عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

بريد الوفد.. نصف قرص ترامادول

بوابة الوفد الإلكترونية

 

 

رنين متقطع لجرس المنبه على هاتفى، لا أعلم لمَ يحمل هذا اليوم أمراً غريبًا، متأهبا للاستيقاظ، بعض المفردات من ثياب أطفالى ملقاة على عجل فى أرضية المنزل؛ بداية يومهم الدراسى، النمط المتكرر لاستفتاح اليوم، البحث عن نظارتى الطبية، ومن ثم التجوال فى أنحاء المنزل منقبا عن علبة التبغ.

رنين جديد على الهاتف، هذه المرة أتوجه إليه كأنما صوت يدفعنى بالعجلة للرد، يظهر الرقم غريبا عن دفتر هاتفى، لا يحمل اسما أو هوية أعرفها.يأتى الصوت من مكان أجهله، صوت أنثوى محمل بحزن من نوع مختلف، صوت به من الألم ما يسمح للأذن أن تتيقن من وجوده، صوت به شرخ من نوع واضح، لكنه الصوت يأتينى، تخبرنى صاحبته فى البدء أنها «أمنية» صاحبة رسالة تود كتابتها للباب الذى أقدمه، صاحبة معضلة من نوع مختلف، والاختلاف أيضاً فى تلقى رسالتها، قالت: «لتكن رسالتى ليست من قارئة تبث حروفا لك عبر الافتراض عن حدوتة إنسانية، أريد أن أبث رسالتى لك وجها لوجه، أنت لا تعرفنى، لكنى حاولت التعبير بالشكل الكتابى وأخفقت، جربت مرارا لكنى لم أنجح، ربما كان ما أحمله من حكاية بحاجة إلى الحديث بلا ترتيب أو تنظيم، أود لقياك وجها لوجه، ربما تتساءل عزيزى المحرر وكيف حصلت على رقم هاتفك، سأخبرك حين نلتقى.....».

ما سر ذلك السلام الذى تحياه مدينتى فى الظهيرة، ذلك السلام الذى احتوانى طفلا، والذى عجزت عن التنقيب عنه فى القاهرة، تلك المدينة القاسية على القلب والروح، مدينتى ونواتها الأولى منبت السلام ومركز إشعاع طمأنينة الروح، حيث مقام «صاحب اللثام» النواة المركزية لذلك الدفء وتلك السكينة التى تهبط برداً على قلبى، مسجد وميدان شيخ العرب كما يلقبه الوافدون وزائرو طنطا، طنطا الأليفة والحانية، تأهبت للقاء تلك الوافدة، حيث المقهى الأحمدى، لنلتقى أنا والوافدة صاحبة الصوت المشروخ بجواره. مزيد من الفضول الإنسانى يتسلل إلى نفسى حول هويتها وكيف حصلت على رقم هاتفى، لكنى لا أخفيك سرا عزيزى القارئ أننى فى ذلك الحيز الجغرافى داخل نطاق الكرة الأرضية يغمرنى سلام يعزلنى عن كل التساؤلات، بت فى البدء متأهبا للقاء ثم سرت لحظة خاطفة تجعلنى أتأمل فنجان قهوتى بروية ثم أتذوقه، مستمتعا ومنسجما بوجودى داخل حيز تلك اللوحة.

عين متيقظة وروح مرحة، هكذا بدت لى متوقفة أمامى، قالت: «أنا أعرفك لكنك بالتأكيد لا تعرفنى، أنا أمنية»، سحبت كرسى مجاورا ثم جلست مواجهة لى، نصف دقيقة من الصمت محاولا تأمل ملامحها، طلبت كوبا من الماء، ثم أرادت قهوة، وبررت طلبها أنها تود أن تكون متيقظة فى كل كلمة، لأنها لم تنم ليلتها الماضية، وتود أن تبدأ بلا مقدمات عن هويتها هى، عللت ذلك أنها أتت للحديث للبحث عن حل، أو ربما مسكن لذلك الألم الذى يتسلل إليها، بدا الوجه الذى كان مرحا وقد كسته مسحة من حزن قاتم، كلمة فعين غطتها سحابة من الدمع، بانت الملامح ذابلة، واهنة، غائبة، محاولا الثبات لتملك فعل التركيز... كانت الجملة الأولى لها هى: «نصف قرص ترامادول» وجدتنى منتبها ومتحفزا وبلا وعى أقول: «نعم».

القصة لا تخصنى وتخصنى فى الوقت نفسه، القصة قصة صديقة لا أود الإفصاح عن اسمها، هى الآن فى دار الحق، لا تحيا معنا، ومن قواعد النبل الإنسانى أن نستر عباد الله.

قلت لمحدثتى: «إن الموت يغيب المشكلة، المشكلة مثل فيروس الكبد، أثناء حياة الإنسان ينهش الفيروس فى كبد ابن آدم وعقب خروج الروح لخالقها، يموت ذلك الفيروس، وتنتهى المشكلة».

ترد «أمنية»: «ربما يكون تنظيرك للمشكلة صحيحا لكن هناك تبعات، لكى تتبعها لزاما عليك تتبع تاريخ المشكلة، المشكلة هى نصف قرص ترامادول».

أرد فى هدوء مفتعل: لا أفهم تحديدا ما علاقة ما ذكرتِه بجملتك التى تكررينها.

شهيق، يعقبه انسكاب لماء العين، تبدو محدثتى أمنية هذه المرة مستسلمة للألم والذكرى، تخرج صورة على هاتفها الجوال، تقول هذه هى صديقتى التى رحلت، انظر لها، رحلت منذ نصف عام، أليست حلوة، ألم يكن الموت عجولا فى اختطافها، الموت اختطفها وترك من نبتها أثرا.

صورة لسيدة مقبلة على الحياة، الصورة داخل منطقة أهرامات الجيزة، محدثتى وصاحبة الصورة الراحلة، متشابكتَى الأيدى فى صورة تذكارية، بهجة من القلب علت وجه السيدتين، مرح داخلى ينبئ بحياة بها من البهجة والإقبال، أتأمل محدثتى، وقد استسلمت لموجة من التذكار والحنين والألم. تلتفت عينى لباب المسجد المفتوح للمنكسرة قلوبهم، أتلاشى النظر فى عينها مخافة إحداث حرج أو ألم. لكنى أبادر بجملة أشبه بأقراص المسكن أقول لها: «الموت هو الحقيقة المتفردة والمادية الملموسة لنا.. البدايات دوما ما تكون مؤلمة، لكن هناك نعمة أنعم الله بها على عباده اسمها النسيان، والربط على القلب».

تقول محدثتى: «المشكل ليس فى الفراق، المشكل فى بدايات الفراق، حين ترى إنسانا يذبل كعود ريحان وأن تقف أمامه متسماً بالعجز وقلة الحيلة غير قادرعلى إمداده بالحياة، المشكلة فى ربع قرص ترامادول، ثم زادت الجرعة لنصف قرص، هل تعلم أن صاحبة الصورة التى لا أريدك أن تعرف اسمها كانت معلمة تربية موسيقية، كانت تعزف الكمان، فكنا جميعا نلتف حولها ونستمع فنطرب، أتعرف كيف كانت البداية».

وتستكمل محدثتى: «البداية حين أراد زوجها تجربة من نوع مختلف، أعطاها ربع قرص ترامادول بحجة أن لهذا الربع مفعول السحر، لعلنى أتذكر يومها حالة راحلتنا، اتصلت بى أخبرتنى أنها استطاعت قلب شقتها رأسا على عقب دون إحساس بالتعب، لكنها أخفت علىّ سر نشاطها الزائد، وفى الصباح التقيتها عصرا لم تستطع القدوم لعملها بالمدرسة، كانت جثة غير قادرة على الحركة، وظلت تخفى سرها عنى، ما أذكره أنها كانت كارهة لرائحة التدخين، لكن بعد مرور أيام وأيام، وأثناء زيارتى لها وجدتها تدخن، وفى ذلك اليوم أخبرتنى، كان قد مر على واقعتها الأولى قرابة ثلاثة أشهر، أخبرتنى فى هذا اليوم أن هناك أمورا فى الحياة لم تكن على علم بها، لكنها جربتها، تذكرت مقالك ولا أذكر عنوانه حين ذكرت مرة أن الفضول الإنسانى هو بداية الانزلاق لفعل الخطيئة».

هل تعلم يا أستاذ أنها لم تكن مقدمة على الأمر بفعل الفضول كان هناك فاعل هو من قام بفعل الدفع للفضول، لم يكتف الفاعل زوجها والقاتل الفعلى لروحها بربع حبة ترامادول، كان هناك فضول لمخدر من نوع جديد دخلت راحلتنا إلى عالمه، عالم الكيف، بدأت باستنشاق الحشيش فى سيجارة زوجها، حكت لى بعدها عن ليلة صاخبة، ليلة قضتها لم تكن تتعرف على نفسها إلا فى هذه الليلة، غجرية من نوع مختلف، جواد أتيح له فرصة الصهيل والجموح بلا أدنى قيود، وكان الزوج فى هذه الحالة قد بلغ ذروة نشوته، شهر آخر يمر، لكننا جميعا حرمنا من عزف راحلتنا، سألناها عن آلة الكمان الخاصة بها، فى البداية أخبرتنا أن وترا قد تلف بها فغابت الآلة بحجة الإصلاح، ثم مع الأيام تبينت أنها باعت آلة الكمان التى كانت تسميها «زبيدة» وكانت تحتفى بها فى عالمها كابنة ثانية لها، أهملت صديقتى الراحلة كل شىء، دفتر الحضور والغياب فى العمل، وكنت متوقفة أمامها محاولة إيجاد حلول للمشكلة، ويبدو أنى استفقت متأخرة أو أتيت متأخرة، حيث كشفت صديقتى عن كم من الديون أثقل ظهرها، لأنها أرادت أن تأتى بمسحوق النشوة بشكل مستمر، وتجاوزت جرعتها من ربع حبة ترامادول إلى نصف حبة إلى حبة، ثم كانت المأساة فى شريط كامل تستحلبه يوميا مصحوبا بتدخين أكثر من علبة سجاير. وجراء تراكم الديون والإدمان، كانت «ضحى» فتاتها الصغرى تذبل مع ذبول أمها، فتاة صغرى فى المرحلة الابتدائية، تحديدا فى الصف الثالث الإبتدائى، كانت ضحى والكمان هما ركيزتا الحياة لصاحبتى وصاحبة القصة التى أرويها لك الآن، وقبل رحيل رفيقتى بشهر، كنت قد قررت الانتقال من صف الصديقة المتفرجة إلى صف المنقذ، قررت الحجز عند طبيب متخصص واصطحبتها هناك، كانت تأتى على مضض، واتفقنا إلى تقليل الجرعة فى كل شىء حتى التدخين، ووصل الأمر أننى كنت أحتفظ بعلبة سجائرها وأقرر لها قدر التدخين بحسب نصيحة الطبيب، لكن قبل الوفاة ببضعة أيام كان لرفيقتى طلب غريب: قالت لى.. يا أمنية إذا مت لا تجعلى ضحى ترى

جسدى بعد فراق الروح، ولى طلب آخر لا تجعلى أسرتى تدفننى فى الليل، أطلبى منهم أن يدفنونى نهارا، لا أريد أن يتركونى لوحدتى والليل».

أتعلم لما أتيت لمحادثتك الآن؟!.. لأننى رأيت ضحى قبل أمس، رأيتها ولم أكد أعرفها، رأيتها فتاة غير تلك التى أعرفها، فتاة رثة الثياب والشكل والشعر، رأيت فى عينيها ملامح رفيقتى تؤنبنى كونى خذلتها فى وصيتها الأولى والثانية، وصيتها الأولى حين طلبت من زوجها ألا يدفنها ليلا ودفنها بعد أن ضرب بكلامى عرض الحائط، ثم وصيتها الثانية حين أهملت طفلتها ولم أداوم فى السؤال عليها، لقد تبادر إلى ذهنى فكرة أن أحتفظ بالفتاة الصغرى أربيها مع أولادى وقد اتفقت أمى معى أن تعتنى بها، لكن ليت كل ما يتمناه المرء يدركه فقد رفض أبوها طلبى رغم إهماله الواضح لها، ضحى الآن متنقلة فى المعيشة بين جدتها لأمها وجدتها لأبيها ثم إلى حياة أبيها مع زوجته الجديدة.

تختتم محدثتى حديثها ولم يتوقف ذلك النهر عن دفق مائه، نهران من دموع محدثتى يسكبان ماءهما فى صمت.

كان الوقت مؤشراً لأن أتحدث، مرات كثيرة تكون مالحة فى فمنا الأحرف، لكننى وجدتنى أحادثها بلا حضور للعقل، أحادثها كأنما أستوقف الصغيرة ضحى لطيمة الأم أمامى، وربما أكون قد خيلت لنفسى أننى استحضرت مقعدا وأجلستها لجوارى، فكانت الجلسة تضم ثلاثتنا.

 

إلى صاحبة الرسالة

قلت للسيدة التى تجلس أمامى وقد غيبها الحزن والحنين والتذكار: سأخبرك عن رجل اسمه عم «محمد الوصيف» رحمه الله، كان فى منتصف العقد السادس من عمره، وكنت أصاحبه، كان هذا الرجل يئن من مفعول الألم فى صمت، رجل لقبه الله بالكلالة، لأنه بلا زوجة ولا ولد، وكنت قد اتفقت مع نفسى أن أؤدى فى الحياة مهمة ابنه، لكن الحق أقول إننى لم أكن حمل هذه المسئولية ولم أكن متقنا ولا متفانيا لها، فقد قصرت فى كثير من الأمور، صاحبت هذا الرجل، أو شئتِ أن تقولى إن القدر ألقانى فى طريقه، فصاحبنى هو، علمت بمرضه فى أواخر أيامه، لم يشتك يوما، كان يقول لى دائما: «الله رب العباد جميل.. وكل ما يكتبه على المخاليق جميل». كان يتألم فى صمت ويفتك به الألم وهو فى حالة من الرضا والسلام مع الله.

كنت شغوفا لأن أقدم له شيئا يخفف من ألمه، لكنه علمنى فى مصاحبتى له، أن النفس البشرية لها من الطاقة ما تتحمله، وأن هناك ما لا نتحمله، مثلا إذا افترضنا أنك لا تستطيعين السباحة ووجدتى شخصا يستغيث من الغرق، فهل من البسالة أن تقفزى فى النهر لنجدته؟..طاقتك البشرية لا ولن تستطيع أن تقدم له شيئا ولكن ربما يكون هناك حل آخر دون أن تلقى بنفسك فى النهر، كما أن جلد الذات إذا لم يكن محملا بنتيجة فإن هذا الجلد يكون بمثابة الاستنزاف الروحى، وقد ذكرتِ لى أن لك أطفالا بحاجة لتفرغى روحيا لهم كى تستطيعى أن تمنحيهم لأن فاقد السلام لا يستطيع منحه.

علمنى عم محمد أن الكون موضوع على ميزان شديد الحساسية وأن الله جل جلاله قدر كل شىء تقديرا وبقدر، وأن كل شىء بسبب ولسبب، وأخبرنى فى تعاليمه لى، أن هناك مهمة للإنسان، هذه المهمة مشروطة ومحددة، وكل إنسان وفق طاقته دون أن يظلم نفسه، المهمة تقتضى أن يقوم بها الإنسان دون زيادة منه أو تدخل بهدف تجويد وتحسين المهمة، وأن علينا دائما تذكار الفعل القدرى الذى يقدره مالك الكون والمخلوقات، علمنى عم محمد أن ما نقدمه من مساعدة للآخرين هو مساعدة منقوصة لأن رب الناس هو أرحم بعباده منا جميعا، وربما تسأليننى الآن سيدتى ما علاقة ما ذكرته أنتِ بما أذكره أنا لك؟

ما ذكرته لك أنا هو الإطار العام والفلسفى للرجل الزاهد عم محمد الوصيف، وما ذكرته انت هو الإطار الجزئى فى نظرية ذلك الرجل الصالح الذى رحل عن عالمنا، تستطيعين أن تساعدى ضحى، لكن دون أن تغفلى أو تتناسى تواجد الرحمة الإلهية ومفعولها، ولكن هل يعنى كلامى أن نتكاسل عن مساعدة الآخرين بحجة أن الرحمة الإلهية هى من تكفلهم؟، إن الرحمة الإلهية تتجلى فينا حين نقدم مساعدة فعلية، لكن شريطة أن تتيقنى أن هذه المساعدة التى تقدمينها هى دائرة دون وعى منك فى فلك الحركة القدرية، تستطيعين أن تساعدى الصغيرة ضحى وتنفذى وصية أمها رحمها الله، أن تلتقيها مع أطفالك كل أسبوع ليوم أو يومين، تكونى لها خالة حقيقية وتقدمى لها من التربية ما تستطيعين تقديمه، تؤثرى فيها بفعل التربية بما أنك تمتهنين مهنة التربية. تستطيعين أيضاً أن تقدمى لرفيقتك الراحلة أم ضحى هدية فى عالمها البرزخى، علمنى عم محمد أن إطعام المسكين هدية تفرح رب العباد، فكرى فى أن تطعمى مساكين وتهدى هذا الإطعام لروحها، فكرى أن تلتقى دائنى والدة ضحى وتطلبى منهم أن يتسامحوا فى دين الراحلة. علمى طفلتها مفهوم التربية بقدر استطاعتك فتكون هذه أثمن طريقة للحفاظ على وصيتها لك.

صوت رخيم ينطلق من مسجد سيدى أحمد البدوى، ارتفاع نبرته بقول المؤذن «الله أكبر الله أكبر».. أحد الدراويش يجرى متجها فرحا بصوت طفولى، «يا عم يا بدوى يا منجد العيان وصرخة المنضام»، ابتسامة تنبت فى روحى، عطر ريحان يفوح من النبتة، متأملا قبة صاحب المقام وصدى أذان العصر يلفنى ويلف محدثتى وزوار شيخ العرب بتغريدة بها من السلام النفسى ما لا تدركه ولا تستوعبه العبارة.