هل ترتد مصر لعهد «الميليشيات» الحزبية؟!
عرفت مصر على عهد نظامها الملكى قبل ثورة 23 يوليو 1952 حياة سياسية دستورية قوامها التعددية الحزبية السياسية وبعض الجماعات التى كانت تعمل بالسياسة وأبرزها جماعة الإخوان المسلمين، التى اختارت أن تظل «جماعة دعوية» وتصر على هذه التسمية،
وهى غارقة فى العمل السياسى وربما أشد نشاطاً من بعض الأحزاب السياسية، وفى تلك المرحلة التاريخية كانت الأحزاب تؤلف الوزارات بعد إجراء الانتخابات العامة، واستقرار العضوية للأطياف السياسية المختلفة فى مجلسى الشيوخ والنواب، وعندما كانت المعارك السياسية تحتدم بين الأحزاب فى تلك المرحلة، نجد أن بعض الأحزاب قد لجأ إلى تشكيل فرق من الشباب المنضمين إلى هذه الأحزاب عبارة عن «ميليشيات» مسلحة بالهراوات والعصى والسلاح الأبيض مثل فرق «القمصان الزرق» و«القمصان السود» و«القمصان الخضر»، إلى آخر القائمة التى تحكيها لنا كتب التاريخ عن تلك الفترة، ومع تشكيلات «الميليشيات» المعلنة كانت هناك قوة من الميليشيات الضاربة التى تعمل سراً وتقوم بين حين وآخر ببعض الاغتيالات، ولكن هذه الميليشيات السرية لم من مقصورة على حزب أو جماعة بعينها، بل هى عبارة عن حركة شاعت وانتشرت ولاقت مصر منها الأمرين وقتذاك.
وعندما اندلعت ثورة 23 يوليو 1952، كان قادتها يملكون خريطة واضحة لمواضع القوة والضعف فى هذه الأحزاب والجماعات المسيطرة، ولا سيما أن بعضاً من قادة حركة الضباط الأحرار كانوا أعضاء فى هذه الأحزاب والجماعات وخاصة فى جماعة الإخوان المسلمين و«مصر الفتاة»، وقد لجأت سلطة 23 يوليو 1952 إلى حيلة ذكية انطلت على سائر أحزاب مصر فى تلك الفترة عندما طالبت السلطة الأحزاب بتطهير نفسها!، وقد ذكرت الكتب التاريخية المختلفة أن أهم ما بدا فى «حركة التطهير الذاتية الحزبية» أن بعضها قد شهد نوعاً من البلاغات لمجلس قيادة الثورة عن الأعضاء الذين ينبغى تطهير الأحزاب منهم! ويرى البعض من المؤرخين أن إقدام الأحزاب على تطهير نفسها قد شجع مجلس قيادة الثورة على اللجوء إلى حل الأحزاب وأيلولة أموالها ومقارها إلى الدولة، مع اعتقال أبرز الرموز والزعامات الحزبية، ولم يبق غير جماعة الإخوان المسلمين بغير حل لأنها لم تكن حزباً، ولكن الجماعة وضعت تحت رقابة شديدة، كما شهدت هذه الجماعة ملاينة واضحة من سلطة الثورة، وبعد ذلك كان هناك الكثير من الشد والجذب، انتهت بمحاولة اغتيال جمال عبدالناصر فى ميدان المنشية بالإسكندرية عام 1954، والتى جرت فى أعقابها حملة اعتقالات واسعة لأبرز رموز الإخوان، بعد محاكمات للبعض انتهت إلى أحكام بالإعدام على ستة من قياداتها وبعد ذلك حظر نشاط الجماعة ومطاردة أعضائها لتستوعبهم المعتقلات المختلفة، وظل هذا هو مسلك النظام الحاكم فى مختلف عهوده من عبدالناصر إلى السادات إلى مبارك، وظلت الجماعة «محظورة» ومحرماً عليها الاشتغال بالسياسة أو تشكيل الأحزاب باعتبار أنه لا يجوز قيام أحزاب على أساس دينى!
ولا يستثنى من هذا «النظام الصارم المبدئى» غير فترة
وانحاز العهد الجديد لفكر استحقاق الإخوان المسلمين وأشياعها من الجماعات السلفية لأن تكون لها شراكة فى العمل السياسى بشرط أن يكون لها حزبها السياسى، فكان ظهور حزب «الحرية والعدالة» ذراعاً سياسية لجماعة الإخوان، وبإعلان أن الجماعة تترك لحزبها أن يمارس العمل السياسى بعيداً عن العمل الدعوى الذى كان الشرط المعلن لبقائها «جماعة دعوية» لها حزبها السياسى المستقل!، وهو الأمر الذى راحت الأحداث التالية تؤكد أن الجماعة وحزبها السياسى شىء واحد!، وإذا بالجماعة وحزبها يرتدان إلى الوراء لأكثر من نصف قرن!، فهى قد اعتبرت أغلبيتها فى الانتخابات هى القوة الضاغطة التى يمكن أن تكون جماهيرها فى الشارع المصرى!، تملؤه فى الوقت الذى تراه مناسباً من وجهة نظرها لمعركة مقاومة التيارات الليبرالية والعلمانية، والتصدى لمعارضة بعض سياسات الرئيس الإخوانى!، وها هى مصر ترتد مع الجماعة وحزبها إلى مخاطر شنيعة تهدد الحياة السياسية العامة التى أرادت لها جماهير الثورة أن تكون ديمقراطية سلمية لا تعرف ضغوط الميليشيات ولا عنفها!.