رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عبد المنعم سعيد يكتب : مريم المنصوري!

بوابة الوفد الإلكترونية

ربما يكون في الأمر منعطف تاريخي، لحظة بارقة موحية ليس بمجرد حدث، وإنما كاشفة لتغيير كبير. خبر قيام رائد طيار مريم المنصوري بقيادة سرب قاذفات «إف - 16» لقصف مواقع تنظيم داعش الإرهابي، يذكر بلحظات فارقة أخرى في التاريخ العربي الحديث.

في يوم ما من أيام ثورة 1919 المصرية خرجت هدى شعراوي لكي تقود مظاهرات ضد الاحتلال البريطاني لمصر. لم يكن الخروج ساعتها مجرد تعبير عن شعور وطني، ومشاركة في دعوة للاستقلال، أو بلورة لحالة جديدة من النهوض للأمة المصرية، وإنما كان إعلانا عن أن المرأة، نصف المجتمع، هي الأخرى «مواطنة» ينطبق عليها ما ينطبق على كل المواطنين الآخرين من حقوق وواجبات. كان الظهور الذي سجلته الصورة تتويجا لمسيرة طويلة بدأت بما كانت تفعله الدول المتحضرة بتعليم «البنات»، وهو ما بدأ في مصر في ستينات القرن التاسع عشر، فكانت النتيجة ليس فقط وجود مجتمع نسائي متعلم ومتواصل مع الحداثة، وإنما أيضا فاعل في المجتمع من خلال جمعيات أهلية تشارك في ترقية الجماعة المصرية. كان ذلك في مجموعه عصرا جديدا، يخرج بمصر، ومن بعدها المنطقة كلها، من عصر «الحريم» العثماني إلى العصر الحديث بمنجزاته كلها العلمية والتكنولوجية، والأهم الاجتماعية التي يكون فيها لكل إنسان، رجلا كان أو امرأة، قدر ونصيب.
إذا كان ذلك ما فعلته «هدى شعراوي» فإن السيدة التي تلتها كانت «جميلة بوحيرد» في خمسينات القرن الماضي، حينما كان النضال العربي من أجل الاستقلال قد بلغ ذروته. مصر كانت توا قد خرجت من حرب بورسعيد عام 1956، ودخلت الجزائر في حرب تحرير كبرى ضد فرنسا التي لم تكن دولة استعمارية فحسب، وإنما كانت دولة استيطانية كذلك حينما اعتبرت الجزائر جزءا من الدولة الفرنسية. قامت حرب الاستقلال في بلد صار معروفا بعد ذلك ببلد المليون شهيد، أيامها كنا نخرج من مدارسنا في المظاهرات لتأييد ذلك النضال الأسطوري حينما تتابعت صور البطولة والفداء. ومن بين مليون وجه، ظهرت «جميلة بوحريد» جنبا إلى جنب مع «بن بيلا» ممثلين للثورة الجزائرية، والعصر العربي الجديد الذي يكون فيه الرجال والنساء على استعداد للتضحية بالحياة نفسها. وربما كانت الأجيال الجديدة ليست على علم بالقصة، واعتقال جميلة بوحيرد في واحدة من العمليات الكفاحية، وعندما تم اعتقالها جرى تعذيبها ومحاكمتها لكي تعترف على رفاقها، لكنها صمدت وتحملت الاعتقال والسجن حتى خرجت بعد الاستقلال. كانت السيدة باختصار عنوانا لمرحلة التحرر والاستقلال عن الدول الاستعمارية في مغرب العالم العربي وشرقه.
مريم المنصوري ربما تحكي عن قصة ثالثة جديدة تعبر عن جيلها من ناحية، واللحظة التاريخية التي نعيشها من ناحية أخرى، وعن بلدها دولة الإمارات العربية المتحدة من ناحية ثالثة. الجيل العربي الجديد استيقظ وعيه على لحظة بدا فيها أن الاستقلال والتحرر يمكن سرقتهما مرة أخرى، ليس لصالح الدول الاستعمارية أو عدو خارجي من نوعية أو أخرى، وإنما من الداخل حيث تجتمع قوى الجهالة والبربرية على الدولة العربية تفتتها، وتأخذها عنوة وبحد السيف والعنف والتطرف إلى عصور مظلمة. فلم تمض سنوات قليلة على ظهور هدى شعراوي حتى جاء حسن البنا بأفكاره محاولا إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وبعد 80 سنة من «الدعوة» استطاع أتباعه الاستيلاء على السلطة في مصر والسودان وليبيا واليمن، وباتوا مهددين لها في دول عربية أخرى. لم يكن الإسلام هو القضية كما جرى الادعاء، لأن كل هذه الدول عرفت الإسلام كما شرعه رب السماوات والأرض رحبا وسطيا سمحا عادلا ومعتدلا؛ وليس متشددا وحرفيا ومنغلقا ومتطرفا وعنيفا. ومن عباءة «الإخوان» جاءت تنظيمات ومظلات كثيرة أخذت ما بدأه «الإخوان» إلى مستويات أعلى من البربرية، كما جاء من تنظيم القاعدة ومن بعده وليده تنظيم داعش. كل هذه التنظيمات يجمعها عداء ومقت وكراهية لكل ما

يتعلق بالدولة العربية الحديثة، وأهم ما فيها المرأة العربية. فرغم كل الادعاءات التي تأتي من «الإخوان» وتوابعهم، فإن نظرتهم إلى المرأة في جوهرها ما يخرج من إطار الإنسانية إلى عصر الجواري والحريم مهما تعلمت المرأة، أو أجادت وأبدعت.
مريم المنصوري مثلت لطمة كبيرة لتنظيم «داعش» وكل ما يروجه عن المرأة والدولة والمجتمع. فهي قائد سرب تقود رجالا في عملية عسكرية حربية من الطراز الأول، ولمن لا يعلم فإن تخريج قائد لطائرة، فضلا عن كونها حربية، يحتاج نوعيات خاصة من البشر يكون توازنهم النفسي والعصبي ولياقتهم البدنية والعقلية في أعلى درجاتها، لأن عليهم التعامل مع سرعات وحسابات دقيقة واتصالات تنقسم إلى درجات أقل من الثانية. هنا يكون تجسيد «المساواة» في أنقى صورها وفي أشد لحظاتها حرجا ودقة. هي في هذه الحالة رمز لجيل جديد من النساء العرب، فتيات وشابات ومسنات، لم يجعل خروجه إلى ساحة العمل والكفاح من أجل الوطن مجرد كفاية، وإنما بداية لاختراق سماوات جديدة في العلم والتكنولوجيا والكفاءة القتالية. هذا الجيل رفض تماما الابتزاز الديني الذي حاولته جماعات استخدمت الدين مطية لاستعباد نصف المجتمع من ناحية، وإخضاع نصفه الثاني باسم السمع والطاعة من ناحية أخرى.
هل لدولة الإمارات العربية المتحدة يد في ذلك؟ أظن ذلك صحيحا. لقد تعودنا في ساحة المثقفين والإعلاميين توجيه النقد لكل الدول العربية بلا استثناء لأنها لا تفعل، وإذا فعلت وجدناها مقصرة في الفعل. ذلك هو الواجب، وأحيانا ما يكون هو الوظيفة، لكن حالتنا هذه تحتاج وقفة، لأن لحظة مريم المنصوري ربما تكون فارقة. فلم يكن ممكنا إنتاج هذه النوعية الجديدة من الجيل العربي الحديث إلا إذا جرى التغيير الجذري في الدولة نفسها، ليس فقط لكي تقبل للنساء دورا في الحياة العامة بالوظيفة أو الإنتاج، وإنما أيضا بالقيادة والقتال بعد تدريب وتعليم واستعداد. فما يتغير هنا ليس دور المرأة فقط، ولكن معها أسرتها التي تؤيد وتشجع، والمجتمع كله الذي يقبل ويؤهل، والرجال الذين عليهم خوض عملية تأهيل لقبول أوضاع جديدة شجاعة ونبيلة. مريم المنصوري قدمت مثلا جديدا، فإذا كان شباب من الرجال والنساء في مصر قد خرجوا من أجل إسقاط حكم «الإخوان»، فإنها مع زملائها ذهبوا إلى «داعش» في عقر داره لتدميره ومنعه من القيام بعمليات القتل والذبح والترويع لمدن وقرى عربية وكردية، وببساطة إنقاذ الشرف العربي والإسلامي من فضيحة عالمية عندما تبث الجماعة الإجرامية فيديوهات تذبح فيها الأسرى وتقتل الصحافيين وتضطهد الأقليات.
نقلا عن صحيفة الشرق الاوسط