكون أطلت عليك، لكنى كشأن مئات الألوف من أبناء وطننا، تزوج ثم أنجب وفى الرحيل سنوات من العمر تمضى، عفواً عزيز المحرر، سأستخدم معك نمط البناء الهندسى فى حكايتى، فدعنى أعد بك إلى الوراء إلى مربط الفرس كما نقول فى وطننا، حيث أعوام قاربت العشرين قد مضت، فى ذلك الحى الطيب من مدينة تقع على خريطة الوطن، حى ومن الحى يتفرع شارع ضيق رحب ببساطة ناسه وحبهم لبعضهم، فى هذه البقعة الصغيرة والضيقة الكائنة على المعمورة، لا يوجد شيء سيكون محل سر، الأمور فى حارتنا مشاع، وفى ذلك المنحنى الزمنى كنت فى عامى النهائى بكلية الهندسة، عدت إلى الشارع عقب يوم طويل من المحاضرات النظرية ووقت قصير من التدريب فى شركة للمقاولات والبناء، كانت حارتنا على ما تبدو غير صاخبة وهو أمر غير معتاد لا لسكان شارعنا ولا لدوره البسيطة الواطية، كان الوجوم والتجمعات الدائرية أمام البيوت شارة وراية إنذار بأن ثمة خطباً فى المنطقة، كان سليم المجذوب يجوب حارتنا تعيساً على غير عادته يمسك بالصفيحة ويطرق عليها بقوة كأنما يعلن دق طبول الخطر الفضول للاقتراب من وليد الديب حلاق الشارع الذى ترك محله ووقف بوسط جمع من شباب فى عمرى.

خير يا وليد فى إيه؟

- كلام فى سرك «زهيرة اتفرقعت».

يا ساتر يارب إزاى وإمتى؟

ما أعرفه عن زهيرة أنها بنت سيدة تسمى رسمية، سيدة طيبة عجوز كان زوجها الحاج سعيد الفار، رجل مسكين أنهكه ارتشاح الكبد، عمل قهوجى، ولما أنهكه المرض حملته الست رسمية على رأسها وطافت به على الأطباء ثم توفى ودفن بمقابر الصدقة، لم تكن لى علاقة بالست رسمية إلا بجمل الصباح وأنا أمر من بيتنا عابراً الشارع، كانت تلتقط الطعام وتكوّمه فى كيس أو شيكارة كبيرة تطعم به الدجاج الذى تربيه وربما كانت هى تقتات عليه، ولزهيرة أخ صغير وقتها لم يكن يتجاوز الخامسة عشر من عمره. كانت الست رسمية قد رحلت هى الأخرى ودفنت بمقابر الصدقة، ولم يتبق فى شارعنا سوى زهيرة وأخيها بلبل. وكعادتى كنت بعيداً عن الأحداث بعيداً عن جمع الرجال الذين عقدوا جلسة بينهم ليعقدوا قران فطوطة على البنت اليتيمة التى ليس لها سند. ولا رجل يأخذ بحقها. ومرت على حادثة زهيرة سنة وربما سنتان، وأثناء نومى جاءت لى الست رسمية قالت لى.

    •    بشمهندس عماد.. وحق سيدنا النبى خد

بالك من القفل الإنجليزى.

لم يكن فى مخيلتى أى تصور للرؤى والأحلام، قلت فى نفسى إنها مكامن اللاوعى تخرج أثناء النوم، لم أفكر فى الأمر، لم يعنِنى ولا شغلنى أمر فطوطة ولا زهيرة ولا الست رسمية نفسها، تجاهلت الأمر، ثم جاءت لى الست رسمية مرة أخرى فى نومى، تصيدتنى، تبكى وجدتنى، متخوفاً منها فابتعدت، قالت:ِ«القفل الانجليزى يا بشمهندس هتسيبه لوحده يا ولداه».

هجرت الأمر برمته، قلت لنفسى لا أفهم معنى القفل الإنجليزى، وفى غربتى لتلك البلاد البعيدة والحارقة شمسها، تكرر المشهد فى نومى، كنت أعود من ساعات الدوام ميتاً لا منهكاً، أرقد على سرير فلا وقت للحديث لأمى أو زوجتى عبر جهاز أصم موصول بخيوط لا أراها، رأيت الست رسمية هناك، فى هذه البلاد، تسللت إلى نومى..

    •      إنت إيه اللى جابك هنا يا ست رسمية؟

    •      الأموات أرواح هايمة يابنى....لا تعرف حدود مكان ولا زمان. وصيتك على القفل الإنجليزى وأنت أهملت الوصية، أنا هاشتكيك لأبوك وأقوله إنك سبت القفل الإنجليزى.

بضعة أعقاب من السجائر وجدتها ملقاة جراء تدخينى الشره، وفى موقع العمل التقيت زميلى العجوز آدم النور مريود، صديقى السودانى والذى لا تفارق المسبحة يده، كان يتودد لى قائلاً أنت من مصر ومصر بلد الكرام وحاضنة آل البيت، تكرم عشان الجيرة يازول، وجدت نفسى مصمماً على أن ألقى ما فى رأسى لهذا الرجل هو فقط من سيفهم ما أقول ويفهمنى لغز الحلم، أخبرته وأنا بالموقع عن قصة الحلم والست رسمية والقفل الإنجليزى فرد:

- الأمانة ثقيلة يا زول.

- فهمنى يا عم آدم النور

- «المرة» يا زول جاتك توصيك على ولدها، والقفل الإنجليزى رمز وإشارة، الكون علامات وإشارات يا بشمهندس.

- لكن ليه اختارت لفظ القفل الإنجليزى يا عم آدم.

- لأن القفل الإنجليزى يا ابن النيل فى بلادكم غالى ثمنه.

- طيب وإيه الحل يا عم آدم النور؟

- لما تنزل مصر تشوفه وتسأل عليه..وتعطيه حقه من مالك وربنا يرزقك برزقه.

مر على كلام صديقى السودانى ستة أشهر، هى فترة عودتى للوطن، بحثت عن بلبل، نقبت عنه فى الشارع، كلما أسال سيدة أو رجلاً يقولون لى هجر الشارع وربنا يلطف بيه وبينا، وفى كل مرة أعود خائباً من رحلة البحث عنه، وفى ليلة ليست بعيدة، كنت عائدًا من جلسة أصدقاء، وجدت جسداً ملفوفاً ببطانية على رصيف شارع بيتنا القديم، دفعنى الفضول لأكشف وجه النائم كان النائم هو بلبل، بثيابه الرثة، شعره المنكوش، فاجأته برفع الغطاء فتفحصنى بنظرة مرعبة، قلت له:

إزيك يا بلبل.. . أنا قالب عليك الدنيا.

ضحك بلبل ضحكة جهورية مرتفعة جداً، ثم قطعها بجملته، لسه فاكر؟

إنت عارفنى يا بلبل؟

أيوه أنت المهندس عماد ابن الحاج خليل الحصرى الله يرحمه.

طيب إنت نايم ليه كده يا بلبل.

ما تفتش يا بشمهندس... سيب الملك للمالك. رسمية شكلها قلبت نافوخك.

طيب إنت جعان يابلبل؟...

سبنى أنام يا بشمهندس.... سيب القفل الإنجليزى يستريح.

إلى صاحب الرسالة البشمهندس عماد.

لا تبخل بجهدك ووقتك على القفل الإنجليزى، نقب عنه مرة أخرى وارسم البهجة على روحه، بلبل لا يحتاج منك سوى أن تستشعره بقلبك، بلبل هائم فى ملكوت الله، إذا بحثت عنه بصدق ستجده، وحينما تجده أهده منى سلاماً، سلاماً لتلك الروح الهائمة، قدم له الطعام وأحضر له ثياباً تستر عورته، هو لا يريد منك شيئاً سوى أن تحبه بقلبك وتمنحه بصدق هو سواح فى ملك الله. تأخرت كثيراً يا بشمهندس على صيانة القفل الإنجليزى، لكن أن تأتى متأخراً أفضل من ألا تأتى أبداً.